للحق أحييت بالإفضال موتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا
فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا
فالآن تكثر قرع السن من ندم
وما تقول وقد كان الذي كانا
وظلت تبغضك الأحياء قاطبة
لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا
فلم تكن طاعة مصقلة إذن لعلي طاعة الرجل الذي يصدر في كل ما يأتي عن معرفة الحق والإيمان به والقيام دونه والصبر على ما يكون من نتائج هذا كله، وإنما كانت طاعته طاعة رجل من الناس لخليفة من الخلفاء، رجل يؤثر العافية وينتهز الفرصة ويبتغي لنفسه الخير مهما يكن مصدره، يعنيه أمر نفسه قبل أن يعنيه أي شيء آخر، ولم يكن مصقلة فذا في ذلك، وإنما كان له أشباه من أشراف الناس فضلا عن عامتهم في الكوفة والبصرة جميعا.
فهو يشتري الأسرى ويعتقهم لا يبتغي ثواب الله ولا يبتغي حسن الأحدوثة، وإنما يستجيب للعصبية وحدها ويتخذ المكر بالسلطان وسيلة إلى إرضائها، فإذا عرف السلطان مكره وطالبه بالحق لم يصطبر له ولم يؤد منه ما لزمه، وإنما فر إلى الذين يحاربون الخليفة ويكيدون له، فأصبح عدوا بعد أن كان وليا، ولم يكن لقاء معاوية له وترحيبه به وإيثاره إياه بالمعروف خيرا من التوائه هو بالدين وفراره هو إلى الشام، وإنما كان كيدا من الكيد، ومكرا من المكر، ومكافأة على ما لا يحسن أن يكافأ عليه المسلم الصدوق، إنما كان ذلك يحسن لو قد فر إلى معاوية رجل من الروم ليكيد معه لقيصر ويعينه على غزو العدو، فأما أن يؤوي من كاد لإمامه لا بشيء، ونكث عهده لا لشيء، إلا لأنه قد يعينه على إفساد أمر العراق، فهذا هو الذي يبين وجها خطيرا من وجوه السياسة التي أراد معاوية أن يقيم عليها أمر السلطان الجديد، سياسة الدنيا بأعراضها وأغراضها، وبمنافعها ومآربها، وبأهوائها وشهواتها.
وهنا يظهر الفرق واضحا بين مذهب علي في السياسة التي تخلص للدين، ومذهب معاوية في السياسة التي تخلص للدنيا.
صفحة غير معروفة