اشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
إذا حل بواديكا
وحتى يقول أثناء وضوئه بين حين وحين: لتخضبن هذه من هذه، مشيرا إلى لحيته وجبهته.
ولو قد أطاع علي ضميره الخفي لاستعفى أصحابه من بيعتهم، وأنفق ما بقي من أيامه يعبد الله وينتظر الآخرة، ولكن هيهات! قد آمنت نفسه بالحق، وبأن القعود عن نصره جبن ومعصية، وليس هو بالرجل الذي يسرع إليه اليأس أو يفشل عن حرب عدوه مهما تكن الظروف، ولذلك قال لأصحابه حين ضاق بتخاذلهم وعصيانهم: «لتنهضن معي لقتال أهل الشام أو لأمضين لقتالهم مع من يتبعني مهما يكن عددهم قليلا.»
كانت ظروف الحياة الجديدة كلها إذن مواتية لمعاوية منافرة لعلي، ولكنها على ذلك لم تضعف عليا عن الحق ولم تخرجه عن طوره في يوم من الأيام، فاحتفظ بمزاجه معتدلا، وبسيرته مستقيمة في جميع أطواره وأيامه.
وكان بينه وبين معاوية اختلاف آخر يغري الناس به ويجمعهم لخصمه، كان يدبر أمور أصحابه عن ملأ منهم، لا يستبد من دونهم بشيء، وإنما يستشيرهم في الجليل والخطير من أمره، وكان يرى لهم الرأي فيأبونه ويمتنعون عليه ويضطرونه إلى أن ينفذ رأيهم هم ويحتفظ برأيه لنفسه، وكان ذلك يغريهم به ويطمعهم فيه.
ولم يكن معاوية يعطي أصحابه بعض هذا الذي كان يعطيهم علي، لم يكن يستشيرهم، وإنما كان له المشيرون من خاصته الأدنين، فكان إذا أمر أطاعه أهل الشام دون أن يجمجموا فضلا عن أن يجادلوا، ثم كان معاوية يحتفظ بسره كله لا يظهر عليه إلا من أراد أن يظهره عليه من خاصته، وكانت أمور علي كلها تدبر وتبرم على ملأ من الناس، لا تخفى على أصحابه من أمره خافية مهما يكن خطرها.
كان علي يدبر خلافة وكان معاوية يدبر ملكا، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظل.
صفحة غير معروفة