وكان الحسين صاحب فطنة، حسن النظر في الأمور، رأى الدولة منقادة لمعاوية قد ضبطت له أمصارها، وعرف هو كيف يسوس الناس بالحلم والرفق والسخاء، وكيف يولي في الأمصار من يسوسون أهلها بالقسوة الصارمة والخوف المخيف، فلم يحاول الخروج حين أتيحت له الفرصة بما كان من نقض معاوية لما بايع الناس عليه، من الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله.
وقد نقض معاوية هذه البيعة ما في ذلك شك، ونقضها مرتين: إحداهما حين قتل من قتل من أهل الكوفة كما سترى، والثانية حين بايع بولاية العهد لابنه يزيد، وجعل الخلافة وراثة ينقلها لابنه كما ينقل إليه ماله، مع أن أمر الخلافة ليس ملكا خاصا للخليفة، وإنما هو ملك عام لجماعة المسلمين.
وكان إسراف معاوية في أموال المسلمين وتوليته الجبابرة على الأمصار، وإسراف أولئك الجبابرة في أموال الناس ودمائهم، كل ذلك كان نقضا منه للبيعة التي أعطاها للناس، تبرئ ذمة الحسين لو أراد الخروج.
وقد همت عائشة نفسها أن تخرج بعد قتل من قتل معاوية من أهل الكوفة، ولكنها أشفقت أن تثير فتنة عقيما كالتي أثارتها حين خرجت مع صاحبيها مطالبة بدم عثمان، فكفت نفسها عن الخروج.
وقد رأى الحسين أن الأمر لا يستقيم له إن هم بالثورة فصبر نفسه على ما تكره، ولكنه غير سياسة أخيه التي ساس بها الحزب، فأطلق لسانه في معاوية وولاته حتى أنذره معاوية، ثم أغرى حزبه بالاشتداد في الحق والإنكار على الأمراء ففعلوا، وكانت الكوفة خاصة مركز المعارضة العنيفة لمعاوية وعامله زياد.
ونلاحظ أن آثار هاتين السياستين ظاهرة أشد الظهور، فلم يؤذ الشيعة في أنفسهم ولا في أموالهم ما عاش الحسن، كانوا يعارضون في لين وينكرون في رفق، وكان معاوية وولاته يسمعون منهم ويكفون عنهم، وربما استصلحوهم بالقول والعمل، فلما صار أمر الشيعة إلى الحسين عنفت المعارضة وكادت تصبح ثورة في الكوفة، فلقيها معاوية وولاته بالشدة بل بالإسراف في الشدة، حتى تجاوزوا في قمعها كل حد معقول.
وكانت سياسة الحسين مقوية للشيعة ومضعفة لها في وقت واحد، كانت مضعفة لها لأنها جرت على كثير من أنصار أهل البيت محنا قاسية، وكانت مقوية لها لأنها جعلت الشيعة مضطهدين أشد اضطهاد وأقساه.
وليس شيء من سياسة الناس يروج للآراء ويغري الناس باتباعها كالاضطهاد الذي يعطف القلوب على الذين تلم بهم المحن، وتصب عليهم الكوارث، وتبسط عليهم يد السلطان، والذي يصرف القلوب عن هذا السلطان الذي يدفع إلى الظلم ويمعن فيه، ويرهق الناس من أمرهم عسرا.
ولذلك عظم أمر الشيعة في الأعوام العشرة الأخيرة من حكم معاوية، وانتشرت دعوتهم أي انتشار في شرق الدولة الإسلامية وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية وحب أهل البيت لأنفسهم دينا.
الفصل السابع والأربعون
صفحة غير معروفة