لم يمنع عمر إذن قريشا من أن تكسب المال؛ فلم يكن له إلى ذلك سبيل، ولكنه استيقن أن الأغنياء يكسبون من المال أكثر مما ينبغي لهم أن يكسبوا؛ ولذلك قال في آخر حياته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» وقد روي أن أهل المدينة أصبحوا ذات يوم فسمعوا رجة عظيمة، فسألت عائشة عن هذه الرجة، فقيل لها: إنما هي عير لعبد الرحمن بن عوف قد أقبلت وعليها تجارة له. قالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت ولم يكد.» فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: هي وما عليها صدقة. قال الرواة: وكان ما عليها أفضل منها. وكانت العير خمسمائة راحلة.
2
وتحدث ابن سعد عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «يابن عوف، إنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفا، فأقرض الله يطلق لك قدميك. قال ابن عوف: وما الذي أقرض الله يا رسول الله؟ قال: تبدأ بما أمسيت فيه. قال: أمن كله أجمع يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك، فأرسل إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقال: إن جبريل قال: مر ابن عوف فليضف الضيف، وليطعم المسكين، وليعط السائل ويبدأ بمن يعول؛ فإنه إذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه.»
3
هذه كانت ثروة عبد الرحمن أيام النبي، وقد زادت أضعافا مضاعفة بعد النبي بالتثمير والتوسع فيه من جهة، وبما أفاء الله على المسلمين من جهة أخرى. وقيل: إنه أوصى في سبيل الله بخمسين ألف دينار ذهبا، وترك ميراثا عظيما، فكان له ألف بعير وثلاثة آلاف شاة، وكان يزرع في الجرف على عشرين ناضحا. وترك أربع زوجات، فكان نصيب كل واحدة منهن من الثمن يقوم بما بين الثمانين ألفا إلى مائة ألف. قال الرواة: وترك عبد الرحمن ذهبا قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه. ولم يكن عبد الرحمن فذا في ذلك، وإنما كان أمره فيه كأمر غيره من كبار الصحابة وسادة قريش. فلما أحدث عثمان هذا الانقلاب الاقتصادي أتاح لهؤلاء الأغنياء أن يوظفوا أموالهم، فأصبحوا رجال مال وأعمال معا. وما هي إلا أن تنشأ الملكيات الضخمة كما قلنا ، ويحدث في أول صدر الإسلام ما حدث في آخر الجمهورية الرومانية من هذه «اللاتيفونديا» التي أضاعت الجمهورية. فاللاتيفونديا التي أضاعت الجمهورية الرومانية هي بعينها التي أضاعت الخلافة الإسلامية؛ ملكت قلة قليلة من الرومانيين أرض إيطاليا، فانقطع الناس إليها وأصبحوا أحزابا وشيعا؛ وملكت قلة قليلة من المسلمين أرض الأقاليم، فانقطع الناس إليها وانقسموا بينها شيعا وأحزابا. ونتيجة هذا كله أن هذا النظام الذي استحدثه عثمان عن رأيه هو، أو عن رأي مشيريه، لم تكن له نتائجه السياسية وحدها، من نشأة هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغنى، التي استهوت الناس وفرقتهم أحزابا وتنازعت السلطان فيما بينها بفضل هذه التفرقة. وإنما كانت له نتائجه الاجتماعية أيضا؛ فقد بلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب، فوجدت طبقة الأرستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون على مرافق هؤلاء السادة، ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب، الذين كانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون على العدو، ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء. وهذه الطبقة المتوسطة هي التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا وأحزابا. والذي يتتبع تاريخ المسلمين يلاحظ أن الصراع الأول إنما كان بين الأغنياء ثم بين هذه الطبقة الوسطى وهؤلاء الأغنياء. فأما الطبقة الثالثة؛ طبقة العاملين في الأرض والقائمين على المرافق المختلفة، فلم يظهر أمرها إلا بعد ذلك، ولها قصة أخرى.
صفحة غير معروفة