علي وبنوه
تأليف
طه حسين
الفصل الأول
واجه المسلمون إثر قتل عثمان - رحمه الله - مشكلتين من أخطر ما عرض لهم من المشكلات منذ خلافة أبي بكر، إحداهما تتصل بالخلافة نفسها، والأخرى تتصل بإقرار النظام وإنفاذ أمر الله فيمن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض.
فقد أمسى المسلمون يوم قتل عثمان وليس لهم إمام يدبر لهم أمورهم ويحفظ عليهم نظامهم، وينفذ فيهم سلطانهم، ويقيم فيهم حدود الله، ويرعى بعد هذا كله أمور هذه الدولة الضخمة التي أقامها أبو بكر وعمر، وزادها عثمان سعة في الشرق والغرب.
فهذه البلاد التي فتحت عليهم ولم يستقر فيها سلطانهم بعد كانت في حاجة إلى من يضبط أمرها ويحكم نظامها ويبعد حدودها التي لم تكن تثبت إلا لتتغير؛ لاتصال الفتح منذ نهض أبو بكر بالأمر إلى أن كانت الفتنة وشغل المسلمون بها أو شغل فريق من المسلمين بها عن الفتوح.
وكانت للمسلمين جيوش مرابطة في الثغور تقف اليوم لتمضي غدا إلى الأمام، وهذه الجيوش لم تكن مشغولة بالفتح وحده وإنما كانت مشغولة كذلك بإقرار النظام فيما فتح عليها من الأرض، وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، واستحداث نظم في الإدارة تلائم مزاج الفاتحين، واستبقاء نظم في الإدارة أيضا تلائم مزاج المغلوبين، وهذه الجيوش كانت محتاجة إلى من يمدها بالجند والعتاد، ويرسم لها الخطط، ويدبر لها من الأمر ما تحتاج إلى تدبيره.
وواضح أن الذين قتلوا عثمان لم يكونوا هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان نفسه من المهاجرين والأنصار، وإنما كانوا شراذم من الجيوش المرابطة في ثغور البصرة والكوفة ومصر ومن ثاب إليهم من الأعراب ومن أعانهم من أبناء المهاجرين، وكانت الجلة من أصحاب النبي المهاجرين والأنصار قد وقفت مواقف ثلاثة مختلفة من هذه الفتنة: فأما كثرتهم فكانت ترى وتنكر وتهم بالإصلاح فلا تجد إليه سبيلا فتسكت عن عجز وقصور لا عن تهاون وتقصير، وأما فريق منهم فقد شبهت عليهم الأمور فآثروا العافية والتزموا الحيدة واعتزلوا الفتنة، وكانت قد وقعت إليهم أحاديث عن النبي تخوف من الفتنة وتأمر باجتنابها، فلزم بعضهم البيوت، وترك بعضهم المدينة مجانبا للناس فارا بدينه إلى الله.
وفريق ثالث لم يذعنوا للعجز ولم يؤثروا الحيدة والاعتزال، وإنما سعوا بين عثمان وخصومه، بعضهم ينصح للخليفة ويحاول الإصلاح بينه وبين الثائرين، وبعضهم ينقم من الخليفة فيحرض عليه ويغري به، أو يقف موقفا أقل ما يوصف به أنه لم يكن موقف المخذل للثائرين أو المنكر عليهم.
صفحة غير معروفة