وعلى ذلك فإن الناس لم يعجلوا بالحكم على عثمان، وما كان لهم أن يعجلوا وهم أنفسهم قد انقسموا في هذه القضية، لمكان عمر في قلوبهم، ولما كانوا يرونه من رعاية حقه في أهله وبنيه. وقد أمر النبي أن تدرأ الحدود بالشبهات، فلعل عثمان قد درأ هذا الحد عن عبيد الله بالشبهة التي تأتي من غضبه لأبيه واندفاعه مع شهوته الجامحة. والله قد حبب إلى المسلمين العفو حين يقدرون وجزاهم عليه خيرا.
وقد روى المؤرخون أن عثمان لم يكد يستقبل خلافته حتى أصدر إلى الأقاليم كتبا، منها ما وجه إلى العمال، ومنها ما وجه إلى قواد الحرب، ومنها ما وجه إلى عامة الناس. وأقل ما توصف به هذه الكتب أنها تصور السياسة التي كان عثمان يريد أن يأخذ بها المسلمين والتي أخذهم بها صدرا من خلافته، فيما يقول المؤرخون. فمن حق هذه الكتب أن تروى، وأن نقف عندها وقفة ما، لنتبين إلى أي حد تمم عثمان ما رسم لنفسه فيها من خطة.
كتب إلى عماله فيما روى الطبري في أحداث سنة أربع وعشرين للهجرة يقول: «أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.» فهذا الكتاب الموجز اليسير الذي كتب أو أملي في غير تكلف ولا تأنق ولا تفكير في غير العدل الذي فرض على المسلمين، يأمر العمال بخصال أربع: الأولى أن يكونوا رعاة ولا يكونوا جباة، أي أن تكون غايتهم من الحكم الرفق بالمحكومين لا إغناء الحكومة، ولا إرضاء حاجة الحاكمين إلى الغنى. يلح عثمان في هذه الخصلة إلحاحا شديدا، فيكرر كلمتي الرعاة والجباة تكريرا يصور هذا الإلحاح. ولا غرابة في ذلك، فهو يريد أن يبين الغاية الأساسية التي قصد إليها الإسلام حين دفع العرب إلى الفتح، وهو الإصلاح قبل كل شيء، فليس الفتح الإسلامي كما قدمنا فتح غلب وتسلط ، وإنما هو فتح رعاية ورفق وإصلاح.
وعثمان يقرر أن الأئمة في صدر هذه الأمة كانوا رعاة لا جباة، وهؤلاء الأئمة هم النبي وأبو بكر وعمر. وهو يشفق بعد ذلك من أن يصبح الأئمة جباة لا رعاة، فينقطع الحياء وتقوم مقامه القحة التي تضيع الحق وتدفع إلى الإصرار على الباطل والاستهتار بالإثم. وتنقطع الأمانة ويقوم مقامها الغش الذي يضيع حقوق الأئمة والرعاة جميعا، ويشكك بعض الناس في بعض، ويسيء ظنون بعضهم ببعض، ويقيم الأمر بينهم على المخادعة والرياء لا على المصارحة والإخلاص. وينقطع الوفاء ويقوم مقامه الغدر الذي يدفع الناس إلى شر لا آخر له، وإلى أثرة منكرة، فلا يرعى أحد لأحد حرمة ولا يرجو أحد لأحد وقارا. ليس من شك في أن هذا الهدي هو هدي النبي وصاحبيه.
الخصلة الثانية ليست إلا تفصيلا لما تقدم فيه عثمان إلى عماله، وهي رعاية العدل فيما يكون من الصلة بين المسلمين وبين أئمتهم وأمرائهم، فلا ينبغي أن يظلم المسلمون إرضاء للحكومة، ولا ينبغي أن تظلم الحكومة إرضاء لعامة المسلمين. وإنما ينبغي أن يؤخذ من المسلمين ما عليهم وأن يرد إليهم ما لهم، فلا ظلم في الحكم، ولا إسراف على الناس في أخذ الصدقات وجباية الخراج، ولا تسلط على الناس في أي أمر من أمورهم، وإنما هو القسط الذي لا يضار فيه حاكم ولا محكوم.
والخصلة الثالثة هي الخصلة الثانية نفسها، ولكنها تخص المعاهدين من أهل الذمة؛ فهم كالمسلمين في استحقاقهم للعدل، لهم ما للمسلمين من حق، وعليهم ما على المسلمين من واجب. إذا نصحوا وأخلصوا وأوفوا بما عاهدوا عليه، فلا ينبغي أن يؤخذ منهم أكثر من الحق فيظلموا، ولا ينبغي أن يترك لهم أكثر من الحق فيقع الظلم على المسلمين.
والخصلة الرابعة تتصل بالعدو الذي يواجه عمال المسلمين في أمصارهم، وهي من أروع ما أوصى به الأئمة، لم يبتكره عثمان من عنده، ولم يكن عثمان يحب الابتكار كما سترى، وإنما اتبع فيه ما أنزل من القرآن في سورة «براءة» وفي غيرها، فهو يأمر عماله أن يستفتحوا عليهم ولكن بالوفاء. فليس لهم أن يغدروا حتى بالعدو، وإنما عليهم أن يعرضوا الدعوة فإن أجابوا إليها فذاك، وإن يعرضوا الصلح فإن أجابوا إليه فذاك، وإن لم يجيبوا أذنوا على سواء.
فهذه السياسة التي رسمها عثمان لعماله هي نفس السياسة التي نزل بها القرآن ورسمها الأئمة قبل عثمان لأنفسهم وللمسلمين. وكتب عثمان إلى عماله على الخراج: «أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة؛ قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم. والوفاء الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم.»
وهذا الكتاب الذي يمتاز بإيجازه الرائع يلح فيما ألح فيه الكتاب الأول، ويحرص على ما حرص عليه، ولكنه يؤدي ذلك في شيء من القوة والشدة لا نكاد نجدهما في كتابه الأول؛ فالله قد خلق الخلق بالحق فهو لا يقبل إلا الحق، فما ينبغي للأئمة والعمال إلا أن يتقربوا إلى الله بما يحب، فيأخذوا الحق لا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، ويعطوا الحق لا يضيفون إليه ولا ينحرفون عنه. وإذا لزموا الحق على هذا النحو، فأول ما يجب عليهم أن يرعوه إنما هي الأمانة فيما يجبون من الناس، وفيما ينفقون على مرافقهم، وفيما يؤدون بعد ذلك إلى الإمام لينفق في المرافق العامة للدولة كلها. وعثمان يحذر عمال الخراج من أن يكونوا أول من ينحرف عن الأمانة فيحملوا إثم انحرافهم عنها وإثم من يذهب بعدهم مذهبهم في هذا الانحراف. ثم يأمرهم عثمان بعد الأمانة بالوفاء، ويشدد عليهم فيه كما شدد عليهم في الأمانة، ثم ينهاهم عن ظلم اليتامى وأهل الذمة، ويحذرهم عقاب الله الذي هو خصم لمن ظلمهم.
وهذه السياسة أيضا هي التي أنزلها الله في القرآن وسار عليها النبي وصاحباه من بعده، فعثمان لا يزيد في هذا الكتاب كما لم يزد في الكتاب الأول على الوفاء بما بايع عليه عبد الرحمن بن عوف من كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر. وكتب عثمان إلى أمراء الحرب في الثغور: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان عن ملأ منا. ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم. فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»
صفحة غير معروفة