مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
فرده هذا الشعر إلى الثبات والصبر، كما كان يتحدث بذلك في أيام العافية، وارتفع الضحى والقوم ماضون في حربهم تلك لا يريحون ولا يستريحون، وأصحاب علي لا يشكون في النصر، وإنهم لفي ذلك وإذا المصاحف قد نشرت ورفعت على الرماح من قبل أهل الشام، وإذا منادي أهل الشام يقول: هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته، الله الله في العرب، الله الله في الإسلام، الله الله في الثغور! من لثغور الشام إذا هلك أهل الشام؟! ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق؟!
ويرى أصحاب علي هذه المصاحف المنشورة، ويسمعون هذا الدعاء إلى ما فيها من أمر الله، ويسمعون الدعاء إلى العافية والبقية، فيبهر كثرتهم ما ترى وما تسمع، وإذا الأيدي تكف عن الحرب، وإذا القلوب تتردد ثم تذكر السلم ثم تحبها ثم تطمع فيها، وإذا رؤساء الجيش من أصحاب علي يسرعون إليه يدعونه إلى قبول ما يعرض القوم، فيأبى عليهم ويبين لهم أن القوم ليسوا بأصحاب قرآن، ولم يرفعوا المصاحف ثائبين إلى ما فيها وإنما رفعوها كائدين يبغون خصمهم الفتنة، ويبين لهم كذلك أنهم لم يبتكروا رفع المصاحف، وإنما عرفوا أنه رفع المصاحف لأهل البصرة قبل القتال فقلدوه، وليس بعد القتال وحين جزعوا من الحرب، ولم يشكوا في الهزيمة ولكن أصحاب علي يلحون عليه في الاستجابة إلى ما يدعى إليه من كتاب الله، ويشتدون في الإلحاح حتى ينذروا عليا بمفارقته، ومنهم من أنذره بتسليمه إلى معاوية.
وقوم آخرون رأوا رأي علي ولم ينخدعوا بكيد أهل الشام، وقالوا: إنما حاربنا القوم على كتاب الله لا نشك في أننا على الحق، وفي أن صاحبنا هو أمير المؤمنين، وفي أن عدونا هم الفئة الباغية، ولو قد شككنا في شيء من ذلك ما قاتلنا ولا استبحنا سفك الدماء منا ومنهم.
ولكن أصحاب علي قد اختلفوا، ما في ذلك شك؛ قوم يرون الكف عن القتال وقوم يرون المضي فيه، وإذا وقع الخلاف بين رؤساء الجيش وبلغ هذا الحد فليس ينتظر من الجيش نفسه خير. ومن أجل ذلك اضطر علي إلى كف القتال، ولم يكف الأشتر عن المضي فيه إلا بعد جهد متصل وعزيمة مؤكدة.
ثم قارب معاوية وأرسل إليه الرسل يسألونه عما أراد إليه برفع المصاحف، فأجابهم معاوية: أردت إلى أن نختار منا رجلا وتختارون منكم رجلا ونأمرهما أن يحكما بما في كتاب الله فيما شجر بيننا من الخلاف، وعاد الرسل إلى علي بجواب معاوية، فرضيت كثرة أصحابه وسخطت قلتهم، ونزل علي عند رأي الكثرة كارها.
الفصل الحادي والعشرون
وليس من اليسير أن نقطع برأي في عدد الجيشين اللذين التقيا بصفين واقتتلا قتالا طويلا منكرا لم ير مثله قط في الإسلام؛ أي لم ير مثله قط بين المسلمين، فقوم يبلغون بجيش علي مائة ألف، ويبلغون بجيش معاوية سبعين ألفا، وقوم ينزلون بهذين الرقمين إلى أقل من ذلك. وليس من اليسير كذلك أن نحصي عدد القتلى من أولئك وهؤلاء، وقد زعم قوم أن القتلى من أهل الشام بلغوا خمسة وأربعين ألفا، وأن القتلى من أهل العراق بلغوا خمسة وعشرين ألفا.
صفحة غير معروفة