وليس لهذا معنى إلا أن الوليد قد خفض جناحه للعامة، ووطئ الخاصة وطئا شديدا. ولو قد سار الوليد في ذلك سيرة عمر لما أنكر عليه منه شيء. فقد كان عمر يرفق بالعامة ويغلظ على الخاصة؛ يقاوم في هذه الخاصة نزعتها إلى الأثرة واحتفاظها بالعصبية الجاهلية وطموحها إلى الاستعلاء. وما أرى الوليد ذهب إلى شيء من ذلك، وإنما طاولته الأرستقراطية فطاولها، وقاومته فقاومها، ودخل بينها وبين رقيقها من العبيد والإماء.
ومهما يكن من شيء فقد عزل الوليد وذوو الرأي في الكوفة ضيقون به ساخطون عليه، يبغضه السادة لما قدمنا من تنكره لهم ومقاومته إياهم ومحاولته أن يفسد عليهم رقيقهم. وينكره القراء وأصحاب الصلاح والفقه لسيرته تلك الجاهلية التي لم تخل من عبث ومجون وتعد لحدود الله.
الفصل الثامن
وقد وفق عثمان حين عزل الوليد ولم يتشدد في استبقائه، وحين أقام عليه الحد ولم يحمه، ولكنه كان خليقا أن يرد أمر الكوفة إلى رجل من أصحاب النبي وأهل الكفاية من المهاجرين والأنصار، ولو قد فعل ذلك لاستصلح هذا المصر ولم يدفع أهله عامة في الفرقة والخلاف. ولكنه عزل عن أهل الكوفة رجلا من آل أبي معيط، وأرسل إليهم رجلا من بني أمية، وقد حذره عمر من أن يحمل أولئك وهؤلاء على رقاب الناس. وما من شك في أن أهل الكوفة كانوا يعلمون بما تقدم فيه عمر إلى عثمان من ذلك. وهم بعد قد عرفوا من أصحاب النبي نفرا صالحين رضوا عن سيرتهم وأحبوا حكمهم. وقد تبين لعثمان أنهم ضاقوا بالوليد بن عقبة بعد سعد بن أبي وقاص، وقد كان خليقا أن يرسل إليهم رجالا في منزلة سعد لا في منزلة الوليد.
وكان سعيد بن العاص فتى من فتيان بني أمية، معتدلا مستقيم الخلق، أبلى فأحسن البلاء في فتح الشام، كما أبلى بنو أبيه فأحسنوا البلاء أيضا. وقد كان عثمان يربيه ويرعاه قبل أن يستخلف. وسأل عنه عمر حين كان يتفقد قريشا فأنبئ بأنه عند معاوية، وبأنه مريض مشرف على الموت، فأرسل إلى معاوية في أن يحمله إليه في رفق وعناية. ولم يكد الفتى يبلغ المدينة حتى استرد قوة وصحة وعافية. وقد تلقاه عمر لقاء حسنا، فرق له وعطف عليه، وما زال به حتى زوجه وجعله في مرتبة نظرائه من شباب قريش وأشرافها. ولكنه على ذلك كان قريشيا أمويا قريب المكان من عثمان. كان رجل صدق ما في ذلك شك، ولكنه كان يعتد بقريش عامة، وببني أمية خاصة. وقد ذهب إلى الكوفة مصمما على أن يصلح ما أفسد الوليد، حتى قيلت في ذلك الأقاويل؛ فزعم بعض القصاص أنه غسل المنبر تحرجا من آثام الوليد، وآذى بذلك بعض القرشيين.
والشيء المحقق هو أن أهل الكوفة قد أحسنوا استقباله ، وأحسن هو سياستهم أول الأمر، فدرس شئون المصر من قريب، واختار سماره وذوي خاصته من بين السادة والقراء الذين أغضبهم الوليد؛ ولكنه لم يقم في الكوفة إلا قليلا حتى بصر بحقيقة الأمر وأنبأ بها عثمان، وكان فيما بعث إلى عثمان من ذلك تصوير دقيق لا لحال الكوفة وحدها، بل لحال غيرها من الأمصار كذلك؛ فهو قد رأى أن الكوفة إنما تتعرض للفتنة لسببين: أحدهما تضاؤل أصحاب السابقة وضعف أمرهم بمرور الزمن، وأصحاب السابقة هؤلاء هم السادة الذين سبقوا إلى الفتح واستقروا في المصر حين مصر، وفيهم الشريف الذي كانت له الرياسة في قومه، وفيهم القارئ الذي كانت له المكانة الدينية لاتصاله بالنبي أو بأصحابه. وقد أخذ الموت ينتقص منهم في الحرب والسلم جميعا.
والآخر تزايد الطارئين والناشئين جميعا؛ فما أكثر الذين كانوا يطرءون على المصر من هؤلاء الأعراب الذين يقبلون من تلقاء أنفسهم أو يرسلهم الخليفة مادة للجند! وما أكثر الطارئين من هؤلاء الأسرى الذين كان الفاتحون يأخذونهم في المواقع ويقسمون بينهم مع الغنيمة ويعودون معهم إلى المصر ليقيموا فيه! وما أكثر هذا الجيل الجديد الذي كان يولد في المصر من الحرائر وأمهات الأولاد، ثم الذين كانوا يولدون من أبناء الأحرار غير العرب ومن أبناء العبيد! وكل هذه الناشئة قد أخذت تنمو ويظهر أمرها ويكون لها أثرها في حياة المصر.
فالطارئون من الأعراب والطارئون من الأعاجم والناشئون من أولئك وهؤلاء قد كثروا في المصر حتى زحموا أهل السابقة، وكادوا يستأثرون من دونهم بالأمر. وكلهم حظه من الجهل أكثر من حظه من العلم، ونصيبه من الغلظة والجفوة أعظم من نصيبه من الرقة واللين. والأعراب يقبلون بما حفظوا من غلظهم وجفوتهم وعصبيتهم وجهلهم. والأسرى يقبلون بما ورثوا من حضارتهم، وبما تستتبعه الحضارة في أعقاب أمرها من الضعف والفساد، وبما تستتبعه الهزيمة والرق من انكسار النفوس وذلتها، وحسرتها على ما مضى، وبأسها مما يقبل، وبغضها لسيدها وخوفها منه ومكرها به وكيدها له. والناشئون بين أولئك وهؤلاء يأخذون بحظوظهم من أخلاق أولئك وهؤلاء ، فتختلط الأمور عليهم، ويكونون مصدرا لاختلاط الأمور على غيرهم من الناس. وبهذا كله تتعقد أمور السياسة تعقدا شديدا، ويجد الأمراء والولاة أنفسهم أمام مشكلات كلما حلوا منها طرفا نجم طرف آخر.
بشيء من هذا كتب سعيد إلى عثمان لينبئه بحقيقة الأمر في مصره، فتقدم إليه عثمان في أن يؤثر الخير والعافية ما استطاع، وفي أن يجنب نفسه والناس الفتنة ما وجد إلى ذلك سبيلا، وفي أن يقدم أصحاب السابقة وما يتصل بأسبابهم على غيرهم، ثم ينزل الناس بعد ذلك منازلهم بالحق، لا يؤثر ولا يظلم ولا يجور.
ولكن عثمان شعر منذ ذلك الوقت بأن أمور الناس قد تغيرت، وبأن الفتنة قد أخذت تظهر، وبأن الاحتياط من هذه الفتنة قد أصبح شيئا ليس منه بد. وقد خطب عثمان الناس في المدينة، فأنبأهم من ذلك بما علم، وحذرهم الفتنة وخوفهم منها، واستشارهم فيما تقدم فيه إلى سعيد من السيرة السياسية فأقروه عليه. لكنه اقترح أمرا خطيرا فرح الناس من أهل المدينة به حين سمعوه، وابتهجوا له ابتهاجا عظيما، وظن هو أنه سيصلح بعض ما فسد. ويجمع بعض ما انتشر، لكنه أدى إلى النتائج العكسية لما أراد عثمان. وهذا الأمر الذي اقترحه هو أن ينقل إلى الناس فيئهم حيث أقاموا من بلاد العرب؛ فلا يقيم في الأمصار إلا من كان له في الإقامة فيها أرب، ما عدا الجند بالطبع. فليس من إقامتهم في الأمصار بد.
صفحة غير معروفة