ومعنى ذلك أن مذهب الخوارج قد تجاوز العرب إلى غيرهم من المغلوبين الذين كانوا إلى الآن يستظلون بظل الفاتحين، يسلم منهم من يسلم فيظل جديدا في إسلامه يؤدي ما يجب عليه من حق، لا يكاد يتجاوز ذلك إلى ما يكون بين العرب من خلاف.
ولكنا نراهم الآن قد أخذوا ينكرون التحكيم ويخرجون على الإمام، وجعل العرب من الخوارج لا يكرهون الاستعانة بهم على حرب نظرائهم، أصبحت العصبية العربية عندهم أقل خطرا وأهون شأنا من الرأي والمذهب، وقد عير أصحاب علي أبا مريم - حين لقوه في كثرته من الموالي - قتاله للعرب مع هذه الطبقة غير ذات الشأن من الناس، فلم يحفل بما قالوا له، وإنما شد عليهم مع هؤلاء الناس غير أولي الشأن شدة منكرة كشفتهم عن أماكنهم، واضطرتهم إلى أن يرجعوا منهزمين إلى الكوفة، إلا قائدهم، فإنه أقام في نفر يسير ينتظر المدد.
وقد خرج علي نفسه لقتال أبي مريم الذي كان قد دنا من الكوفة، فلما قتله وقتل أصحابه رجع محزون النفس مكلوم القلب تساوره الهموم، وما باله لا يجد هذا كله وهو يقضي حياته بين أمرين ليس أحدهما أقل نكرا من الآخر: حرب داخلية قد أصبحت نظاما مستقرا فهو لا يفرغ منها إلا ليعود إليها، وغارات تصب على أطرافه من أهل الشام قد أصبحت هي الأخرى نظاما مستقرا؟! فهو لا يسد ثغرة إلا فتحت له ثغرة أخرى، وأصحابه على رغم ذلك ممعنون في العجز مغرقون فيما أحبوا من العافية، قد فل حدهم، وكسرت شوكتهم، وطمع فيهم العدو البعيد منهم، وأغرى بهم العدو المقيم بين أظهرهم، كأن حلفا خفية قد انعقدت بين الخوارج وبين أهل الشام على غير علم من أولئك ولا من هؤلاء، وقوام هذه الحلف أن يجرعوا عليا الغصص ويرهقوه من أمره عسرا.
وقد أقام معاوية في الشام يرى ويسمع من أمر خصمه ما يزيده فيه طمعا، وها هو ذا قد طمع أن يرسل من قبله من يقيم للناس الحج في الموسم، وما له لا يفعل وقد بايعه أهل الشام بالخلافة، ودانت له مصر واستقام له كثير من أهل البادية، وضعف خصمه عن النهوض لحربه، بل ضعف حتى عن الدفاع عن سلطانه في داخل حدوده نفسها؟!
وكذلك أرسل معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي أميرا على الموسم يقيم للناس حجهم، وكان يزيد عثمانيا مخلص الحب لمعاوية، ولكنه كان يكره القتال في المكان الحرام والشهر الحرام، فلما استيقن أن معاوية لا يرسله للحرب وإنما يرسله لأمر ظاهره الدين ومن ورائه السياسة مضى لمهمته، ولم يكد يدنو من مكة حتى خافه قثم بن العباس، عامل علي عليها، فاعتزل أمره، ودخل يزيد مكة فأمن الناس ووسط أبا سعيد الخدري في أن يختار الناس لهم رجلا غير عامل علي، يقيم لهم الصلاة ليصلي المسلمون جميعا غير مفترقين، فاختار الناس عثمان بن أبي طلحة العبدري، فأقام للناس صلاتهم، وانقضى الموسم في عافية، وعرف علي مسير يزيد بن شجرة إلى مكة، فندب الناس لرده عنها، فتثاقلوا، وانتهى علي آخر الأمر إلى أن أرسل معقل بن قيس في جند من أصحابه، فلم يبلغوا غايتهم، فقد كان يزيد أتم الحج وعاد إلى الشام، وإنما أدرك معقل وأصحابه مؤخرة أصحاب يزيد، فأسروا منهم نفرا وعادوا بهم إلى الكوفة.
الفصل السادس والثلاثون
وقد انتهت كل هذه الأمور بعلي إلى عزيمة أتمها الله له، فيها كثير من اليأس وفيها كثير من المغامرة، ولكنها كادت أن تبلغه مأربه لولا أن الناس يدبرون وأمر الله غالب، والكلمة الأخيرة للقضاء المحتوم لا لما يدبرون، فقد خطب علي أصحابه داعيا لهم أن يتجهزوا لقتال أهل الشام محرضا لهم على ذلك أشد التحريض، كما تعود أن يفعل، فسمعوا منه وانصرفوا عنه ولم يصنعوا شيئا، كما تعودوا أن يفعلوا.
فلما استيأس منهم دعا إليه رؤساءهم وقادتهم وأولي الرأي فيهم، وتحدث إليهم حديثا صريحا لا لبس فيه، وجعل تبعاتهم أمامهم يرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم، إن أمكن أن ترى التبعات بالعيون وتلمس بالأيدي. بين لهم أنهم أرادوه على الخلافة دون أن يطلبها إليهم، وعرضوا عليه بيعتهم دون أن يعرض عليهم نفسه، ثم هم الآن يظهرون طاعة ويضمرون نكثا، وقد طاولهم حتى سئم المطاولة، وانتظر نشاطهم لما يدعوهم إليه حتى مل الانتظار. وعظهم في غير طائل، وحرضهم في غير غناء، وقد أزمع أن يمضي لحرب خصمه في الشام مع من تبعه من أهله ومن قومه، فإن لم يتبعه منهم أحد مضى وحيدا فقاتل حتى يبلي في سبيل الله ويلقى الموت في ذات الحق.
ولست أرى بدا من أن أثبت هنا نص حديثه إليهم كما رواه البلاذري، ففيه الحجة البالغة على هؤلاء الذين أفسدوا عليه رأيه بالعصيان حتى ظنت قريش به الظنون، وقالت فيه الأقاويل، وحتى عصي الله وهم ينظرون لا يغضبون لحق ولا دين. قال: «أما بعد، أيها الناس، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردكم عنها، ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها، فتوثب علي متوثبون كفى الله مئونتهم، وصرعهم لخدودهم، وأتعس جدودهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وبقيت طائفة تحدث في الإسلام حدثا، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق، ليست بأهل لما ادعت، وهم إذا قيل لهم تقدموا قدما تقدموا، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل، ولا يبطلون الباطل كإبطالهم الحق، أما إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم، فبينوا لي ما أنتم فاعلون، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحب، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أر رأيي، فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين؛ لأدعون الله عليكم ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة، أأجلاف أهل الشام وأغراؤها أصبر على نصرة الضلال وأشد اجتماعا على الباطل منكم على هداكم وحقكم؟! ما بالكم وما دواؤكم؟! إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة.»
وكأن الرؤساء والقادة قد استحوا من علي، واستخزوا في أنفسهم، وأشفقوا أن ينفذ ما صمم عليه فيمضي وحده أو في قلة من الناس لقتال أهل الشام، فيلحقهم بذلك عار أي عار، وتصيبهم المحنة في دينهم وفي نفوسهم وفي أمورهم كلها، فقام خطباؤهم إلى علي فأحسنوا له القول وأخلصوا له النصح، ثم تفرقوا عنه فتلاوموا، ومضوا لإنجاز ما وعدوا به عليا.
صفحة غير معروفة