وواجه علي ابن خليفة آخر من خلفاء المسلمين متهما بالقتل وبأي قتل! بقتل إمام من أئمة المسلمين لا بقتل رجل غريب من المغلوبين المستأمنين، ولكن عليا لم يعف عن محمد بن أبي بكر وإنما حقق أمره حتى استبان أنه لم يقتل عثمان ثم منعته الظروف من المضي في التحقيق إلى غايته وإمضاء حكم الدين في القاتلين.
ومن الحق أن نلاحظ أن محمد بن أبي بكر لم يقتل عثمان بيده، ولكنه تسور الدار مع من تسورها عليه، فقد كان له إذن في قتل عثمان شأن ضئيل أو خطير، ولكن الذين كان لهم شأن في هذه الكارثة كانوا أكثر عددا وأقوى قوة وأشد بأسا من أن يقدر عليهم أو يقتص منهم الإمام الجديد، ثم جرت الأمور بعد ذلك على نحو زاد قضية الخليفة المقتول عسرا وتعقيدا كما سترى.
الفصل الثاني
ولم يستقبل المسلمون خلافة علي بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان من رضى النفوس وابتهاج القلوب واطمئنان الضمائر واتساع الأمل وانبساط الرجاء، وإنما استقبلوا خلافته في كثير من الوجوم والقلق والإشفاق واضطراب النفوس واختلاط الأمر، لا لأن عليا كان خليقا أن يثير في نفوسهم وقلوبهم شيئا من هذا، بل لأن ظروف حياتهم قد اضطرتهم إلى هذا كله اضطرارا؛ فقد نهض عثمان بالأمر بعد خليفة قوي شديد صعب المراس أرهقهم من أمرهم عسرا بما كان يسلك بهم إلى العدل من طريق وعرة خشنة لا يصبر على سلوكها إلا أولو العزم وأصحاب الجلد من الناس، وقد صورنا لك فيما مضى من هذا الكتاب شدة عمر على المسلمين عامة في ذات الله، وقسوته على قريش خاصة، يخاف عليهم الفتنة ويخاف منهم الفتنة أيضا، فلما نهض عثمان بأمر الناس أعطاهم لينا بعد شدة وإسماحا بعد عنف وسعة بعد ضيق ورضاء بعد مشقة وجهد؛ فزاد في أعطياتهم ويسر لهم أمرهم ما كان عسيرا حتى آثروه في أعوامه الأولى على عمر.
وأقبل علي بعد مقتل عثمان، فلم يوسع للناس في العطاء، ولم يمنحهم النوافل من المال ولم ييسر لهم أمورهم، وإنما استأنف فيهم سيرة عمر من حيث انقطعت، ومضى بهم في طريقه من حيث وقف.
وكان الناس بعد قتل عمر آمنين مطمئنين يشوب أمنهم واطمئنانهم شيء من الحزن على هذا الإمام البر الذي اختطف من بينهم غيلة، لا عن ملأ من المهاجرين والأنصار، ولا عن ائتمار به من أهل الثغور والأمصار، فكان قتله عنيفا يسيرا في وقت واحد، لم يصوره أحد بأبلغ مما صوره به عمر نفسه حين تلقى الطعنة التي قتلته، ثم تولى وهو يتلو قول الله عز وجل:
وكان أمر الله قدرا مقدورا .
كانت وفاة عمر إذن قدرا من القدر لم تتألب عليه جماعة ولم يأتمر به ملأ من المسلمين، وإنما اغتاله مغتال غير ذي خطر، فساق إليه موتا لم يكن منه بد.
فأما مقتل عثمان فكان نتيجة ثورة جامحة وفتنة شبهت فيها على الناس أمورهم؛ إذ لم يكن أحدهم يعرف أكان مقبلا أم مدبرا. وكان نتيجة خوف ملأ المدينة كلها أياما طوالا ثم انتشر منها في أقطار الأرض فاضطربت له النفوس أشد الاضطراب، وجهز العمال جنودهم لا ليرسلوها إلى حيث كان ينبغي أن ترسل من الثغور، ولكن ليرسلوها إلى عاصمة الدولة وقلبها ليردوا إليها الأمن ويجلوا عنها الخوف وليستنقذوا الخليفة المحصور، فلم تبلغ الجنود قلب الدولة ولا عاصمتها وإنما قتل الخليفة قبل ذلك، فعاد الجند إلى أمرائهم وتركوا المدينة يملؤها الخوف والذعر ويسيطر عليها القلق والاضطراب.
وكان أمر الثورة قد بلغ أهل الموسم في حجهم، وقرأ عليهم عبد الله بن عباس كتاب عثمان يبرئ فيه نفسه من الظلم والجور ويتهم فيه الثائرين به بالخلاف عن أمر الله والبغي على خليفة الله، فقضى الناس مناسكهم خائفين، وعادوا إلى أمصارهم خائفين، يحملون الخوف معهم إلى من أقام ولم يأت الموسم من الناس.
صفحة غير معروفة