إهداء الكتاب
تمهيد
في حضرة الرئيس1
زيور باشا
عدلي يكن باشا
سعد زغلول باشا
عبد الخالق ثروت باشا
إبراهيم الهلباوي بك
الدكتور محجوب ثابت
الدكتور محجوب أيضا1
الدكتور علي بك إبراهيم
أحمد لطفي السيد بك
إسماعيل سري باشا
عبد الحميد سعيد بك
فكري أباظة
أحمد مظلوم باشا
طلعت حرب بك
حافظ رمضان بك
إبراهيم وجيه باشا
حافظ إبراهيم بك
هدى هانم شعراوي
إسماعيل صدقي باشا
علي الشمسي باشا
الشيخ أبو الفضل الجيزاوي
عزيز عزت باشا
أبو نافع باشا أو عمدة سان استفانو
شوقي
محمد محمود باشا
مختار «التمثال»
الشيخ1 ...
شيخ السوق
إهداء الكتاب
تمهيد
في حضرة الرئيس1
زيور باشا
عدلي يكن باشا
سعد زغلول باشا
عبد الخالق ثروت باشا
إبراهيم الهلباوي بك
الدكتور محجوب ثابت
الدكتور محجوب أيضا1
الدكتور علي بك إبراهيم
أحمد لطفي السيد بك
إسماعيل سري باشا
عبد الحميد سعيد بك
فكري أباظة
أحمد مظلوم باشا
طلعت حرب بك
حافظ رمضان بك
إبراهيم وجيه باشا
حافظ إبراهيم بك
هدى هانم شعراوي
إسماعيل صدقي باشا
علي الشمسي باشا
الشيخ أبو الفضل الجيزاوي
عزيز عزت باشا
أبو نافع باشا أو عمدة سان استفانو
شوقي
محمد محمود باشا
مختار «التمثال»
الشيخ1 ...
شيخ السوق
في المرآة
في المرآة
تأليف
عبد العزيز البشري
تريك المرايا الخلق فيهن ماثلا
وهذي تريك الخلق والنفس والطبعا
حافظ إبراهيم
إهداء الكتاب
إلى هؤلاء السادة الذي بعثت القول فيهم، إنما استوحيت في هذه «المرايا» خلالكم، واستلهمت نزعات أنفسكم، فأنتم أحق الناس بأن تهدى إليهم. فمن أصاب نفسه في «مرآته» فأعجبته صورته، فليوجه الحمد لله تعالى الذي سواه على هذا، فليس لي من الأمر غير النقل والاحتذاء. والسلام عليكم ورحمة الله.
المخلص
محرر المرآة
تمهيد
سألني صديق لي كريم المنزلة عندي أن أتخير له صورا من تلك «المرايا» التي أرسلتها في «السياسة الأسبوعية»؛ ليطبعها ويسويها للناس كتابا. وتعذرت عليه دهرا لأنني إنما أعانيها على أنها بنت ساعتها وحديث يومها، لا على أنها مما يثبت في الزمان، لتردد الأنظار واعتياد الأفكار. وما برح يعتريني بإلحاحه الكريم ، ويملك علي مذاهب الحجج في مطاولته حتى لم أجد لي مفيضا من التسليم. فجمعت منها طائفة وضممت إليها ما كتب في هذا الباب شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم في حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، وما كتب أديب آخر في حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر. وجعلت أعود على تلك «المرايا» بألوان التهذيب، فأرم ما رث بالطبع، وأستدرك ما عسى أن تكون قد فوتت العجلة من فنون المعاني، وأعالج ما أضعفت السرعة من القول وأوهت من نسج الكلام. وأضفت إلى هذه المجموعة طائفة أخرى من رسائل شتى كان قد جرى بها القلم، على أنها كلها مما يدخل في معنى تلك «المرايا» ويتصل بجنسها. ثم لقد اعتمدت من ألفاظ هذا الكتاب كل ما يحتاج إلى الضبط فضبطته بالشكل، وكل ما يحتاج إلى المراجعة ففسرته؛ تدريبا للناشئين على المنطق الصحيح. وأمدني بأصدق العون في هذا كله وفي تصحيح طبع الكتاب، الأديبان اللغويان الأستاذ أحمد زكي العدوي والأستاذ محمد صادق عنبر، وصلهما الله عن الأدب بخير الجزاء.
وصدرت كل «مرآة» بصورة صاحبها «الكاريكاتورية» من رسم الفنان الأشهر الأستاذ «سنتيز». أما صورة الغلاف فقد تفضل بوضعها الأستاذ الفنان المبدع مصطفى بك مختار محرم، مد الله في عمر أناملهما رحمة بالفن الجميل.
ولست أتحدث عن مطبعة دار الكتب، فإن كل آثارها تحدثك وحدها عما أوفى على الغاية من الدقة والجمال والإحسان. ولا يفوتني في هذا المقام أن أنوه بما لحضرة محمد نديم أفندي، ملاحظ المطبعة، من همة وخبرة يزينهما حسن الخلال.
وقد راعيت في ترتيب هذه «المرايا» تواريخ نشرها في «السياسة الأسبوعية»، فلا تأخذني، بعد هذا، بتقديم زيور باشا في «رجال السياسة» على سعد زغلول، ولا بتقديم الدكتور محجوب ثابت في «الطب» على علي بك إبراهيم، ولا بتقديم الأستاذ فكري أباظة في «الوطنية» على حافظ بك رمضان! •••
والغاية التي تذهب إليها «المرآة» هي تحليل «شخصية» من تجلوه من الناس، والتسلل إلى مداخل طبعه، ومعالجة ما تدسى من خلاله، ونفض هذا على القارئ في صورة فكهة مستملحة. وهذا النوع من البيان إنما ترويناه عن كتاب الغرب، وما فتئنا نقلدهم فيه تقليدا. على أن بعض كتاب العرب من أمثال الإمام الجاحظ قد سبقوا إلى شيء من هذا التصوير البياني، إلا أنهم لم يعدوا فيه تسقط هنات المرء والصولة عليها بألوان التندر والتطريف. أما التوسل بمظاهر خلال المرء إلى مداخل نفسه ومنازع طبعه، وإجراء هذا على أسلوب علمي وثيق
Hologigue ، فذلك ما لم أقع عليه في منادراتهم، ووجوه تطرفهم.
ولا يذهب عنك أن شأن الكاتب في هذا الباب كشأن المصور «الكاريكاتوري»؛ فهو إنما يعمد إلى الموضع الناتئ في خلال المرء، فيزيد في وصفه، ويبالغ في تصويره بما يتهيأ له من فنون النكات. وأنت خبير بأن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو بتزييفها أو بوصلها، بحكم التورية ونحوها، بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس. وهذا الذي يبعث العجب، ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع. ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق، متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم، خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.
ولعلك آخذي بأنني أسف أحيانا إلى العامية الشائهة فأوردها في درج الكلام. وعذري في ذاك ما تعرف من أننا نكتب بلغة، ونتناول أسبابنا الدائرة بلغة أخرى، وهيهات لك أن تجلي على القارئ صورة كاملة من حديث قوم في مناقلاتهم ومنادراتهم، وما تطارحوا من فنون النكات، إلا بأن تورده كما نطقوا به، وبخاصة إذا كان يجري في التعبيرات التي تشيع على ألسن الناس، وتذهب عندهم مذهب الأمثال، فإذا حاولت أن تؤدي هذا بفصيح اللغة؛ فسد الغرض، واختل نظم الكلام. وللإمام الجاحظ في هذا المعنى قول جليل، فراجعه إن شئت في كتابه «البخلاء». •••
وبعد، فالرأي ألا تتناول الأقلام بمثل هذا النوع من الحديث إلا أمرا يقوم على شأن عام ، على ألا تتره حقا، ولا تضيف إليه ما ليس له، وعلى ألا تتدسس إلى مكارهه، ولا تطلب من مستور هناته ما لا يتصل بالشأن العام. فإذا هي اعترته بعد هذا بألوان التندر؛ كان حقيقا بها ألا تصرف وجه القول إلى الرغبة في تهاونه والتهزؤ به والكيد له. وهذا ما تحريته فيما عالجت من هذه «المرايا»، فإن يكن قد ند القول بعض الحين، فإنني امرؤ ينبو على القلم، وتزل بي القدم، وإني أستغفر الله وأسأله العافية.
في حضرة الرئيس1
ملء السمع، ملء القلب، ملء البصر. لو حاول بكل جهده ألا يكون رجلا عظيما؛ ما استطاع، وهيهات لامرئ أن يملك عن نفسه ما شاء لها الله! وقد سوى الله له هذه العظمة من يوم مدرجه، فكان طالبا عظيما، وكان مدرها عظيما، وكان قاضيا عظيما، ثم تناهت إليه زعامة أمة، فهو فيها ملء السهل والجبل.
بحسبك أن تراه لتعرف أنه سعد، ولو لم يومئ إليك أحد بأنه سعد: وكيف يختلط عليك أمره وهذه يد القدرة قد دلت عليه بدلائل تنبئك بأنه، وإن كان من الناس، إلا أنه أعظم الناس.
بسطة في العلم والجسم، بسطة في العقل والحلم، وعزم تتزايل الجبال دون أن يتزلزل، ويقين تتحول الأرض عن مدارها ولا يتحول، ومنطق يصول في الجلى حتى لتحسبها الجحافل قد تداكت بسيوفها وعواليها، ويلطف في السمر حتى لتتمثل أسراب الكواعب، وسوست حليها، وتضوعت منها غواليها.
وما إن رأيت ولا سمعت برجل فسح الله تعالى له في البيان، وأمكنه من نواصي الحجة، كما فسح لسعد ومكن لسعد. ولقد تتقدم لمباراته في الأمر تظن أنك قد بلغت منه الغاية، ووقعت على الصميم، وتمنعت منه بالحصن القوي، فما هو إلا أن يرسل عليك الحجة حتى ترى أنه ملك الرأي عليك من جميع أقطارك، وإنك سرعان ما وقعت أسيرا في يديه تتقلب فيهما تقلبا، وهيهات لك الخلاص إلا بأن تنزل في أمرك على الإذعان والتسليم!
وإن أنس، لا أنس ليلة مضت من عشر سنين حاور فيها مستشارا كان في محكمة الاستئناف، معروفا بشدة الجدل، في مسألة فقهية، وكلما انحط الرجل فيها على رأي أزعجه سعد فطار إلى غيره، حتى إذا ظن أنه تمكن في أفحوصه
2
ثار عليه بالحجة فوثب إلى سواه، وما زال به صدرا من الليل ينشره ويطويه، وينقله من رأي إلى رأي، ويحوله من قول إلى قول، حتى داخ الرجل ووهن، ولم يبق فيه فضل لحوار ولا جدل!
ولا أدري أكان ذاك من سعد مجرد تهد للرأي، وتعقب لموطن الصواب، أم أنه إنما كان يتلعب بالرجل تلعبا لينزله على معرفة قدره، ففي نفس ذلك المستشار غرور وفي أنفه ورم! أم هي المخيلة
3
تبعثها في النفس شدة التمكن من النفس، وإنه ليلذ لها أحيانا ألا تمتعك بذلك الواقع الذي اطمأننت به، والحق الذي استرحت إليه. فما هو إلا أن تصول بالحجة عليك حتى ترى أنك إنما كنت تقبض على الهواء، وأن صرحك الذي أقمته تفرق عنك تفرق الهباء، فتتولى منخذلا عن يقينك وقد ضربك الشك: أكنت مخدوعا عن الواقع؟ أم أن هذا الواقع دون قوة سعد فهو يصرفه بحجته كيف يشاء؟ لا أدري يومها ماذا كانت إربة الجبار. والله أعلم!
وسعد قد علت به السن وشاب رأسه، على أنه، بسط الله في عمره، ما زال يمرح من فطنته القوية في أفتى الفتوة وأمرع الشباب. ولو كتب لك الظفر ساعة بمجلس هذا الذي دوت الدنيا كلها بمجده؛ لنعمت بما لا يلحقه الوصف من عذوبة طبع في عذوبة مجلس، وحديث كأنه قطع الروض رف
4
آسه ونسرينه، وتضوع ورده وياسمينه، وبديهة كأنه يقرأ منها في كتاب، وكأنها تستوحي الغيب فليس بينها وبين الغيب حجاب، ونادرة تشيع فيك الطرب، وتهزك من أعجاب ومن عجب، إذ هو فيما يرسل من القول، في جده ومزاحه، لا يعدو ما ينبغي له من تحشم ووقار.
وإنه ليقبل عليك بكل لطفه حتى يفرخ روعك، ويفسح لك في جوانب القول لتقول، وإنه ليباريك في منزعك، ويدارجك في حديثك، إلى أن يرسلك على سجيتك ويسترسل معك، حتى إذا اطمأننت إليه، وظننت أنك في مساجلة رجل مثلك ، خانته عبقريته، فوثب به ذهنه إلى ما لا يتعلق به ذهنك، فإذا أنت قد طرت كل مطير، وإذا الطبيعة تأبى برغمك ورغمه إلا أن تشعرك أنك في حضرة سعد زغلول!
يا لله من هذا الرجل! وإنه ليعرض في الأمر فيقول فيه مقالا، وإنك لتقدر له بادئ الرأي غاية ما تعاهد الناس من حجة، وأقصى ما تعارفوا من دليل، فإذا هو قد وقع في تدليله على ما لم تقع عليه ظنون الناس، وارتفع إلى ما لم تتعلق به أذهانهم، ففتح في المنطق فتحا جديدا وأتى بما يبهر ويروع، وكيف لسعد ألا يرتفع على مذهب حجة الناس، وقد رفعه الله على الناس؟
وسعد وافر الشعور بعظمته، مزدحم الشعور بأنه إنما يتحدث على آمال أمة، فهو مهما بارى المجلس في فنون أحاديثه، ومهما تدلى به السمر إلى تلك الأسباب الدائرة بين الناس، يرفه بذاك عن نفسه وعن صحبه، يطفر الفينة بعد الفينة إلى حديث الوطن، فيشك فيه معنى جليلا، ثم يعود فيصيب ما شاء الله من حديث القوم. أعلمت أن سعدا لا يصلح إلا للوطن، وأن الوطن لا يصلح إلا بسعد؟
أريد أن أكتب عن سعد، ومن الغرور أن أظن بقلمي الوفاء بوصف سعد مهما تفرج له في جوانب البيان، فإن البيان إنما يجري في غايته إلى ما تعاهده الناس من الطبيعة ومن الناس! أما تلك النفحات الإلهية التي يرسلها الله تعالى في العصور الطوال ثنيا
5
بعد ثني ليقيل أهل الأرض الزلة، ويهديهم من الضلة، فذلك ما تعجز عنه اللغى ويقصر من دونه البيان.
وبعد، فإذا أردت أن تصف للناس سعدا، فلن تستطيع أن تصفه بأبرع من لفظة «سعد»، فقد جمعت من وجوه المعاني ما لا يبلغه الكلام، وإن قدرته العقول وتعلقت به الأفهام.
زيور باشا
أما شكله الخارجي، وأوضاعه الهندسية، ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية؛ فذلك كله يحتاج في وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة. والواقع، أن زيور باشا رجل - إذا صح هذا التعبير - يمتاز عن سائر الناس في كل شيء ، ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولا، وأوفر لحما، إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا. أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه، أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، وفيها المتيبس المتحجر، وفيها المسترخي المترهل. وعلى كل حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعابها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان، طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحيق!
وإنك لتجد ناسا يصفون زيور بالدهاء وسعة الحيلة، بينما ترى آخرين ينعتونه بالبساطة، وقد يتدلون به إلى حد الغفلة. كما تجد خلقا يتحدثون بارتفاع خلقه وتنزهه عن النقائص، إذ غيرهم ينحطون به إلى ما لا تجاوره مكرمة، ولا يسكن إليه خلق محمود!
كذلك زيور عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشاكسة، فهو عندهم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو ذكي وغبي، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطني حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه، يجود منها بالطارف والتلاد!
كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب. وإذا كان هذا مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد فقد غلط الناس إذ حسبوا زيور رجلا واحدا. والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري كما حدثتك، كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض! فإذا أدهشك التباين في أخلاقه، وراعك هذا التناقض في طباعه، فذلك؛ لأن هذا الجرم العظيم الذي تحسبه شيئا واحدا مؤلف في الحقيقة من عدة مناطق، لكل منها شكله وطبعه وتصوره وحظه من التربية والتهذيب. فمنها العاقل ومنها الجاهل، ومنها الحكيم ومنها الغر ، ومنها الكريم ومنها البخيل، ومنها المصري ومنها الجركسي، ومنها الفرنسي، ومنها الإنجليزي، ومنها المالطي ... إلخ؛ كل منها يجري في مذهبه ويتصرف في الدائرة الخاصة به، فلا عجب إذا صدر عن تلك المجموعة الزيورية كل ما ترى من ضروب هذه المتناقضات!
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه المتملكات الواسعة، عاجز تمام العجز عن إدارتها وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج في سبيل الرقي والكمال، وحسب عقله في هذا النظام الجديد، أن يتوافر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام! •••
وإني أورد عليك طائفة يسيرة تدلك على ما في هذه المجموعة الغريبة من ضروب المتناقضات التي تجزم منها بأن ذلك الخلق ليس شيئا واحدا، وإنما هو في الحقيقة عدة أشياء.
فزيور باشا معروف بالقناعة والتعفف عن الابتذال في إحراز الأموال، ولكنهم في الوقت نفسه يقولون إن جميع نفقات الولائم التي أقامها في مصر وفي أوروبا قد تناولها من «المصاريف السرية»، بينما هو يقبض من خزانة الدولة ألف جنيه لهذا الغرض في كل عام!
ومما يحسن ذكره في هذا الموضوع، ما تحدثوا به من أنه لما زار أوروبا في الصيف الماضي، طاف بجميع المفوضيات المصرية هناك، فسل كل ما فيها من «المصاريف السرية» حتى إذا علم أنه قد أتى على كل ما في مفوضية باريس من هذه الأموال، ولم يدع لها قرشا ولا بارة، أرسل تلغرافا إلى مفوضية لندن لتسعفه بكل ما عندها من النقود!
ولقد تعلم أحيانا عن زيور باشا حرصه على مصالح الدولة، على أنك إذا عاتبته على إسراف الحكومة في عهده وابتذالها لأموال الدولة بهذا الأسلوب الفادح، أجاب من فوره: «إن مصر غنية»
l’Egypte est riche .
ولقد تعرف في زيور باشا طيبة في القلب، وسلامة في الخلق، ثم لقد يظهر لك فيه من المكر، وترى له من أنواع الدس ما يعيا بمثله أخبث الشياطين . ولقد ذكروا أنه كلما التقى بسعدي، أنب قومه على اتفاقهم مع «ألد أعدائهم» الأحرار الدستوريين، وإذا أصاب حرا دستوريا، قال له: كيف يصح أن تتحدوا مع أولئك «المجانين المخربين»!
ولقد كان شديد الشكوى من نشأت باشا وبسطة يده في كل مصالح الحكومة، فإذا قيل له: وكيف لا تكفه عن هذا وأنت رئيس الحكومة؟ بسط كفيه ورفع رأسه إلى السماء وأجاب: وهل يستطيع أحد أن يعمل شيئا؟ فلما أقيل نشأت باشا من السراي، جعل زيور يقبل على كل من لقيه يتمدح بأنه هو الذي أخرجه، ووقى البلاد شرا عظيما!
وقد يعرف عنه بعض الناس قلة الخير، ومع ذلك فإن له صاحبا ورفيقا من رفقاء الصبا هو «ص بك غ»، وله ولد يطلب العلم في باريس، فعينه في مفوضية باريس في وظيفة غير موجودة!
وعلى هذا الصديق دين لبعثة المرسلين الأفريقيين في مصر، وقد استبهظ الربح، فوسط في الأمر صديقه زيور باشا الذي قصد إلى روما في تجواله بأوروبا في العام الماضي. ومع ما يعرف عن دولته من أنه خريج مدارس الجزويت، وأنه أخذ عنهم الدهاء والمكر وبعد غور النفس؛ فقد طلب مقابلة قداسة البابا نفسه، وخاطبه في الأمر، وسأله التخفيف من دين صاحبه. والبابا أحاله على وزير خارجيته الكاردينال جاسباري، وبعد أن سمع هذا من رئيس وزراء مصر، كل ما أراد أن يقول، هز كتفيه وقال له:
Chi recevato paga
أي: «على من أخذ أن يدفع.» وكان على زيور باشا أن يعرف ذلك!
تلك بعض آثار هؤلاء الذين يدعونهم زيور باشا، فإذا تمثلوا شخصا وبدوا للعيون رجلا واحدا، فذلك مصداق قول أبي نواس:
ليس على الله بمستكر
أن يجمع العالم في واحد
وإن أهل مصر ليأخذون زيور باشا كله بما لا يحصى من الجرائم على القضية الوطنية، وإنهم ليعدون عليه سفهه في أموال الدولة واستهتاره بمصالحها. وإنهم ليحسبون عليه إيثاره الأهل والأقربين، والأصحاب والمحبين، وذوي أرحامهم بمناصب الدولة ومنافعها. وقد يكون لمجلس النواب مع هؤلاء الرجل شأن إذا أقبل يوم الحساب!
وإن ظلما أن يؤخذ البريء بجريرة الآثم، وإن عسفا أن يعاقب المظلوم بما أجرم الظالم، فقد يكون الذي اقترف كل هذه الآثام هو كوع زيور باشا الأيسر، أو القسم الأسفل من «لغده»، أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى، أو غيرها من تلك الكائنات التي تجمعت في هيكله العظيم، فما شأن تلك المخلوقات كلها تجر إلى مواطن الاتهام، وتعاقب بما ارتكب بعضها من الجرائر والآثام؟!
إن الحق والعدل ليقضيان أن يؤلف مجلس النواب، إن شاء الله، لجنة تقوم بعمل التحقيق في جسم صاحب الدولة، فتسأل أعضاءه عضوا عضوا، وتحقق مع أشلائه شلوا شلوا، حتى يفرق منها بين المحسن والمسيء، ولا يخلط في العقوبة بين المجرم والبريء.
ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك ولا دخل في شيء من كل ما حصل! •••
وبعد، فإذا كان هناك وصف جامع وخلة مشتركة لهذه الخلائق التي تجمعت لجسم زيور باشا، حتى انتظمت فيه شعبا واحدا، فذلك أنه قسيس جزويتي في جلد رئيس وزراء مصري، فقد تربى زيور باشا في مدارس الجزويت كما قلت لك، وتخرج عليهم وتخلق بأخلاقهم. فإذا رأيت في طبعه سهولة، وفي نفسه بساطة، فذلك لبعد غوره حتى ليخفى عليك ما في نفسه من مكر ودهاء!
وفيه صفة أخرى جامعة أيضا، هي شدة احترامه «للبرنيطة»، وعمله على إرضائها بكل الوسائل، فما عرف أن زيور رد في حياته طلبا «لبرنيطة» مهما كان حاملها في الناس، حتى لقد زعموا أن بعض كبار علمائنا الأعلام، مصابيح الدجى وعمد الإسلام، بعدما أعياه الكد والجهد وشدة الطلب، والسعي وطول الوقوف بالأبواب، والتردد بين مختلف الأحزاب، في سبيل وظيفة خالية، عزم أخيرا على لبس القبعة لعله يحظى في هذه الأيام
1
بمعونة زيور على إفتاء الديار أو مشيخة الإسلام، ومولانا الشيخ المذكور بوجه خاص، لا يعدم ألف فتوى من الشريعة، تحل له هذه الذريعة.
عدلي يكن باشا
أسمر اللون في شحوب، إلا أن ما يخالط سمرته من صفرة حلو مستعذب. يمتاز بقليل من الطول وكثير من العرض، فهو بعيد ما بين الكتفين حتى لتعرفه موليا كما تعرفه مقبلا. مستوي معارف الوجه، حديد البصر، إذا قدر لك أن يحدق فيك، شعرت أن نظره لا يستقر على سطحك، بل إنه ليتغلغل في أطوائك، ويصل من نفسك إلى كل ما تضن به على الابتذال، وادع ساكن، تتجلجل الدنيا من حوله وهو ثابت ثبات الهرم الأكبر. ولقد تجلس إليه تحدثه في شئون الدنيا، فتطالعه بأجل أحداثها، فلا يتقبض ولا يختلج،
1
إلا أنه يستلقي على كرسيه ثم يدس يسراه في جيبه ويدير بيمناه رزمة من المفاتيح. وتحسب أن ذهنه ليس عندك، إذ هو عندك كله لا يفوته من حديثك قليل ولا كثير.
وكانت لجنة الدستور، وزاره بمحضري رجل من أعضائها، فسأله: ماذا صنعتم اليوم؟ فقال له: كنا نتناقش في موضوع «كذا». فاستوى عدلي على كرسيه، ولبث ساعة يتدفق بالحديث في ذلك الموضوع، ويورد كل مذاهب علماء الدستور فيه، يعلل كل رأي، ويوجه كل مذهب في بلاغة وفصاحة قول ودقة تعبير، وخرجنا وصاحبي يضرب كفا بكف، ويزعم لي أنه لو حلف بكل مؤثمة من الأيمان أن عدلي كان حاضر لجنتهم، ما حنث ولا أثم!
شديد القصد في حديثه، فإذا أذن الله وتكلم، فهو حلو الحديث، رخيم الصوت، بارع المطلع، رائع المقطع، يصيب المحز ويقع من فوره على اللباب. تشعر أنه خلص إلى الغاية، وأصاب من النزاع، دون أن يعلق بقوله شيء من وضر الجدل، وما لا تدعو إليه حاجة الكلام.
لا معني بكل شيء ولا
كل عجيب في عينه بعجيب
لعل عدلي قد جاوز الستين، وأحلف بدوري أن مصر لو كانت عاشت عيشا طبيعيا خاليا من الأحداث والعظائم، ما كان له في الدنيا أثر، ولا جرى له على لسان جمهرة المصريين ذكر ولا خبر، فلقد نجم عدلي باشا في مناصب الحكومة كما نجم غيره من الناس موظفا صغيرا في وزارة الداخلية، وما برح يتقلب في فنون الأعمال العامة حتى أصبح وكيل مديرية، فمديرا، فمحافظا للعاصمة، فمديرا لديوان الأوقاف ، فمتقاعدا في داره، فوكيلا للجمعية التشريعية، فوزيرا للمعارف، لا يمتاز في شيء من ذلك إلا بالنبل والكبر على الصغائر، والترفع عن سفساف الأمور، وكل ما كان له فيما عالجه من الأعمال من صحة الرأي، وصدق التدبير، وحسن التنظيم، فما كان ليذكر له شيء منها إلا بألسن من شارفوه ومن عملوا معه. أما عظمة عدلي وأما شهرته الخالدة على الزمان، فهو مدين بهما للجلى وللأحداث العظام، فلولا جسيمات الأمور؛ لكان عدلي رجلا مدرجا في عداد سائر الرجال.
ولقد كان وزيرا للمعارف في وزارة رشدي باشا في سنة 1918، وتهادنت الدول المحتربة الهدنة العامة، وشمرت لعقد الصلح، وتوقع المتطيرون أن تكون مصر من حصة إنجلترا في سلب تركيا المقهورة، فنهض رشدي ومعه صاحبه عدلي وناجيا الإنجليز بأنهما يريدان أن يشخصا إلى إنجلترا؛ ليراجعاها في حقوق مصر التي ضحت بما ضحت من الرجال والأموال في نصرة قضية الحلفاء. وتثاقل الإنجليز عنهما وتعللوا باشتغال ساستهم عن لقائهما بالاستعداد لمؤتمر الصلح، وخاف رشدي وعدلي أن تفلتهما الفرصة، وكرها الصبر على الهضيمة، فنفخا في الحركة الوطنية من روحهما القوى، وراحا يؤازران الوفد المصري ويشدان عضده من جهة، ويشرعان الإضراب للموظفين، ويستحمسان الجمهرة من جهة أخرى، حتى كان من أمر النهضة المصرية في سنة 1919 ما كان. وتلك أولى عزائم عدلي التي يحصيها له الجمهور.
وهبط ملنر مصر والوفد قائم في باريس، ودارت اللجنة هاهنا وهاهنا لعل أحدا يعاطيها أو يقاولها، فاستمسك الناس كلهم عنها، ولم يواتها منهم أحد، فعاذت في النهاية بالثلاثة الأعلام: رشدي وعدلي وثروت، فصارحوها بأنها إن أرادت الجد، فلا تفاوض في شأن مصر غير الوفد، فلتمض إلى باريس فهناك الحديث، أما في مصر فلن تجد مهما طال بها المقام، ثلاث قطط تحدثها في شأن البلاد!
وانكفأت لجنة ملنر إلى لندن، واستشرفت حقا لمفاوضة الوفد، إذ الوفد لا يتحول إلى لندن دون أن يستبين موضع خطوه، ويريد، وبين يديه رجاء أمة، أن يعرف فيم مذهبه وأين يقع حديثه، وكيف تكون غاية أمره. فدارت الأنظار كل مدار ، فلم تقع لهذا المهم إلا على عدلي، فدعاه الوفد فلبى الدعاء وشخص إلى باريس فلندن، فمهد الطريق، ووطأ أكناف السياسة هناك، وكان خير معوان للوفد على أداء مهمه الخطير.
وألف الوزارة في صدر سنة 1921، وشخص إلى لندن في وفد رسمي، وفاوض كرزن وأدلى إليه بحقوق مصر وأمانيها كلها، وأبى أن ينزل على ما أراد الإنجليز أن ينزلوا مصر عليه، فقطع المفاوضة، وعاد من فوره مرفوع الرأس، موفور الكرامة. وما كادت تستقر قدمه، حتى استقال من منصب الوزارة استقالته الكريمة النبيلة.
واليوم وقد تحرجت الأمور، وتصدت القوة بكل ما عندها لتنال مصر، فلا يلتفت زعيمها الأكبر إلا إلى صديقه عدلي. وكذلك كان شأن عدلي دائما تلتفت مصر إليه كلما نزلت بها الأحداث الجسام.
وبعد، فلقد تحسب عدلي رجلا عظاميا تلقى المجد عن آبائه العظام الفاتحين. والواقع أن عدلي يكن رجل عصامي بأجمع معاني الكلمة، وقد لا يعدله في عصاميته هذه رجل آخر في البلاد.
فأنت تعرف أنه ابن نعمة، نشأ في الحسب، وتقلبت أعطافه في الترف، وأغناه الله عن طلب العلم وكدح الذهن ومطاولة حوادث الدهر، ولداته
2
كثير، وأكثرهم - وبخاصة في الزمن الذي نجم فيه عدلي - لا يقع على هواه إلا على مهارشة الديكة، ونطاح الكباش والملاعبة بالحمام، ومعاشرة المتبطلين، والافتنان في وجوه اللذات، والغباء الكامل عن كل ما يعني البلاد، فهل صدقتني أن عدلي رجل عصامي حقا؟ إذ خرج عن هذه البيئة، فكون نفسه كل هذا التكوين، وعارك من الحوادث ما عارك حتى أصبح من أعظم الذخائر التي تعتد للجلى في البلاد؟ وحسبه ما وصفه به صحفي من أكبر الصحفيين في أوروبا: إنك حين تلقى عدلي باشا فكأنك في حضرة أعظم الوزراء في «دوننج استريت»
3
أو في «كيدروسيه».
4
وإن من يعرفون عدلي ليعدون له عيوبا، ويحصون عليه آثاما وذنوبا، وسبحان من تفرد بالكمال.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
فهم يحسبون على طباعه أنه ما برح «ابن ذوات» فهو قليل الاتصال بالناس، شديد التحفظ بنفسه عنهم، لا يزورهم ولا يستزيرهم ولا يستريح إلى مجالستهم. ومهما توافى له إنسان وتعلق بحبه، فهو لا يطالعه بالهناء إذا دخلت عليه نعمة. ولا بالمواساة إذا مسه الضر. ولا يعوده إذا مرض، ولا يشيع جنازته إذا مات! وإذا طلبه صاحبه لحاجة عامة أو خاصة حيره وشتت سعيه، فإذا أراده في البيت قالوا له في «الكلوب»، وإذا وثب إلى «الكلوب» قالوا في البيت. ويحلفون على أن اقتحام قلعة للألمان وقت الحرب العظمى أيسر من زيارته في بيته!
ولو قد كتب لي أن أصبح هيئة سياسية، واحتجت في شأن البلاد إلى سعي عدلي باشا، لوكلت به «عصبة» من أولاد البلد، أولي القوة والفتوة، فتسلموه في صباح كل يوم، وأرادوه على المشي ساعتين في الأحياء الوطنية، وأكرهوه على أن يفشي السلام، ويومئ بالتحية لكل من لقيه؛ حتى إذا جهد به ردوه فأجلسوه في البهو، وفتحوا الأبواب بين يديه، وكلما دخل عليه زائر بعثوا وجهه بالهشاشة، ويديه بالتحية، ولسانه بنحو: «أهلا وسهلا ومرحبا. زارنا النبي. شرفتنا. آنستنا ...» إلخ، ثم صفق بيديه فدعا بالقهوة وعرض على الزائر «نرجيلة»، فإذا ردها، قدم له سيجارة فسيجارة فثالثة. فإن كان الضيف موظفا سأله عن عمله ودرجته ومرتبه، وأظهر له التوجع على تأخره وتقدم أقرانه، وإن كان زارعا أقبل عليه فسأله عن القطن وما عسى أن يكون قد اعتراه من الآفات، والمناوبات وشح المياه ومناطق الأرز وإطفاء الشراقي وسعر كيلة البرسيم اليوم! ... وإذا حضر وقت الغداء - وهنا الكلام - وهم الضيف بالانصراف، أمسك بطرف ثوبه وعزم عليه ليتغدين معه. وحلف جاهدا أنه لا يجد في ذلك كلفة، ولا يتجشم في سبيله مشقة. وأنا بعد ذلك ضامن لدولة الباشا أن الضيف منصرف غير لابث، معتلا بالمرض وضعف البنية، أو بالضيف ينتظره في داره، أو غير ذلك من وجوه التعاليل، ولا يحتمل الباشا من هذه «الكركبة» كلها إلا حسن الذكر وسيرورة الأخبار، بما له من رائع الآثار، فإذا ذكرت الشجاعة قالوا إنه عنتر عبس ، وإذا ذكر الحلم حلفوا أنه الأحنف بن قيس، وإذا عرض حديث المكارم، أقسموا أنه أجود من حاتم، فإذا كان الكلام في الفصحاء والمقاول زعموا أنه أخطب من سحبان وائل.
فأما إذا ظل سابحا في السماء، فما أقل حظ أهل الغبراء من عدلي باشا في الزعماء.
سعد زغلول باشا
رزقه الله بسطة في الرزق والجاه، فهو ملء العيون، ملء الصدور. بلغ في دنياه ما دون التحية،
1
وأدرك ما وراء الأمنية. إذا غشي مجلسا وفيه قوم جلوس، رأى القوم أنفسهم وقوفا ولم يريدوا، وتنحوا عن الصدر ولم يقصدوا، وخاطبوه بالرياسة ولم يتعمدوا، ورأى سعد نفسه رئيسا ولم يتطلع. فما جلس سعد مجلسا فأقيم عنه لغيره. وكذلك كان يقول الأحنف عن نفسه. فسعد طالب العلم الخامل الذي لا يعرفه غير شجرائه، وسعد الزعيم النابه الذي تعرفه الأعاظم والعظائم سواء.
إذا وقف سعد يخطب الناس، وثبت الألفاظ من مكامنها، وأسفرت المعاني عن وجوهها، وتغايرت في السبق إلى ذهنه ولسانه، فلو أن كاتبا كتب ما يرتجله ذلك الخطيب؛ لوقعت منه على أسلوب سري رائع ينقطع دونه تنميق الأقلام. فإذا جلس سعد إلى الإنشاء، وقعت منه على أسلوب لا يغبط عليه كاتبه، فلو أن حالفا حلف أن سعدا الخطيب هو غير سعد الكاتب لبرت يمينه.
يطلع سعد على الناس وهم يرتقبون طلعته ارتقاب المدلج
2
الحائر طلوع القمر، فيدانيهم وهو يكاد يتهدم ضعفا، على وجهه تجاعيد من أثر السنين، فلا يكادون يتلقونه بالتهليل والتصفيق حتى ترى ذلك الشيخ وقد طوى ماضيه القهقرى فالتقى بشبابه وكأنما وثب من الشيخوخة إلى الصبا، وإذا بتلك التجاعيد وقد امحت، وتلك الأسارير وقد أشرقت، فيخطبهم ما يشاء، حتى إذا أفاق من سكرة ضعفه وأسكر سامعيه بخمر فصاحته، انكفأ بين التصفيق والهتاف إلى داره، فقضى فيها ساعة أو ساعتين من ساع الشباب، ثم عاوده الضعف شيئا فشيئا حتى يدخل في شيخوخته كما كان. ومن لم يعرف ذلك الرجل العظيم الذي علت سنه وتكامل تمييزه ولم يلابسه في أطوار حياته، لا يشك في أنه إنما كان يتمارض «أو يتصنع المرض كما يقولون.»
ارتاح سعد لمهنة المحاماة لأجل الخطابة، وارتاح للزعامة لأجل الخطابة، وهو يرتاح لكل ما فيه منفذ للخطابة. ولا غرو، فقد من الله عليه بموهبة عظيمة لا يمن بها على كثير من عباده، فهي لا تفتأ تتطلع للظهور فأنى أصابت منفذا أطلت منه، فلو أنك عرضت على سعد ملك الرشيد على أن يهجر الخطابة لنأى عنه بجانبه، ولرجع مهرولا إلى الزعامة، فإن أفلتته فإلى المحاماة.
نقل إلي بعض خاصته الذين يحجبون بابه أنه استأذن يوما لوفد من الوفود، وكان سعد في ذلك اليوم لقس
3
النفس، متبرما بالناس لكثرة ما لاقى منهم، فقال له: اعتذر، فقال إنهم يلحون، قال: فأذن لهم على أن يسلموا وقوفا وينصرفوا، فأدى إليهم الرسالة ودخلوا، وأقسم لي الحاجب أنهم لبثوا في حضرته ساعة وبعض ساعة وهو لا ينقطع عن الخطابة.
كنت بحضرته يوما، وقد مثل أمامه وفد من الوفود فمد بصره إليهم، وقال: من خطيبكم؟ فلما لم يصب فيهم خطيبا كاد يعرض عنهم لولا حاجته إلى مناصرتهم.
لذلك تقربت إليه الوفود بالخطباء، وشاع في نفوس النشء حب الخطابة تشبها بسعد، فكثرت الخطباء، وفي كثرتهم مظهر من مظاهر النهضة الوطنية المباركة، فسعد مدرسة لا تقفل أبوابها، يؤمها الطلاب من أنحاء القطر.
إنه يتشدد في الحق ولا يترخص فيما يعتقد أنه حق، ذلك كان شأنه قبل الزعامة، فلما ملك يومه وأصبح الزعيم الأكبر، أبت عليه طبيعة السياسة أن يأخذ دائما بذلك التشدد، فهو إذا وقفت به الحربية بين الصواب وبين هوى العامة، لا يلبث أن يعدل إلى الثانية تمكينا لسلطانه عليهم. يفعل ذلك، وهو يعدها في نفسه على نفسه قبل أن يعدها خصومه عليه.
ودعاك حسدك الرئيس وأمسكوا
ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
نزل سعد إلى ميدان السياسة وهو يظن أنها كالقضاء سبيلها الحق والعدل، فلما خاض غمارها ورأى ما راعه فيها من أساليب المداجاة وأفانين الخداع هم بالنكوص. لولا أن إيمانا رسخ في قلبه ويقينا ملأ أنحاء نفسه ، أن صاحب الحق هو صاحب الغلب، حملاه على الثبات فتدرع بهما، ووطن نفسه على الكفاح، وقصاراه أن يشهد بعينه دستور مصر وقد سلم لمصر، وأن يرى وطنه مستقلا تحت ظل الله، فهو يعمل لهذا المقصد الأسمى. ولشد ما يتكئ في هذا العمل على نفسه، وما كان ذلك لضعف في ثقته بمن حوله، ولكنه رجل قد بني على الجد والعمل.
أبت الناس إلا أن سعدا ضيق الصدر. وكيف لا يضيق صدره وإن كان رحيبا وهو مدفوع بحكم الزعامة أن يقابل كل من يصبه عليه أفق السياسة من الزائرين والقاصدين. وفيهم ثقيل الظل جامد النسيم، والملح الذي يكاد يستل بإلحاحه خيط النخاع، والمتربح بزيارته، وذلك الذي تخرج من حديثه ركضا إلى طبيب الآذان، وذلك الذي يقتلع الكلام من فمه اقتلاعا حتى لكأن نفسك تطلع منه على حشرجة، لا على استماع حديث. دع الجاهل المتصدر، والأمي الذي يدعي فهم ما غاب عن بسمرك من السياسة، وما خفي على نابليون في تعبئة الجيوش من الكياسة. وإن جلسة واحدة إلى الشيخ «فا ...» لتبغض الحلم إلى الأحنف، ولتزهد الزعيم في كرسي الزعامة. ولو أن أعداءنا فطنوا لذلك، لرموا سعدا في كل يوم بمثل هذا البغيض حتى يفر من الميدان، ونخسر بفراره قضية الأوطان.
دخل عليه ذات يوم في داره بمسجد وصيف شاب من المفتونين، فسلم عليه سلام الأكفاء، وجلس معه على بساط المساواة، ولم يحتشم ذلك المفتون في جلسته، فقد جعل يصفر بفمه ويلاعب الجو بسلسلة ذهبية كانت في يده، ولما قضى شهوته من العبث بحضرة ذلك الشيخ الجليل، التفت إليه وقال: يقولون إنك خشن الملمس، قريب الغضب، ولا أرى فيك إلا حليما. فأجابه سعد وعلى فمه ابتسامة الكاظم لغيظه: وكأنك ما جشمت نفسك السفر وجئت لي إلا لتستثير غضبي! قم فلست هناك.
وزاره في بدء الحركة الوطنية أحد المتطرفين، فتجادل في أمر من الأمور وحمي الجدال، فأغلظ المتطرف القول، فقال له سعد: أتجبهني بمثل هذا وأنت في بيتي ! قال: لم أكن في بيتك! قال: ففي بيت من إذن؟ قال: في بيت الأمة. فسري عن سعد وقال له: صدقت إنه بيت الأمة! ومن ذلك الحين أصبح بيت سعد بيت الأمة.
وإن صدرا يتسع لما يضيق عن بعضه صدر الدهر لخليق أن يسمى حامله حليما.
وهو كثير الذهاب بنفسه، ولم يجئه ذلك من ناحية الزهو كما يزعمون، ولكن جاءه من ناحية التمكن من النفس.
جلس إليه أحد أقرانه، وكانت بينهما وحشة لشيء قد بلغه عنه، فقال له سعد وهو يحاوره: اعلم يا هذا أنني معجب بنفسي، وكيف لا أعجب بنفسي وأنا لا أرى من يعمل غيري.
يسره أن يؤكل طعامه، وأن تغشى داره، ولكن قلما يسره أن يخالف رأيه، اللهم إلا إذا لمح بعين بصيرته أن من وراء تلك المخالفة إجماعا.
يجلس سعد إلى مناظره وفي يد مناظره الحجة قائمة، فلا يزال به يستلها من يده شعرة شعرة، حتى تصير الحجة في يد سعد فيقيمها على مناظره.
يسوءه النقد إلا إذا كان نزيها، وأنى لهذا البلد بالنقد النزيه! إن سعدا يكلف الناقدين شططا، أنسي أن نصيبه من ذلك نصيب كل نابغة مشهور، وكل عظيم مذكور. وقد جاء في الأمثال: إذا قيل عنك إنك نابغة، فودع الراحة.
نشأ سعد وفي ثوبه عظيم، كان في المحاماة رأس المحامين، وكان في القضاء رأس القضاة، وكان في الوزارة رأس الوزراء، ولم يكن في كل أولئك بالرئيس الرسمي، اللهم إلا في وزارته الأخيرة.
فسعد عظيم وهو ابن عشرين، وفوق العظيم وهو ابن سبعين. وقد قال أديب من صفوة أدباء مصر:
عظماء الرجال أمثال الجبال، لا تنتقص الكهوف ما لها من العظمة والجلال.
حافظ إبراهيم
عبد الخالق ثروت باشا
لطيف الحجم، دقيق الجسم، لولا بدونة دخلت عليه في السنين الأخيرة، طلق الوجه، عذب الروح، فكه الحديث. ولو أنه قدر لك أن تصحبه عشرين عاما دون أن يقيض لك اسمه، ما عرفت قط أنك في صحبة هذا الذي لا يبلغه العجب.
ويترك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
فلقد تحضر مجلسه ، فيقبل عليك يحدثك فلا يرتفع بك إلى نفسه، وإنما يتدلى بكل حديثه إلى نفسك، فتراه يدارجك في قولك، ويكلمك من جنس كلامك، ويباريك على قدر فهمك حتى تنصرف عنه وقد هيأ لك وهمك أنه مثلك، هذا إذا لطف الله بعقلك فلم يهيئ لك أنه دونك!
وإنه إذ يتحدث إليك لتختلج معارف وجهه حتى ليتمثل لك في شخص تلميذ في السنة الرابعة الابتدائية! وإن حدقتيه لتضطربان في حركة أفقية، على أنك لو تفطنت لأدركت أنها ليست حركة الحائر المتردد، بل إنها لحركة المتعرف المتقري الذي يريد أن يستل منك ذات نفسك. وإنه ليجسها من جميع أقطارها؛ ليبلوها أيها أهون عليه.
ولقد يخيل إليك لطف ثروت، وتبسطه في حديثه معك، أنك مستطيع أن تدسه في جيبك، إذ هو قد دسك من أول المجلس تحت نابه! فاحذره أطلق ما يكون وجها، وأنعم حديثا.
أبو الهول:
لي في ضمير الدهر سر كامن
لا بد أن تستله الأقدار
لعل ثروت باشا أبعد المصريين نفسا، وأعمقهم ضميرا، وقد حدثني من طالت به صحبته أنه من شباب سنه قد جعل يمرن نفسه على إخفاء نياته، ويأخذ معارف وجهه بألا تنم على ما في قرارة نفسه، وإنك لتحدثه في الجلى ويحدثك فيها وهو متطلق الوجه ضاحك السن حتى ليكاد يملأ عليك المجلس أنسا ومراحا، والله وحده يشهد ما في جوف هذا الهيكل من ثوائر تهد أعصى الرجال، وتدك أشمخ الأجبال، حتى لقد دعاه بعض أصدقائه، وهو ما برح في مطلع مناصبه «بطرس المسلمين»!
ولقد بالغوا في صمت أبي الهول وقدروا أن من خلف هذا الوجوم الطويل سرا طويلا. أما ثروت، فإنه أحذر من أبي الهول وأحرص على دخيلة نفسه؛ فإن وجهه الضاحك منك لا لك ليقنعك بأن هذا الخلق لا يحقن من السر كثيرا ولا قليلا.
ولو أن إنسانا حدثك بأن لسان ثروت لم يسقط من ثلاثين سنة بكلمة واحدة لا يريد هو أن يطلقها بكل معناها، وما تتصرف إليه من وجوه المغازي، لما كان في قوله متزيدا ولا غاليا.
ولقد تعوزه موهبة الخطابة والتفجر بالقول، على أنه إذا ارتجلت عليه طارئة خطاب الجمهرة أرسل الكلام، في أدق المواقف وأحرجها، بليغا سلسا نيرا، يروعك برشاقته في التحرف عن كل ما لا يؤذن به للسياسي وإن فسح فيه للخطيب.
وهو بعد رجل حسن الملقى، كريم المقال، وافر الأدب.
جم التواضع والدنيا بسؤدده
تكاد تهتز من أطرافها صلفا
وإنه ليقبل عليك بكل ما عنده من الرقة وإظهار المودة وشدة المواتاة، حتى لتجدنه قد أصبح قطعة من قلبك، ولتحسبن أنك أصبحت أيضا قطعة من قلبه، ولعلك لست منه في شيء أبدا!
وسبحان من قسم الحظوظ، فلو أن لي أمنية في خلق الله لتمنيت عليه تعالى أن يمزج عدلي بثروت، على نحو ما تمتزج بعض النقابات والبنوك، حتى إذا اتحدا وتمت «لخبطتهما» أحدهما بصاحبه، شق هذه العجينة إلى شخصين، وسوى منهما رجلين، إذن لخرجا أحسن الرجال، ولتحقق كل ما عقد بهما من الآمال، اللهم آمين! ... •••
وقد بدت مخايل النجابة على عبد الخالق ثروت طفلا، حتى إذا استوى لسن التعليم سلك في المدرسة التوفيقية، فكان يملك «الأولية» غالبا على سائر لداته التلاميذ، وأحرز «البكالوريا» في سنة 1888، وخرج في أوائل من أحرزوها لعامه. وقد حدثني من رآه تلميذا في مدرسة الحقوق يزور مع والده المرحوم إسماعيل باشا عبد الخالق عالما من أجل علماء عصره، فإذا هذا الفتى يجادله في أمور من أمور الدين مجادلة الأكفاء، ويحاوره في تعاليل أحكامه محاورة النظراء، حتى انبعث لسان الشيخ العظيم بتسبيح من خلق هذا الغلام!
وبعد إذ تخرج في مدرسة الحقوق نابغة رائعا، اتصل بلجنة المراقبة القضائية، وعين سكرتيرا للمستشار القضائي، فكان كل التشريع المصري قرابة ثلاثين سنة من وضع عبد الخالق أو باشتراكه، فليس عجيبا أن يدعى عبد الخالق ثروت في هذا البلد أبا القانون.
وكان مستشارا في الاستئناف، وكان مديرا لأسيوط، وكان نائبا عموميا، ثم كان وزيرا للحقانية في وزارة رشدي من صدر سنة 1914 إلى صدر سنة 1919، ثم استقال مع صحبه الذين استقالوا مشايعة للثورة وحفاظا لنهضة الوطن. فكان في كل المناصب التي وليها لا يعمل إلا بالقانون، ولا يؤثر إلا حكم القانون مهما اختلفت عليه ألوان الاعتبارات، فقد اتصل القانون بعصبه وجرى في نفسه مجرى دمه، ولعل ما أخذ به ثروت باشا بعد إذ اضطلع بأثقل عبء سياسي من تردده في بعض مواطن الإقدام، إنما كان الوزر فيه كله على حرصه على القانون، وتحريه ألا يتحرف عنه في كل مذاهبه، فإن للسياسة أحيانا سبيلا غير سبيل القانون، وعلى كل حال فإذا عدت السياسة هذا على ثروت، فسيعتدها له النبل ومعالي الخلال.
وكان ثروت وزيرا للداخلية في وزارة عدلي باشا «سنة 1921»، وقائما مقام رئيس الوزراء في أثناء غيابه في مفاوضة اللورد كرزن، فلما قطع عدلي باشا هذه المفاوضات عاد إلى مصر، فقدم استقالة الوزارة. واستوحش ما بين مصر وإنجلترا، وسكت المنطق من حيث تكلم الحديد والنار، وانطلقت القوة تفعل في هذا البلد ما تشاء، وفتنت الأحلام في مصر وإنجلترا معا، وعميت على الناس مذاهب الرأي هنا وهناك. ولا بد من حل، فلكل سائلة قرار، فأبى داهية الرجال أن يكون هذا الحل على حساب الضعيف! ...
لا أدري، ولعل أحدا - غير الله - لا يدري كيف كان أبو الهول يقلب الرأي، وما كانت تجن خلجات وجهه من فنون الحيل، حتى إذا استوى له الرأي كله تجمع، فضرب تلك الضربة الهائلة التي صدعت قيود مصر وأطلقتها في الدول دولة مستقلة ذات سيادة وسلطان، وسرعان ما آذنت إنجلترا الدول بانتهاء حمايتها على مصر، وسرعان ما آذنها جلالة الملك باستقلال البلاد. وشرع ثروت باشا يسن للدولة دستورا قويا؛ لأن مصر الفتاة تأنف العيش إلا في كنف برلمان. وهذا البرلمان يعمل وسيعمل إن شاء الله حتى تحيا مصر أعلى الحياة.
على أنه ما برح بيننا وبين إنجلترا مسائل جليلة، وإن رجالا فيها ليتربصون الفرص ليتحيفوا من حقوقنا، فما أحوجنا في أمرنا معها إلى عزم الأبطال. وما كان الله ليخيب رجاء مصر وفيها سعد، وفيها عدلي، وفيها ثروت، وفيها من يحف بهم من رجالات عظام.
فلتحي مصر ولتبلغ كل أمانيها في ظل ائتلافها النبيل.
إبراهيم الهلباوي بك
ما صدق أولئك النفر من العلماء حين زعموا أن هناك تشابها بين النفس والجسم، وتشاكلا بين الروح والهيكل الذي يحتويه، وإلا كان الهلباوي هذا من أحلى الناس وجها وأبهاهم طلعة؛ فإنه ولا مرية من ألطف خلق الله نفسا وأخفهم روحا.
شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلا. لم توجه الطبيعة أية عناية في تكوينه إلى شكله ودله، فإذا أنت جلست إليه مع هذا خلبك بلطفه، وشعرت بأنه تسرب في كل نواحي قلبك حتى أصبح قطعة من نفسك. وإنه ليذكرك بخفة روحه التي تكاد تطير، أثناء حديثه، بأطراف جسمه - قول أبي تمام:
ماذا تقولين في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان
وأنا إذا تحدثت عن الهلباوي أشعر ويشعر الناس معي، برغم أنفي وأنف غيري، أننا في رجل غير عادي، أو بعبارة أخرى: في رجل عبقري.
ولعله لم يفترق الناس في هوى امرئ - إذا استثنينا إسماعيل باشا صدقي - افتراقهم في الهلباوي، فقد عاش مدى عمره يحبه الناس أشد الحب، ويبغضه ناس أشد البغض، إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعا إلا التسليم بأنه رجل عبقري، بل لعله لم يجتمع له في القلوب كل هذا الحب وكل هذا البغض، إلا لأنه رجل عبقري!
ثورة في هيكل رجل!
طويل القامة، عظيم الهامة، بائن الطول، مفتول العضل، شديد المنة،
1
قوي البنية. رأيته يخطب الناس عصر يوم قدم في صباحه من أعلى الصعيد. والهلباوي إذا خطب خطب بكله: بلسانه، وبعقله، وبنخاعه، وبعصبه، وبرأسه، وبيديه، وبرجليه أيضا! وله صياح يقد أصفق الحناجر. ثم تدلى عن المنبر بعد أربع ساعات كاملات في كل هذا البلاء وهو أشد وأفتى من أكثر من سمعوه إن لم يكن أفتى ممن سمعوه جميعا. وما شاء الله كان! ...
شديد العقل، حاضر البديهة، قوي الذاكرة، ملتهب الذكاء، على أنني لا أدري أتفي كل هذه بحاجات لسانه أم لا؟! ...
محام أي محام، وخطيب أي خطيب! لقد يقف في الجمهرة والناس أكثرهم على غير رأيه فيما يجول فيه، فما يزال يدور على مواطن إحساسهم يجسها من ههنا ومن ههنا في رشاقة وخفة قول، ولطف شاهد، وبراعة نكتة، حتى إذا آنس من الآذان تطامنا من جماح، واسترخاء بعد عصيان، هجم منها بكله على النفوس، فظل يهزها هزا، ويرجها رجا. فما الفحل إذا هدر، ولا الليث إذا زأر، ولا البحر إذا زخر، بأشد صولة على الأسماع من الهلباوي يتدفق في الكلام، فما يروعك من هذه الجماهير الواجمة إلا أن تراها، برغمها، قد أرسلت حناجرها بالهتاف، وبعثت أكفها بالتصفيق!
والهلباوي خطيبا يشتري هوى سامعيه بأي ثمن: فهو يجد ويهزل، ويثب ويحجل، ويضحك ويبكي، ويعلو ويسف، ويثقل ويخف، ويكثف ويشف، وينظم الدرر، ثم يرمي بالشرر. وبينا تراه في وداعة العصفور، إذا به في شراسة النمور. كذلك يتشكل هذا الشيخ في خطبه ويتلون لكل مواقع الكلام!
وإذا كان الهلباوي خطيبا عظيما فهو ممثل أعظم! •••
نجم الهلباوي من أسرة في الغربية كريمة العرق، إلا أنها رقيقة الحال، فلما يفع قذفت به إلى الأزهر، فعكف على مدارسة علومه، وقد عرف بين لداته، من صدر أيام الطلب، بالفطنة وحدة الذهن والإكباب على تحصيل الدرس. وعلوم الأزهر، كما تعرف، تقوم على الجدل والمكاثرة بألوان التدليل، وكان الهلباوي فوق «أزهريته» تيك، عنيدا في رأيه، ملحا حتى على أشياخه في حواره، جريئا على مخاصمتهم في كثير مما تسقط عليه أفهامهم في مذاهب الكلام.
وهبط المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني مصر، فاتصل به الهلباوي كما اتصل به كثير من أهل المواهب والذكاء، وكان يعلمهم مسائل من الحكمة، ويلقنهم فصولا من فلسفة اليونان كما نقلها العرب عنهم. وقد مد السيد الأفغاني أذهان طلبته إلى كثير مما يحيط بهم، ففجر عقولهم، وجرأ قلوبهم، ودرب ألسنتهم على المنطق والمغالبة بفنون الجدل، وعودهم الجهر بالرأي دون الخوف من أحد. وفي ثنايا هذا كله كان يبعث في نفوسهم دعوة سياسية جريئة.
وخرج الهلباوي بعد هذا إلى ميدان العمل ، فاتصل اتصالا أوفى بالبيئات التي تفهمت حياة الغرب، وتروت علومه الحديثة، وأخذت أحلامها بمنطقه الطريف. وهكذا أصبح الهلباوي خليطا من كل ما تقلب فيه من أطوار الحياة!
وما اجتمعت هذه الأسباب كلها في نفس إلا اضطرمت وثارت، فلا تعود تستريح إلى قرار. فلا عجب إذا كان الهلباوي ثورة دائمة في هيكل رجل، والبركان دائم الفوران، فهو ينفجر من حين إلى حين وإن احتقن إلى حين.
ولقد يكون ما يظنه كثير من الناس ترددا في الهلباوي أثرا من آثار هذه الثورة النفسية، فإن الثورة لا تعرف نظاما ولا تستوي في شبوبها لطريق.
ولعل موقفه يوم دنشواي كان مظهرا من مظاهر هذه الثورة، على أنها هذه المرة كانت أدنى إلى تحدي الجمهور منها إلى ما اعتاد من تحدي السلطاء من أهل الحكم، وفي كل حال فقد كانت منه كبيرة، ولعلها كانت سقطة الرجل العظيم.
على أن أحدا لم يجرؤ على أن يحيل تردد الهلباوي، الذي قالوا، على طلب منفعة شخصية من منصب أو جاه أو مال. •••
وقد صحب القضاء المصري الحديث، ودارجه من أول نشأته إلى اليوم، فلم تكد تقع قضية ذات شأن في البلاد إلا دعي لها الهلباوي، فافتن وأبدع، وله في هذا الباب جولات معدودة له على وجه الزمان. فلا عجب إذا عد صحيفة من أحفل صحف القضاء المصري وأظهرها حواشي ومتونا.
وقضى هذا الزمن الطويل محاميا واضحا أمينا مجدا في عمله، حريصا على أداء واجبه، لم تحص عليه كرة واحدة مما يخمش وجه المحاماة.
ثم هو في علاقاته الشخصية شديد التوافي لأصدقائه، حريص على مودتهم، لا يقصر في أداء أي واجب لأي كان منهم. ولا أحسب الهلباوي قد عادى أحدا أو عاداه من الناس أحد إلا في شأن عام.
وإني كلما جاش في نفسي الحقد على الهلباوي بك، هرولت إلى مجلس النواب فشفيت صدري برؤيته، بعد كل ذلك! وقد امتثل حقا لحكم النظام، فهو يرفع إصبعه بطلب الإذن كلما أراد القعود أو القيام، وكلما أراد السكوت أو الكلام، وكلما طلع أو نزل، وكلما عطس أو سعل ، وكلما تحرف أو تخطى، وكلما تثاءب أو تمطى، وكلما دلك أكارعه، أو فتل أصابعه. ولا بد من الخضوع والطاعة لكل من ينتظم في سلك الجماعة، وإلا ساء النظام، واضطرب حبل الأحكام!
وكذلك أخمدت الحياة النيابية هذه الثورة الشيخة الفتية.
وإني إذا لم أصفه في موقفه الجديد بأنه أصبح «كالوحش يستدنيه للقنص المحل»، فإني أقول له: «ولا بد دون الشهد من إبر النحل!»
الدكتور محجوب ثابت
لا شك في أن الدكتور محجوب ثابت يعد بحق، في ميراثنا القومي، ولو - لا أذن الله - جرى عليه القدر، لكان لا بد للأمة من «دكتور محجوب ثابت» بأي طريقة من الطرق. نعم، هو في ميراثنا القومي لا يقل عن آثار سقارة، وجامع السلطان حسن، ومقابر الخلفاء. ولقد أصبح على الزمان جزءا من تقاليدنا الأهلية كحفلة المحمل، ووفاء النيل، وركبة الرؤية، وشم النسيم! ولما فكر المرحوم محمود بك رشاد في جعل العلم المصري محلى بصور بعض الآثار القديمة، فرعونية وإسلامية، لم ير المصور بدا من أن يرسم بجانب الهرم وأبي الهول وجامع برقوق وحضرة سيدي أبي السعود، صورة الدكتور محجوب ثابت.
والدكتور في المصريين كإنجلترا في الأمم، كل منهما يرى عليه للآخرين تبعات لا تنقضي على وجه الأيام! فإذا كان الكلام في النيل وما عسى أن يجتازه عن مصر خزان مكوار تولى «الدكتور» الكلام، وملكه على جمهرة المهندسين! وإذا كانت الثورة تصدر الدكتور لجنة الوفد المركزية، وكلما انتشرت في البلد مظاهرة كان ناظورتها
1
الدكتور، وكلما ساروا «بضحية حرية» كان الدكتور أول المشيعين، فإذا كان اجتماع في الأزهر كان الدكتور فارسه المعلم وعذيقه المرجب. فإذا تعانق الهلال والصليب، استأثر الدكتور من عناق الأب سرجيوس بأكبر نصيب.
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
فإذا وجد دهماء المصريين على الأرمن، وهم بعضهم بإيقاع الأذى بهم، طاف الدكتور بعربته «ومكسوينيه» على دورهم فنقلهم وعيالهم وأثاث بيوتهم إلى مأمنهم. فإذا غضب الأروام من أن بعض الرعاع أصابوا منهم على وهم أنهم أرمن، شخص الدكتور في الركب الحافل إلى دار قنصلهم فخطب جمعهم باسم مصر ومادهم حبال المودة، وعقد معهم، باسم الأمة والحكومة أيضا، فنون المعاهدات. وإذا كان جمع الأموال للوفد أغلق الدكتور عيادته «بالضبة»، وهاجر إلى قنا فلبث الأشهر الطوال يجمع ما تحتاج إليه القضية من جليل الأموال. فإذا كانت مشاكل العمال أبى الدكتور إلا أن يتفرد بها من دون الناس جميعا، فانتفض نقيبا لعمال العنابر، ولفافي السجاير، وسواقي الأتومبيلات، وشيالي المحطات، وندل
2
الفنادق والقهوات، وجميع طائفة المعمار، وأصحاب الحوانيت من كل بدال وبقال وجزار، وعمال المطابع، وكناسي الشوارع، وصناع الخيم، ومساحي «الجزم»، ولو فكرت طوائف الجرذان والسنانير، وجماعات الجعلان والصراصير، في أن تتخذ لها نقابات، لتمثل الدكتور ثابت فيها خطيبا، ثم استوى لها بفضل الله نقيبا!
وفي الحق إن الدكتور يرى نفسه مسئولا عن كل ما في البلد من هابط وصاعد، وقائم وقاعد، وغاد ورائح، وسانح وبارح، ودارج على متن الغبراء، وسابح في جوف الماء، وطائر في جو السماء. فإذا كانت هنالك منطقة خارجة عن اختصاص الدكتور محجوب فهي عيادته فقط! ذلك بأنه ليس برجل أثرة، بل هو رجل إيثار، يعنى من أمر قومه بكل دقيق وجليل، أما خاصة شأنه فلا يعنيه منها كثير ولا قليل.
ولا أحسب رجلا في مصر ولا في إنجلترا مشغولا بالسودان شغل الدكتور ثابت،
3
فحديث السودان يجري منه مجرى النفس، ولو هيئ له، أو لو هيئ لك أنت، على الأصح، أن تستمع له لحدثك في شأن السودان ثلاثين عاما متصلة لا ينقطع ولا يتحبس، ولا يتلجلج ولا يتلعثم، ولا يمل ولا يكل، ولا يبطئ ولا يزل.
وللدكتور في مشكلة السودان نظرية طريفة جدا، فإنه يرى أن كل العقدة فيها إنما هي في إقناع المصريين وحدهم بقبوله وإدخاله بلا قيد ولا شرط في ملكهم الخالص، فهو كلما رأى رجلا أو امرأة أو صبيا أو وليدا أقبل عليه «يقنعه» في قوة وحماسة بقبول السودان، وتدفق ما شاء الله أن يتدفق بألوان الحجج لحق مصر في السودان وحاجة مصر إلى السودان، وما أنفقت مصر على فتوح السودان، ومن أبلى من أبناء مصر في حروب السودان. ولو أن رجلا مسح السودان شبرا شبرا، وذرعه فترا فترا، ما كان أعلم به من الدكتور ثابت، على أنه لم يره ولم يزره طول حياته مرة واحدة. وقال له بعضهم يوما: لقد جعلت السودان شغلك يا دكتور حتى أصبحت رمزه في هذه البلاد، فهلا زرته وتفقدت أهله؟ ففتل عثنونه وقال: لا حاجة بنا إلى هذا، فقد عرفناه وخبرناه ... ولا أدري أكان هذا من الدكتور ورعا أم كسلا!
ويظهر أن الدكتور ظن بعد لأي أن المصريين غير مقتنعين بضرورة «أخذ» السودان، فشخص إلى سوريا ليقنع أهلها بضرورة «أخذ» المصريين للسودان! فقد بلغني أن ذلك كان حديث الدكتور هناك في مسائه وصباحه، وغدوه ورواحه، وموضوع مفاكهاته وأسماره، في مقامه وتسياره.
ورأى الدكتور في «أخذ» السودان أبدع من رأي ذلك الفلاح المكاري، إذ قال لإخوانه يوما: كيف لا تهنئوني؟ فقالوا: بماذا؟ فقال: بأنني سأتزوج بنت السلطان! فقالوا له: وهل قضي الأمر؟ قال: بل نصفه، فإنني وأبي قد رضينا ولم يبق إلا هي وأبوها! ... أما الدكتور - أعزه الله - فإنه لا يرى بين المصريين وبين أخذ السودان كاملا بلا قيد ولا شرط، ومن فوقه ملحقاته وملحقات ملحقاته، إلا أن يرضوا هم! ... وقد قلت له يوما: ألا جعلت بعض همك إقناع الإنجليز أيضا بترك السودان لأصحابه المصريين؟ فأجابني بكل قوة وثقة: لا! ما يقولوش حاجة!
حقا، إن هذا الرجل أمة وحده، وإنه لعبقري لا يتدلى إلى منطق الناس وأسباب تصورهم، فإن له قياسه وتقديره، وله منطقه وتفكيره، وله أسلوبه وتدبيره. وأظهر صفاته في هذا الباب أنه لا يحفل بما لا يسمونه الواقع كثيرا ولا قليلا، فحسبه أن يشتهي الأمر فيقدره واقعا، أمكن ذلك الأمر أو استحال، ومثله من تخيل ثم خال. ولقد كان في سنة 1921 يسعى جاهدا في أن ينتظم عضوا في الوفد المصري، وقد وسوس له شيطان من الإنس بأن عدلي باشا فكر في تعيينه مستشارا في الوفد الرسمي لولا أن انتهى إليه أن سعد باشا سيلحقه بالوفد المصري، فكان جوابه على الفور: مافيش مانع يا سيدي! وهكذا طمع الدكتور في أن يكون عضوا، معا، في الوفدين المتقاتلين سنة 1921!
وأذن الله ودخل الدكتور في الوفد المصري طبعة ثالثة أو رابعة بعد ما عصفت القوة بجلة رجاله سنة 1922، ثم بدا له، لأمر ما، أن «يشلحه» فكانت تخرج النداءات والمنشورات ممهورة بتوقيعات رجال الوفد وليس اسم الدكتور فيها، إذ الدكتور مصمم على أنه ما برح عضوا في الوفد يلتمس «لعضويته» المعاذير بأنه ربما دعي للتوقيع فغاب، أو أرسل إليه فلم يبلغه الكتاب، على حد قول الشاعر:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا
وإذا ننس يدعنا التط ...
ونقل علنا دعينا فغبنا
وآتانا فلم يجدنا الرسول!
وظل الدكتور برغم طول المدى وذيوع الأخبار «بشلحه» مصمما على أنه ما زال عضوا في الوفد. وقد جادله بمحضري في ذلك قوم، فكانت كل حجته أن محمدا أفندي - كذا - قابله يوما فحياه، وقال له: «يعني ماحدش بيشوفك يا دكتور؟!» ومحمد أفندي هذا يزور السيد حسين القصبي أحيانا، فلا بد أن يكون سمع هذا من الوفد، فكيف تزعمون بعدها أنني لم أبق عضوا في الوفد؟
هذا كلام له خبيء
معناه: ليست لنا عقول
ومن أظرف نوادره، أنه في غيبة الرئيس الجليل حدثت بينه وبين بعض رجال الوفد جفوة، فانقطع عن زيارة بيت الأمة، فقيل له: إن السيدة أنيسة الرشيدي نازلة بدارك، وهي تستقل كل يوم مركبتك إلى الأمة، والناس كلهم يعرفون «مكسويني» وإنهم ليرونه هناك فلا يشكون في أنك الزائر! فقال: لقد نبهنا على الأوسطى «علي» إذا نزلت السيدة أن يقف على الرصيف الثاني احتجاجا!
وكانوا يرشحون لمناصب المفوضين والقناصل لتمثيل مصر في البلاد الأجنبية، فتقدم الدكتور، فقيل له: ولكنك حذقت الطب. أما التمثيل السياسي فشيء آخر. فقال: ومن أخبر به منا يا ولدي! لقد عجناه وخبزناه، فقد كنا في «جنيف» وكان يجلس معنا أحيانا على بعض قهواتها سكرتير قنصل إنجلترا وتناول الشاي معنا مرارا! ... •••
والدكتور محجوب ثابت عريض الألواح بعيد مدى العظام لولا أن في جسمه رهولة، أميل إلى الطول، فإذا مشى خلته أحدب وما به حدبة، ولكنه انحناء الظهر من ثقل التبعات لا من ثقل السنين. عريض الجبهة إلا أن أسفل وجهه أعرض من أعلاه. يرسل سبلته وعثنونه وشعر عارضيه في هيئة لطيفة مقبولة، وله عينان رقيقتان ترتسم في بياض كل منهما دائرة تحيط بدائرة حتى تنتهي إلى إنسانها، وهما دائمتا الحركة والاختلاج. وهو بعد طيب القلب، مكفوف الأذى، عذب الروح، حلو الحديث، ضحوك السن، يتحرى في قوله غريب اللغة، ويلتمس الشاهد من مأثور شعر العرب، وقد يجيء به أحيانا مكسورا غير متزن. أما قافاته فحدث عنها ولا حرج. جزت بداره مرة فرأيت بنتين صغيرتين تتلاعبان، فقالت إحداهما للأخرى: هذا بيت الدكتور، فسألتها: ومن الدكتور؟ فقالت لها: ألا تعرفين الدكتور الذي يقول يا بنت هاتي القبرة! «الإبرة».
وفيه ذكاء حاد، يديم القراءة والنظر في الكتب وكأنه يحفظ بظهر الغيب كل ما يقرأ، تعرف هذا من علمه الواسع الذي يكاد يستغرق كل ما في الدنيا وكل أسبابها، إلا أن علمه - مع الأسف - يختلط بعضه ببعض، حتى ليخيل إليك أن رأسه «كتبخانة مدشوتة». ولو قد ملكت أمره، وكانت لي بسطة في المال والسلطان لدعوت بمستشرق ألماني فني؛ لينظم هذه المكتبة العظيمة فيضم كل شكل إلى شكله، ويجمع كل جنس إلى جنسه، ويرد كل معنى إلى بابه، ويصف كل فن في «دولابه».
ومن أخص صفات الدكتور ثابت، أنه لا يكاد يشعر بمرور الزمن، وإذا كان من آية يوشع أن الشمس رجعت له مرة، فإن من آية دكتورنا عند نفسه أن الشمس تثبت له موضعها على طول الزمان، فأنت إذا دعوته ليتناول الغداء معك أقبل عليك الساعة 5 بعد الظهر حتما في غير ورع ولا اعتذار. ولقد دعاه صديق لي وله لتناول الإفطار في رمضان ولبثنا ننتظره برهة، فلما أيسنا منه أفطرنا، وفي نحو الساعة الحادية عشرة أقبل الدكتور مشمرا للفطور، وما كان أشد دهشته «يقينا» إذ علم أننا أفطرنا من أربع ساعات فانطلق يزمجر و«يزوم»، ويعتب ويلوم!
ومما يذكر للدكتور في هذا الباب أنه ما أدرك قط القطار الذي يعتزم السفر فيه، حتى تقرر عند جميع أصدقائه أنه إذا آذنهم بالسفر إلى بورسعيد في قطار الساعة 7 صباحا شخصوا إلى المحطة لتوديعه في قطار الساعة 11، وإذا آذنهم بالسفر إلى الإسكندرية في قطار المفتخر، كانوا في وداعه بقطار الساعة 7 مساء.
وسافر مرة إلى الإسكندرية لوداع الآنسة سنتيا موير الصحفية الأمريكية، وأخذ تذكرة للذهاب والإياب على أن يعود من يومه، فلبث هنالك قرابة شهرين ونصف شهر.
ولو قد ذهبنا نعدد لطائف الدكتور محجوب وبدائعه، لما اتسع للحديث مثل هذا المقال. وإنه ليجمل بنا في موضع الإنصاف أن نقرر أن الرجل شريف النفس، عفيف الجيب، جمع للنهضة المصرية من مديريتي جرجا وقنا قرابة خمسة عشر ألف جنيه، أبلغها كلها محلها، لم يقتطع منها درهما واحدا حتى ولا لأجرة القطار وسائر نفقات السفر وهي غير قليلة، فضلا عما احتسب عند الله من خراب الأجزاخانة، ودمار العيادة، وفرار الزباين، وسرقة شبابيك الدار.
وهو لا يتعمل للدرهم ولا يجري وراءه؟ أما إذا سقط الدرهم إلى جيبه فلا إلى رجعى، فمثله في ذلك مثل المصيدة لا تجري وراء الفأر، فإذا سقط إليها الفأر، فهيهات ليس له منها فرار. وله في هذا الباب أحاديث مذكورة وأفاكيه منشورة. •••
وبعد، فالدكتور محجوب ثابت أمة وحده بما اجتمع له من الصفات، وما احتشد لديه من فنون المعلومات، وما تكدس عليه من ألوان التبعات. وهو إذا اعتبر لنفسه حق التحدث على كل شيء، والدخول في كل دقيق وجليل من شئون البلاد، فقد وجب بإزاء هذا أن يكون لكل مصري فيه نصيب. وإني لأقترح على الحكومة أن تصدر قرارا بنزع ملكيته وإضافته إلى المنافع العامة، ولعلها بعد العمر الطويل تجعله من نصيب دار الآثار، حتى يظل رمزا لتلك العبقرية الفريدة على طول الأعصار؟
الدكتور محجوب أيضا1
وإن الحديث ليحلو دائما في الدكتور محجوب راسبا في الانتخاب، وعضوا في مجلس النواب. كما يحلو فيه ملحا في طلب السودان، ومشغولا عنه بالكلام في السماط والخوان. وإني لأوفر هذا الحديث على عتاب صديقي صاحب «الكشكول» على قسوته هذه الأيام على الدكتور وإغلاظه القول فيه بعض الأحيان. والأستاذ فوزي يداين صاحبه بقسط كبير من نجاحه في الانتخاب، فلقد طالما أيده بشديد القول في جريدته القوية، كما آزره بشخصه في الإسكندرية إذ حزبه الأمر وأعوزه النصير.
والأستاذ إنما ينقم من الدكتور أنه حين استوى على كرسي في مجلس النواب تكرش لسانه في شدقه وتقبض. فلم يعد يهتف بالسودان، ولا بملحقات السودان، ولا بشيء مما يمني به ناخبيه، ويصدع به رءوس المختلفين إلى «صولت»، وقهوة الشيشة، ونقابة العمال، ومطعم «الكوارع»، وحلواني محطة الرمل، والمترددين على عيادته من كل أرمد العين، ومضروب بالفالج، ومقروح الكبد، ومن خرج به جرب أو برص، وشاك مرض القلب وخفقانه، أو وجع الضرس وضربانه، ومصدورة تدارك بالعلة زفيرها، وماخض علا صياحها وزحيرها. وحين أظفره ناخبوه بمقام النيابة نسي وعوده المعالجة بالسمن والعسل، وخفر عهوده لأهل مينا «البصل» وترك حديث السودان في مجلس النواب، وأقبل على حديث «الكنافة» والكباب، وترديد ذكر الفطائر المدحوة، والقطائف «المحشوة»، والدجاج والسكابيج، والدراج والطهابيج، واللحمان المحمرة، «والطواجن المعمرة»، وكل ما يعالج بالسمن أو بالزيت، وما يصنع في السوق وما يطهى في البيت!
وما خفر الدكتور بالذمة، ولا خاس بعهده للأمة، فإنما كل هم الدكتور كان من أمر السودان أن «يقنع المصريين بضرورة أخذه»، وقد سعى الرجل في هذا ودعا ولبث في دعوته تيك سنين طوالا لا يكل ولا يمل، ولا ينقطع ولا يحتبس، ولا يتتعتع ولا يعثر، ولا يسكن ولا يفتر. حتى إذا آتت دعوته أكلها «واقتنع» المصريون كلهم «تقريبا» بأن السودان ضروري لهم وبأنهم لا غنى لهم عن ماء النيل، شمر ذيله وطار إلى سوريا وظل دهرا يفشي فيها دعوته، حتى إذا آمن السوريون كذلك بأن السودان ضروري للمصريين عاد فأمسك عن القول في السودان وملحقات السودان، وما له يقول فيه بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة؟ ولو كنت لعمري مكانه، لطلبت إلى الأمة إحالتي على المعاش، وأثبت في بطاقة زيارتي:
الدكتور محجوب ثابت
مطالب بالسودان سابقا، وعضو مجلس النواب حالا
وحسب الرجل خدمة للأوطان أن «أقنع» المصريين بحاجتهم إلى النيل وحاجتهم إلى السودان! و«الوطنية» كما تعلم فنون، ولله في خلقه شئون!
الدكتور علي بك إبراهيم
رقيق الجسم، أدنى إلى أن يكون هزيله، أسمر اللون، مستطيل الوجه، غليظ الشفتين في غير قبح، واضح الثنايا، لعينيه بريق وفيهما جمال. متفخم اللفظ، تاؤه بين التاء والطاء، وزايه بين الزاي والظاء، وادع النفس، هادئ السعي، خفيف الروح، ظريف المجلس، لا يجد العنف إلى عواطفه سبيلا، يقصد في طربه، كما يقصد في غضبه.
فيه حد الفتى وحلم المزكى
وحجى الكهل وارتياح الغلام
ولعل هذا الهدوء العجيب من أبلغ العناصر في نجاحه في عمله المرعب الدقيق، وشأنه كشأن جميع النوابغ في الدنيا: ليس لهم من مظاهرهم ما يدل على أخطارهم، إلا أنك لا تستطيع ألا تلحظ أن لهذا الرجل أصابع ليست من جنس أصابع سائر الناس، فإنها تسترعيك بطولها وسراحتها وانسجام خلقها، على أنه إذا تحدث رأيته يستعين دائما بسبابته ووسطاه، فما تزالان كالمقص في انفراج والتئام إلى أن يفرغ من حديثه، حتى إنك لتعرفه من أصابعه كما تعرفه من وجهه، ولو قدر لمصور أن يرسم أصابعه وحدها لدلت عليه إلى غاية الزمان.
لقد تسنم غارب المجد، وبلغ من الشهرة ما تتقطع دونه علائق الآمال، وهو مع هذا لا يحفل قط بما كان ولا بما سيكون ولا بما سوف يكون، ولا تحسبه يطمع في أكثر من أن يعيش في غمر الناس كسائر الناس.
فيه شفاء للناس.
يا له من رجل! لقد تكون في مجلسه معه غيرك، ولقد تكون معه وحدك وأنت مفيض أسبابه ومطلع سره، فتعرض ذكرى فلان الجراح فيقول لك: «بالك فلان ده، ويومئ لك بأصبعيه سالفتي الذكر، ده والله جراح ما له مثيل! ده شيء من فوق التصور! لو كان للجدع ده بخت ماكانش حد زيه في الدنيا!» يقول هذا في رضا وصدق نفس وراحة أعصاب! ... والواقع أنني لا أدري أكان هذا كله قد جاءه من طبيعة صفاها الله من كل ما يتداخل أرباب الفنون، أم أنه تمكن من نفسه واستوثق من أنه لن يتعلق أحد بغباره مهما افتن لإخوانه الجراحين في ألوان الشهادات!
ثم هو شديد العطف على إخوانه الأطباء عامة، عظيم العون لجماعتهم، رطب اللسان فيهم.
ومن أظرف نوادره، أن رجلا من كبار الأغنياء قدم إليه يشكو علة لا تتصل بالجراحة، فقال له: يا عم لا شأن لي بمرضك، فاذهب إلى الدكتور فلان أو الدكتور فلان أو الدكتور فلان، فهم الذين يحسنون «تشخيص» علتك، ويقدرون على علاجك. فقال الرجل: بل إنما قصدت إليك أنت ولست أرضى أحدا يداويني غيرك، وجئت معي بكذا وكذا من الأموال فخذ مني، على أن تعالجني، ما تشاء! فقال له الدكتور: وأنت إذا أعطيتني ما تشاء فلن أداوي علتك؛ لأنها ليست من عملي ولا تتصل بفني، إنما أنا رجل جراح. فألح الرجل وتضرع، فلما أعياه أمره قال له: اسمع يا عم، لو تلف «كالون» بيتك، هل تجيء له بنجار أم بكواليني؟ فقال: بل بالكواليني. فقال له: مرضك هذا أنا لا أعرف فيه. قال الرجل: فماذا تصنع إذن؟ قال له: أنا أفتح لك كرشك، أكسر رجلك، أقطع رقبتك! وهذا الذي أعرفه. فانصرف الرجل مقتنعا راضيا!
ولست أحاول أن أصف لك قدر الدكتور علي إبراهيم ولا نبوغ مبضعه، فحسبه أن سلم الناس إجماعهم له بأنه مفخرة من مفاخر هذه البلاد. ولقد قلت لأحد الأطباء يوما: صف لي براعة الدكتور علي إبراهيم، فقال لي: أعرف أنك تحب الغناء وتهوى الموسيقى، ولو كان لك عرق في فن الجراحة وقدر لك أن تشهد «عملياته»، لوجدت لأنامله من الطرب ما لا تجده لأنامل «العقاد» وهي منطلقة في أوتار قانونه الحنان الطروب.
على أن نبوغه لم ينته إلى حذق الطب، والمهارة البارعة في فن الجراحة، بل إن له في كثير من «العمليات» ابتكارات من ذلك النوع الذي يؤثر ويدرس ويحدث في نظريات الفن أحداثا.
وإنهم ليروون عنه جهدا عظيما في متابعة الحركة الطبية في العالم، فهو كثير القراءة والنظر فيما يخرج في هذا الباب من المجلات والكتب والرسائل، حتى إذا وقعت له نظرية حديثة فاستوت لذهنه، أقدم على تطبيقها بنفسه، فكان نجاحه دائما كعزمه قويا جليلا. •••
وبعد، فإن جهلا أن يظن امرؤ أن للعبقريات في العالم أسبابا معينة معروفة، فما كان هؤلاء العبقريون أصح من غيرهم أبدانا، ولا أكثر قراءة، ولا أعكف من سواهم على الدرس والتجريب وتقليب النظر، ولا أطلب ممن عداهم لتلك الأسباب المفروضة للبراعة والتبريز، فلقد كان البحتري شاعرا في سن العشرين كما كان شاعرا في سن السبعين، وكان ابن المقفع كاتبا وهو ابن الثماني عشرة كما كان كاتبا حين قبض وهو في الثامنة والعشرين، وكان رفاييل مصورا رائعا يوم جالت يده بالنقش كما كان مصورا في غاية عمره. وكذلك كان علي إبراهيم جراحا أول منجمه كما هو جراح اليوم، إنما هي مواهب من الله تعالى يتخير لها من يشاء من عباده، لم يتكشف العلم عن كنهها ولا سببها إلى اليوم.
وإنك لتجد الطبيب يصيب دائما في تشخيص العلة إلا قليلا، وإنك لتجد الآخر يخطئ دائما في تشخيصها إلا قليلا، ووسائلهما في الفن واحدة، وحظهما من العقل والعلم وسائر الأسباب متكافئة!
ذلك أن هنالك حسا دقيقا غير تلك الأحساس المعروفة يكاد يتفطن به من آثره الله به إلى مطاوي الغيب، فيقع الشيء في نفسه يحسبه إلهاما؛ لأنه لا يعرف له علة ولا يحيط منه بسبب، ومن هؤلاء الذين اصطنعهم الله لهذه الموهبة الدكتور علي بك إبراهيم.
ومما يذكر له أنه في سنة 1902 لوحظت كثرة الوفيات في قرية موشة، من أعمال مديرية أسيوط، فندبه مدير الصحة، وكانت له به ثقة عظيمة، ليحقق الأمر، وكان بعد فتى ناشئا، فأدرك أنها الكوليرا، فكتب إلى الصحة بهذا، وأرسل رجيع بعض المصابين لتحلله، فلم يره «التحليل» أثرا للكوليرا، فراجعها وأرسل غيره، فكان الأمر كذلك. فصمم الفتى واستبد من ناحية، وصمم أطباء مصلحة الصحة وكيماويوها من ناحية أخرى، ثم أبى العلم وأبى «التحليل» الصحيح إلا أن يظهر رأي علي إبراهيم على تلك الآراء جميعا، وكانت الكوليرا التي عصفت سنة 1902 بالبلاد عصفا شنيعا، والتي أبلى هو فيها، حتى تقلص ظلها، بلاء عظيما. •••
وسبحان من يقرن قضاءه باللطف، فإنه في الوقت الذي بث فيه هذا الترام في شوارع البلد وأزقته يدك الرءوس، ويحصد النفوس. وأطلقت آلاف الأوتومبيلات، واللوريات، والموتوسيكلات، تقد المتون، وتبعج البطون، وتأبى «الشفقة» على سائقها أن يرسلوها على خلق الله قبل أن يحشوا معاطسهم بالكوكايين، والهارويين، وغيرهما من البلاء المبين، حتى «يغيبوا» عن مشاهدة ما تنسف سياراتهم من الهام، وما تفري من الأجسام، وما ترسل على الناس من الموت الزؤام! ولا تنس، جعل الله لك في كل خطوة ألف سلامة، تلك السيارات العاصفة، ما لها من دون الله كاشفة. وتيك التي يتخذها أبناء الذوات ومن انحدرت إليهم النعمة، وهي تنطلق انطلاق السهام، في أجساد الأنام، كان مهمتها في هذا البلد صنع أرامل وتخريج أيتام - سبحان الذي حين يبتلي البلد بكل هذا، يرسل فيه الدكتور علي إبراهيم، يجمع من أعضاء الناس ما تفرق، ويرم من أحشائهم ما تخرق، ويضم من أشلائهم ما تمزق، حتى أوشك أن يقطع على عزريل، رزقه من فنه الوبيل!
ولقد رأيت صديقا لي من أهل الأخطار، لا يرى الدكتور علي إبراهيم يجوز في طريق أو يغشى ناديا إلا صف قدميه، ووقف «زنهار»، ورفع يده بالسلام العسكري، فقلت له في هذا، فقال: «علشان ياخد باله مني يوم أحمل إليه»، فقلت له: يا لك من رجل مبالغ، فكان جوابه: على كيفك، لك ترمواي يترد عليه! •••
وجل من تعالى على النقص وتنزه عن العيب، فإن جراح الشرق كله لا يملك مستشفى يليق بجلالة محله، ولا بآلاف «المجاريح» الذين يطلبون مستشفاه من كل مكان، فقد سلطت عليه شهوة اقتناء «السجاجيد»، وألوان الطرف، وإحراز ما أبدعت يد كل فنان، وما افتن فيه كل صنع حسان، ومن كل ما رثت فيه العصور ونصل عليه لون الزمان، من دمى وتماثيل ، وتصاوير وتهاويل، ونمارق ووسائد، ومعاضد وقلائد، وخشب منجورة ، وأحجار محفورة، ومزاليج أبواب، وسروج دواب، وشرفات دور، و«شواهد» قبور، وضباب مصبرة، وجرار مكسرة ... إلخ، ولو نفض عنه بعض ما يحرزه من ذاك؛ لابتنى مستشفى يليق حقا بشيخ الجراحين! على أننا نترك الكلمة في هذا للمجلس الحسبي!
وبعد، فإن حقا على أهل مصر جميعا، ومياسيرهم بنوع خاص، أن يسجدوا لله تعالى سجدة الشكر كلما أطلت شمس الصباح عليهم؛ اغتباطا بأن علي إبراهيم غير ولوع بجمع المال، فلو كانت لغيره تلك الأصابع التي «تسرق الكحل من العين»، لآثر أن يكون «نشالا»، إذن والله لسل الآلاف، ولأحرز أكثر مما تجدي «الجراحة» أضعاف الأضعاف، ولما أبقى في جيب على كيس، ولا هنئ الناس بكريم ولا نفيس، ولكن قدر فكان، وسبحان من «يعطي الحلقة للي بلا ودان!»
أحمد لطفي السيد بك
لا أدري، أعلمه أوفر من عقله، أم عقله أوفر من علمه؟ إلا أنه أوفى بهما كليهما على الغاية. وهو عالم واسع العلم، وعاقل واثق العقل، وذكي متسعر الذكاء. له عينان حديدتان كأنما تمدهما أشعة «إكس»، فلا يكاد يقوم بينهما وبين ما تريدان حجاب. وإنه ليحاول أن يستر عنك إدراك هذا منه بمنظاره الأسود، كما حاولت الطبيعة أن تكتمه على الناس بما ضيقت في محجريهما تضييقا!
وأحمد لطفي السيد قد بان خطره من يوم نجم، فكان طالبا في مدرسة الحقوق، لا تعنيه مدارسة القانون المدني، ولا يحتفل لقانون تحقيق الجنايات، ولا يهمه أين تقع «نمرته» من سلك التلاميذ في امتحان غاية العام قدر ما تعنيه مدارسة المنطق والفلسفة وعلوم الاجتماع، على أنه كان مجليا في الأولى كما كان مجليا في الثانية. وبهذا، خرج لطفي على غير ما يخرج سائر التلاميذ، خرج وله عرق في الحكمة والمنطق وسائر علوم النظر، لا يتسق في العادة لإخوانه «الحقوقيين».
درج مدرج نظرائه في الحياة العلمية حتى كان نائبا أو رئيس نيابة، على أن خطبه في ذاك لم يكن جليلا، فقد انصرف همه، إلا أقله، إلى تحصيل العلم والأدب، وأخذ العقل بالتدبير وصدق النظر، وأخذ اللسان والقلم بفصاحة القول وقوة البيان بالحديث والخطابة، وبالترجمة والتأليف، وتارة بالكتابة في الصحف في ألوان الموضوعات.
من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم.
ثم كان حزب الأمة وكانت «الجريدة»، وتهاوت الأنظار على من يقوم بها كفاء لمهمها الجسام، فوقعت كلها عند لطفي السيد، وتولى الجريدة فكان كاتبا لا يبارى كما كان صحفيا لا يضارع. وبانت له موهبة جديدة أحوج ما يكون إليها امرؤ يتولى تلك «الجريدة» في ذلك العصر، وهي شدة الطبع والصبر على الخصومة وطول الكفاح. وناهيك بمن يصمد للقتال إذ شيخ الكتاب علي يوسف يتولاه عن يمينه، وإذ فتى الوطنية مصطفى كامل ينقض عليه أحيانا من شماله، وإذ أمامه، ولا أسمي، من لا يشق في الكيد غباره، ولا تصطلى في الجلى ناره، ومهما زعموا أن وراء حزب الأمة كانت قوة تعضده وتشد متنه، فما كان من شأن هذه القوة أن تقرب إلى هوى الناس جريدة، وكانت في الوقت نفسه تتحدث على أماني البلاد، وتطلب أن يسودها حكم الدستور، وإن طلبته دستورا «متواضعا» كما كان يهتف أستاذنا الجليل، ومع هذا فقد تهيأ لمقدرة لطفي أن تستدرج الخاصة وأشباه الخاصة في عامة البلاد، وأضحت دار «الجريدة» منتدى أهل العلم والأدب والرأي الصحيح ينتجعونها من كل مكان.
لم يكن لطفي في سنيه تيك صحفيا فحسب، بل كان أستاذا يشرع في العلم والفلسفة وفنون الاجتماع، وكان له طلاب من الشباب أهل المواهب والذكاء، فما راقك اليوم من علم فلان، وما أعجبك من عقل فلان، وما راعك من أدب فلان، فأولئك، في الحق، أكثرهم من صنعة لطفي السيد في تلك الأيام.
وهو رجل له، أو كانت له، شخصية قوية: له نظره، وله تدليله، وله أسلوبه الكتابي، بل وله إيماءته وحديثه. وإن كثيرا ممن كانوا يطوفون به ليقلدونه في كل ذلك، فمن أعيا عليه تفهم علمه وأدبه راح يقلده في شكله ودله، ويحاكيه في لهجته ومخرج حروفه.
ومن ظريف ما يروى في هذا الباب، أن فتى من أبناء الحكام أصحاب لطفي كان يعجب به هو الآخر طوعا لإعجاب الناس، فكان جهد حيلته في بلوغ بعض شأو لطفي أن ينسل إلى حلاقه، فيسأله أن يسوي له رأسه كما يفعل بشعر الأستاذ سواء بسواء، ثم يغدو على الناس بعد ذلك يقبض صوته ويرسله، ويلويه ويعدله، ويفككه ويلحمه، ويرققه ويفخمه، ويثني عطفيه من زهو واستكبار، ويهز كتفيه من استنكاف واستنكار، ثم يعود إلى نفسه فيراها قد استوت «لطفي السيد» في غير جهد ولا عناء! ... وما دام العلم والفلسفة كلها إنما تتصل «بالحلاقة»، فلماذا يقف صاحبنا عند هذا الحد؟ وإني لأراه يغذ
1
السير فأسأله: إلى أين يا فلان؟ فيقول: إلى الحلاق فقد اعتزمت اليوم أن أحلق «مونتسكييه» أو «أوجست كونت» أو «جان جاك روسو» أو غير أولئك من ضخام الرجال. ومثل هذا عندنا، لو لاحظت الناس، كثير!
ونعود إلى الأستاذ لطفي، فقد ظل في كفاحه وجلاده؛ إذ خاصة الناس كل يوم عليه في إقبال، حتى ضعضعت أفاعيل السياسة حزبه فكان آخر من ألقى السلاح. ثم عاد إلى النيابة فلم يتصل شأنه فيها بجلالة شأنه حتى كانت سنة 1919، فضحى بالمنصب في سبيل الثورة، وانتظم في الوفد المصري عضوا فكان فيه عنصرا قويا. وكانت أداته في أكثر ما يخرج للناس من بيان مكتوب. وانطلق مع الوفد إلى أوروبا ولبث معه عاملا نافذا، ما شاء الله أن يلبث، ثم عاد مع من عادوا أول الأمر. وتظهر بوادر الشقاق فيبدو له أن يتحفظ فيتحفظ، ثم يستفحل الخطب فيهديه عقله إلى أن يتسلل إلى داره في رفق فيفعل، فيبقى حلس
2
بيته سلما كله، حتى يطلب لما هو أليق به وأكرم، فيتولى دار الكتب المصرية ينظر في شأنها بعض اليوم، وينظر في شأن العلم سائره. وكان من حظ «نصف العزلة» هذه، أو من حظ العلم منها، أن أتم ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطاطاليس «إلى نيقوماخوس»، وما كان الإبداع في ترجمة هذا الكتاب بأبلغ من الإبداع في الإقدام على إخراجه في مثل تلك الأيام!
ولقد فاتني أن أقول لك إن هذا الرجل الذي ضحى بالمنصب في سبيل الثورة، قد عاد فضحى بالثورة في سبيل المنصب، فأصبح كما يقول أصحاب الميسر «كيت»؛ لا له ولا عليه، وإلى هنا ينتهي عندي تاريخ ذلك الرجل العظيم!
وعساك تتحداني بأنه أصبح الأستاذ الأعظم الرسمي في كل البلاد من يوم أصبح «مدير الجامعة»، فأجيبك بأني «ماعنديش خبر» بشيء من هذا كله، وكيف تريدني على أن أصدق أن الأستاذ لطفي السيد كله أصبح مدير الجامعة المصرية، في حين لم أسمع بأنه أفاض على الطلاب درسا أو ألقى محاضرة في العلم واحدة! فإن كنت تريد «بمدير الجامعة» ذلك الموظف الذي ينكسر همه على طلب كسى الحجاب والسعادة، و«تسوية» أجور البوابين والجناينية، و«العرض» لوزارة المعارف عمن يلزم ترقيتهم من جماعة الكتاب، فليس ذلك بالرجل الذي يعنينا في مثل هذا المقال.
الحق أن لطفي أستاذي، وإنه ليسوءني أن يختم حياته في هذه «الجامعة» من حيث يجب أن تبتدئ الحياة القوية لعظماء الرجال!
والواقع، أن الداء «الأجنبي» قد تغشى تلك الجامعة، في حين لم نر لذلك «الحكيم» قولا ولا عملا! ولو كان هذا المقام مقام تفصيل في هذا الباب لباديت أستاذي العظيم بكثير! •••
ولطفي بك يجمع إلى عذوبة الروح عذوبة الحديث، وهو أديب تام يحفظ صدرا عظيما من متخير شعر العرب ومأثور أقوالهم، إلى فقه في متن اللغة ورعاية لدقائقها، وبخاصة إذا كتب أو حاضر أو خطب. وله في أبواب البيان والترسل أسلوب خاص به، حاول كثير من الكتاب أن يتكلفوه فانقطعوا دونه. وهو شديد الحرص على أن يريك أنه لا يعبأ بتجويد العبارة ولا يتحرى اللفظ الرشيق إذ هو في الواقع يجهد في هذا، رغم عنايته بالمعاني والتكثر من إيراد مصطلح العلماء، ويتعمل له إلى ما دون التعسف.
وهذه الصفة في لطفي السيد، إنما تتصل بأخلاقه جملة، فهو رجل قد أخذ نفسه من كل أقطارها بألوان التكلف: يتكلف في مراح الشباب ثقل الشيوخ، ويتكلف في مجلس اللهو هيئة الجد ، ويتكلف عدم الاكتراث لأعظم ما يكرثه من الأمر ، بل إنه ليتكلف الكلام «بالجاف» إذ هو قد نجم في بيئة لم يعد يرتبطها بأهل الريف سبب!
نعم، لقد أخذ نفسه بهذا التكلف كله، حتى أصبح له طبعا وسجية. وأكبر ظني أنه لو شاء يوما أن يرسل نفسه على سجيتها لتكلف في هذا كثيرا.
ولطفي بك أول من رفع راية «الديموقراطية» في مصر في هذا العهد الحديث، وهو الذي نفخها في روح الشباب وأجرى كلمتها على ألسنتهم، وعصارة الحزب الديموقراطي من تلاميذ لطفي ولا جدال، وإنك لتراه مع هذا أرستقراطي الفكر، شديد الأثرة للرأي! ولقد تخالفه إلى غير وجهه فيأبى إلا أن يغلبك، ولقد يغلبك بمحض الجدل يتحرف فيه تحرفا. وهو رجل يملك حجته ويعرف كيف يصول بها عليك في الحوار. فإذا كنت أنت الآخر جدلا متمكنا من حجتك، وأحس منك السطوة برأيه، رأيت في وجهه تغيرا، وآنست من نفسه عنك انقباضا.
ولا أدري، أكان هذا من أثر تمكنه من نفسه وشدة إيمانه بحقه وكراهته أن تنزل من الرأي على باطل، أم أن للمسألة وجها آخر؟! •••
وإذا كنت لم أقع من لطفي على أجل فضائله، فلعلي قد تهديت إلى أجل مكارهه إن كان ما هتفت به يعد في المكاره، وإني لأرجو بهذا أن أصيب رضاه كاملا. ولقد دخل رجل من الناس على بعض الحكماء، فأقبل عليه يمدحه ويعدد محامده. فقال له الحكيم: «هذا أولى لك؟ وإن إكبارك لما ترى في من فضل لدليل على أنك لا تراني كفئا له، فلو قد دللتني على هناتي! فتلك التي ليست بكفء لي.»
أسأل الله تعالى أن يعيننا على خدمة أساتيذنا وأحبابنا، فنحن في حقوقهم من هذه الناحية جد مقصرين!
إسماعيل سري باشا
طويل القامة كبير الهامة، عريض «الوجهة» ناتئ الجبهة، ضخم الأنف، مرسل اللحية والحاجبين، له عينان متحيرتان، دائمتا الحركة والدوران، نفضت الطبيعة على هيكله كل جلال الشيوخ، ويأبى هو إلا أن ينفض على لسانه كل خفة الشباب. فإذا أنت رأيته، كدت تعلق نفسك من روعة وإكبار: جلالة علم في جلالة منصب في جلالة مشيب، حتى إذا سمعته يخوض في بعض من لا يحبهم ويستريح إليهم، لم تكد تملك نفسك من الاستنكار أو ما هو أشد من الاستنكار!
وسري باشا مهندس رائع، كفء، في بابه، لكل عظيمة. وهو شيخ المهندسين المصريين وإمامهم غير مدافع. وإن له فوق هذا لشهرة عالمية، فقد دفعه خطره، وسعة علمه، وصحة تقديره، وقوة ماضيه إلى أن يسلك بحق في زمرة كبار المهندسين في العالم.
وسري باشا ولد في عائلة رقيقة الحال في قرية «ريدة» من أعمال مركز المنيا، ونزح والده إلى قصبة ذلك الإقليم لا يتكئ إلا على بدنه فيما يكون أرد على شمله، فاستخدم في ديوان المديرية في عمل لا يتسق لذكائه ولا لقوة استعداده، فتطلعت نفسه إلى ما هو أولى به وأجدى، ولم يلهه عمله المضني عن أن يتعلم القراءة والكتابة، وما زال دائبا حتى أحسنهما وحتى عين كاتبا في مديرية الفيوم، ولأمر ما نفي عمدة المنيا إلى السودان فعين بدله محفوظ أفندي، وأدخل ولده «إسماعيل» في مدرسة المنيا مع حسن فتحي الذي صار بعد مفتشا للري، وظهرت مخايل النجابة على ولده هذا إسماعيل، وبرع أقرانه، وما برح له السبق عليهم حتى اصطفي فيمن اصطفتهم الحكومة «للإرسالية»، فمضى إلى فرنسا واتصل بكلية «سنترال» حيث درس الهندسة، وخرج منها بأعلى شهاداتها.
لا أبالي إزاء نفع الأقارب والأصهار، أجف النيل أم ذوت الثمار!
وعاد إسماعيل سري، فاتصل بخدمة الحكومة مهندسا صغيرا، وتدرج بكفايته في مناصب وزارة الأشغال حتى أصبح مفتشا لعموم المشروعات، ومن ذلك اليوم رنت الآفاق باسم إسماعيل بك سري في المهندسين العظام.
وفي الحق إن ما متع به كبد الصعيد «مديرية المنيا وطرفا أسيوط وبني سويف» من ري صيفي، فإقبال زرع، فسعة ثروة، إنما كان من صنعة إسماعيل سري، مهما عدوا على تلك «المشروعات» من العيوب.
وفي الحق أيضا إنه - بعد أن طويت من صحيفة وزارة الأشغال أسماء المهندسين المصريين حين أودى الردى بعلي باشا مبارك وإسماعيل باشا محمد وبهجت باشا وأشباههم من النواظير الأوالى - كان إسماعيل باشا سري أول من بعث على الألسن أسماء المصريين مع ديبوي ووليم جارستن وأكفائهما من المهندسين الإنجليز. •••
ولو قد ترك إسماعيل باشا سري في عمله الفني البحت لأجدى بعلمه على البلاد كثيرا، ولكن الرزية كلها في المناصب - وقاتل الله المناصب - فقد قلد الوزارة، والوزارة سياسة أكثر مما هي فن، والرجل لا يحذق السياسة ولا يفهم منها إلا القدر الذي يعصم عليه منصبه، ويستديم له أبهة الوزارة وما إليها من الراتب، والجدوى على الأولاد والأقارب.
ويبالغ صاحبنا في الإخلاص لهذا المعنى ويفرط في الحرص عليه إلى حد أن يسخر، إذا دعت الضرورة، كل ما أوتي من علم وفن لخدمة السياسة، ولو أودى في هذا السبيل بكل وادي النيل، حتى ظفر في عهد اللورد كتشنر - إن عد هذا من الظفر - بتلغراف تأييد من حكومة إنجلترا يضمن له السلامة «والنغنغة» في المنصب والجاه على طول الزمان!
وإني لأعرف طائفة من المصريين كانوا، ولعلهم ما زالوا، يراءون أهل السلطة من الإنجليز ويتجملون لهم ويظاهرونهم بالمودة والعطف استخراجا للمنافع، إذ قلوبهم لا تنطوي من ذاك على كثير. أما إسماعيل سري باشا فهو لا يماري القوم في هذا، ولا يرائيهم، فإنه مخلص الحب لهم، صادق الصبابة فيهم، يواليهم بالهوى في سره، كما يتشيع لهم في جهره. لا يتحرج في ذلك ولا يتأثم، والإخلاص - لو علمت - فنون! •••
ومن أظهر صفات هذا الرجل أنه وصول لرحمه، دائب جاهد في غير ملل ولا سأم على كل ما يعود بالخير على ولده وأصهاره وسائر عشيرته. ولو مد له في الحكم وبسط له في السلطان «لرفت» جميع موظفي الحكومة، وجمع إلى كل فتى من أهله 457 وظيفة في آن واحد، حتى يستطيع أن يقصر وظائف الدولة عليهم فلا يتولى واحدة منها خارج عنهم. وإن له في دسهم في الوظائف والقفز بهم إلى عليا المناصب لأحاديث تجمع وتنشر، وأفاكيه تروى وتؤثر. وحسبك أن تردد النظر في دواوين الحكومة وسائر مصالحها؛ لتقع في كل واد على أثر من ثعلبة. ولقد بدا يوما لبعض الحسدة أن يجمع ما يجبيه «آل سري» من أموال الدولة، فخرج له منها ما يقوم بنفقات مصلحة كاملة «وعين الحسود فيها عود» حصنت آل سري برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد.
ومن طريف ما يروى له، وكل ما يروى له في هذا الباب طريف، أن وزيرا كان من زملائه له قريب في وزارة الأشغال، فسأله أن يرقيه إلى بعض مناصبها الخالية؛ لأنه قد «استحق الترقية» فتثاقل عنه سري باشا وتعذر عليه، وتوسط في الأمر بعض إخوانهما من الوزراء، فقال لهم معالي «وزير الأشغال»: ولماذا أرقي له قريبه وعنده قريبي «فلان» لا يرقيه! فقيل له: ولكنه لم يحن بعد أوان ترقيته؟ قال: إذن نتربص بقريبه حتى يجيء الدور على قريبي. وتعلم - أيدك الله - أن صاحب الحاجة أرعن، فبادر الوزير الآخر بترقية قريب سري باشا بالاستثناء في سبيل ترقية قريبه وهو بحكم الدور!
وجاءه مرة أحد زملائه الوزراء من هذا الباب، فسأله أن يرقي أحد صنائعه درجة على أن يرقي هو أحد أقرباء الباشا في ديوانه درجة، فدار بذهنه «الرياضي» الكبير في «الحسبة»، فرآها «تفرق» 240 قرشا في كل شهر، فتوقف أو يوفاها «على داير القرش»، وتعاصى الأمر، وتعذر الحل، وأخيرا، وبعد طول محادثات ومفاوضات، توسط أحد الوزراء أيضا في الأمر، على أن يزيد قريبا لسري باشا في وزارته هو مائتي قرش، على أن هذا كل ما تبلغه طاقته ويدخل في جهده، وذلك كله تفاديا من وقوع أزمة وزارية
Crise Ministérielle ، وبعد لأي رضي سري باشا بهذا الحل محتسبا عند الله 40 قرشا في كل شهر، كانت - لو أن في البلاد عدلا وإنصافا - تعود على بعض الولد أو الأصهار أو الأقرباء، بشيء ولو قليل، من اليسر والسعة والرخاء! وكانت تضحية من نفس سري باشا هائلة استحق بها أن يقام له تمثال يخلد به «المثل الأعلى» للتضحية والإيثار على تطاول الأيام والليالي!
عبد الحميد سعيد بك
عبقري حقا كما تعني اللغة بهذا اللفظ، فهو طويل بائن الطول، عريض وافر العرض، وافي العنق، بعيد ما بين المنكبين، شديد المنة، مفتول العضل، إذا تمثل إليك حسبته بقية من هياكل سليمان! ضخم الرأس والوجه، تدور من حوله لحية كأنها أحد الآجام، بسقت حول بعض الآكام، لم يقم عليها منجل البستاني بالتقليم والتشذيب، ولم يتعهدها مقصه بالتسوية والتهذيب. ولو قد رفعت النظر إلى أعلى وجهه ثم تراخيت به إلى أسفل ذقنه، لرأيت ثم مثلثا متساوي الساقين! أما روحه الذي بين جنبيه، وأما عزمه الصائل في نفسه، فأشبه بسكان هياكل سليمان، منهما بغرائز بني الإنسان. فهو مارد النفس والقوة، مارد العزم والفتوة!
نشأ منشأ بني الأعيان يدليهم أهلوهم إلى المدارس ليحرزوا الشهادات، ثم يخرجوا إلى خدمة الحكومة، وتلك الغاية عند جمهرة أعياننا تشد إليها الرحال، وتتناهى عندها مرسلات الآمال. على أن التلميذ عبد الحميد سعيد لم تكد تتفتح نفسه لفهم ما في الدنيا حتى كان له في أسباب الحياة غير ذلك الرأي، لم ير الزاد كله في أن يرسم خريطة إيطاليا، وأن يجيد الجزر التكعيبي، وأن يستظهر من «الكتاب الرابع» بابي الاشتغال والتنازع؛ ليخرج في النهاية، «في العشرة الأول»، بل أدرك من شباب سنه أن له وطنا، وأن هذا الوطن يتحكم في شأنه غير أهله، وأن واجبه، ما دامت بلاده محتلة مضيعة الحق، أن يكون جنديا لمصر قبل أن يكون طالب علم في مصر. وعلى ذلك، اتصل هذا الفتى بدعاة الوطنية، وصرف أعظم قسط من الوقت المقسوم لمراجعة الدرس إلى حديث الوطن. وإذا كان عبد الحميد سعيد قد أحرز الشهادة الثانوية، وأحرز بعدها إجازة الحقوق «ليسانس»، فقد اختلس الدرس والمذاكرة لهما من وقت «الوطنية» اختلاسا!
من أطاق التماس شيء غلابا
واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
ويهاجر صاحبنا إلى باريس يدعو لمصر، ويرفع للعالم حجتها، ويجاهد في سبيلها بما يملك من المال واللسان والقلم، ويتخذ هنالك بيتا يصبح مثابة لدعاة مصر خاصة ودعاة أمم الشرق المظلومة عامة، يجتمعون فيه الفينة بعد الفينة ليأتمروا في شأنهم ويستفصحوا للدعوة مناهجهم.
وتنهد
1
دول البلقان كافة لحرب الدولة العلية، وتجرد عليها كل مهلكة من آلات القتال، كما تحرك عليها كل ما تغلي به صدور القوم من التعصب الديني، فيركب عبد الحميد إلى البلقان جناح النعامة، وإذا هو جندي في لباس العسكر وسلاحهم، وإذا هو يأبى إلا أن يقاتل دائما في الصف الأول، حتى يقع ذات ليلة في إحدى الوقائع جريحا يترسب
2
في دمه إذ قد انحسر عنه قومه وأقبلت خيل البلغار، فما زال يتخلج من دونها ويتحرف عنها، يتستر بالظلام ويتوارى في جذوع الدوح لا يبالي ما ينزف من دمه المهراق حتى يبلغ على هذه الحال خطوط الترك، ولولا هذا العون من الله، ما وقعت عين على وكيل مجلس نواب 21 نوفمبر سنة 1925!
وتدور بعد أولئك الأيام رحى الحرب العظمى فينخرط عبد الحميد في جندها يتحول من ميدان إلى ميدان، كلما أهابت به دواعي الجلاد والطعان، حتى إذا تهادنت الأمم المحتربة، وظهر الحلف الإنجليزي، وتكسرت دول الحلف الألماني، وانطلقت يد إنجلترا في ملك الله تفعل ما تشاء، هام صاحبنا في فضاء الأرض يتبلغ بالكسرة، ويتروى بالصبابة، وهو سليل بيت نشأ في الترف، وتقلب في النعمة، لا يعنيه من أمره إلا أن يدعو حيث كان لمصر، ويهتف، أنى وقع به القضاء، باستقلال مصر.
وما أنس لا أنس منظره يوم 21 نوفمبر وقد جردت دولة زيور باشا كل ما عندها من جيوش وخيول مهرية، ورماح سمهرية، وقنى خطية، وكل عازفة مهمهمة، وكل قاصفة مدمدمة، لتحول بين نواب الأمة وبين اجتماعهم، ويخرج عبد الحميد سعيد متسلحا بعصاه التي تزن 73 كيلو، وقد تهيأ للحرب والطعان في سبيل اقتحام الصفوف إلى البرلمان، فكان منظره يومئذ «كالتانك» سواء بسواء!
وهو اليوم عضو في مجلس النواب، إذا تحيفت السن من بعض فتوته، وطامن حكم الأيام شيئا من جماحه، فترك حديث مصوع وهرر، فما زالت له قوة على الوثب إلى بلاد الأحباش، للبحث عن نهر الجاش
3
دعك من أمر سنار، ومن خزان مكوار! •••
وبعد، فقاتل الله العلم، وقاتل الله الاختراع الحديث، فلولا ما أخرجا للناس من بنادق ومدافع، وآلات ساحقة، وغازات خانقة، وطيارات تحلق في السماء، تمطر الجيوش ألوان البلاء، ومدرعات وطرادات، ونسافات وغواصات، ترمي بكل فاتك وبيل، من قذيفة وطربيل، لكان لعبد الحميد سعيد اليوم شأن لا يقل عن شأن الزناتي خليفة، وأبي زيد الهلالي سلامة، والبردويل بن راشد، وآصف شراب الدماء، وأكفائهم من أبطال الحرب والطعان، الذين سارت بشهرتهم الركبان، وسجل «التاريخ» بطولتهم على وجه الزمان! ... ولكن من سوء حظ عبد الحميد بك سعيد أنه يعيش في القرن العشرين، ولا أدري أكان بهذا قد ظلم التاريخ، أم قد ظلمه التاريخ؟!
فكري أباظة
متكور الوجه، أخيف العينين في ضيق محاجر، مقرون الحاجبين، كأنما شق عن فمه بعد أن استوى خلقه، متوافر اللحم في غير بدونة بينة، ولو قد أطلق - مع قصره - للشحم العنان لتمت عليه نعمة الله كلها! ولو رأيته في إخوته لحسبته بعض تلك النباتات التي تخرج وحدها فلم يتعهدها منجل البستاني بالتسوية والتشذيب!
وفكري، على هذا! على هذا كله! يكاد من خفة الروح يطير، ولعل مما يساعده على هذا «الطيران» شكله «البالوني» الخفيف! حلو النفس، حلو الحديث، حاضر البديهة، رائع «النكتة»، لو هيئ لك أن تجلس إليه عشرين سنة ما أحسست ضجرا ولا سأما، يسرك حتى في غضبه وحتى في خصامه! وإن هذه الطرف البديعة التي يطالع الجمهور بها في الصحف لقطع من نفسه الفنانة اللعوب يرسلها على القرطاس إرسالا في غير كلفة ولا مطاولة ولا عناء، ولعلها بهذا وحده تشيع في الأنفس كل ما تجد لها من أريحية ولذة وطرب.
وهو ذكي متعلم، تام الاستعداد، على أنه صرف كثيرا من هذا إلى تمرين تلك الموهبة العظيمة فيه، حتى أدركت كل هذا الإدراك، وحتى استأثر بهذا الفن البديع من البيان إن لم يكن قد خلقه في بلاد العربية خلقا!
وأخشى ألا يعجب هذا الكلام الأساتذة: علام سلامة، ومصطفى صادق الرافعي، ومهدي خليل، وصادق عنبر، وأضرابهم من أصحاب اللغة. ولا أقول لهم إن لغتكم لا تتسع لهذا الضرب من «النكتة» وأسباب التظرف، ولكني أقول لهم: إذا أبيتم ألا يتندر الناس إلا بالفصيح الصحيح، فعليكم أولا بتحفيظ الأمة كلها المعلقات السبع، والملحمات السبع، والمذهبات السبع، والمنتقيات السبع ... إلخ، إلى استظهار الكامل للمبرد، والأمالي للقالي، وصحاح الجوهري، ومخصص ابن سيده، والأساس للزمخشري ... إلخ إلخ! وأنا زعيم لكم بأن الناس لن يعودوا يسمعون في أعراس «أولاد البلد» في خلل الغناء في «قافية أسماء الشوارع» مثلا: اللي على جتتك! اشمعنى؟ الضرب لحمر! بل سيسمعون بدلها إن شاء الله: هذا البادي على جثمانك! ما باله؟ من أثر المشق بالسياط!
قبل ما يلعب! ...
وعلى ذلك، فقد حق على هؤلاء وأمثالهم أن يطلقوا للناس حرية القول والكتابة في طرفهم وسائر حاجاتهم حتى يتهيأ للأمة أن تستحيل كلها «شناقطة» و«حماميز فتوح الله»، بإذن الله!
نعم، لقد «تخصص» الأستاذ فكري أباظة في هذا النوع من البديع وبرع فيه أيما براعة، وهذا اسمه يرن به باعة الصحف صباح كل يوم وظهره ومساءه، ولو اجتمع لامرئ في بلاد الغرب هذا «الفن» إلى هذه الشهرة لخرج في أصحاب الملايين، ولكننا ما زلنا في طريق تقدير الفنون، على أننا كنا نتهزأ بها وبأهلها من عهد قريب!
وإذا كان الفن أجدى عليه شيئا فقد أجدى عليه حقا عضوية مجلس النواب، وذلك الحظ العظيم. وعلى ذكر البرلمان أهمس في أذن صديقي الأستاذ فكري بكلمة صادق مخلص: اعلم يا عزيزي، وفقك الله، أن وسائل النجاح في شيء لا تصلح دائما وسائل للنجاح في شيء آخر، فإذا كان كل ما أعده الأستاذ فكري للبرلمان هو نفس ما يعده للصحف بلا زيادة ولا نقصان، فأرجو ألا يتكئ كثيرا على عيشه الجديد! وليعلم «أن له ناخبين يتردد عليهم» وليس معنى هذا أن فكري قصر في أداء واجبه النيابي، أو أنه لم يكن له في الأمر كفاية، ولكنا إنما نطمع في أن يكون للبلد منه في البرلمان مثل ما لها منه في عالم البيان.
على أنه مما يعزينا في هذا الباب أنه ما برح يتهجى «البرلمانية» في مجلس النواب، وذلك باب يحتاج إلى ممارسة وطول اختبار وتمرين، أسأل الله أن يمد في عمري وعمره حتى أراه في «سنة رابعة» شيوخ، خطيبا «برلمانيا» لبقا، لكن لا كالشيخين المحترمين: عزير ميرهم، ولويس فانوس! •••
ولقد نسيت أن أذكر لك أن فكري أباظة يشتغل بالمحاماة أيضا، وأنه محام من الطراز الجيد، وأن له مكتبا في مدينة الزقازيق يطلبه الناس، وفيهم الجباه
1
والسروات، لتولي مهمهم والدفاع في قضاياهم، وأنه مجد في مهنته، إن صح أن هذه مهنته، لبق، حسن التصرف، مبسوط العلم بمداخل القانون. ومن هنا تعلم أن النبوغ في فن لا يستهلك دائما سائر مواهب المرء الأخرى، ولا أدري أيكون من الخير أن يوزع الأستاذ فكري قواه على أمرين معا أو على ثلاثة، إذا حسبنا «البرلمان» شغلة ثالثة؟ أم أن الخير كله في أن يتجرد لتربية تلك الموهبة الجليلة التي لم يشاركه فيها كثير، على حين يشاركه ويبرعه في غيرها كثير؟!
والأستاذ فكري خرج من عائلة كبيرة جدا، كل أفرادها متعلم. وكلهم كسائر المتعلمين له في السياسة رأي، ولكني لا أحصي في هذه الآلاف - ما شاء الله - حزبا وطنيا إلا فكري، ولعل هذه من إحدى طرفه كذلك!
على أن الأخلق به ألا يكون حزبا وطنيا من الطراز الجديد
Moderne ، بل أن يكون وطنيا قديميا محجوبيا لا يقنع بالسودان من منبعه إلى مصبه ومعه الملحقات، وملحقات الملحقات، فإن في الشرق القريب والبعيد بلادا ضافية الأطراف، واسعة الأكناف، أولى بمصر أن تتولاها وصاية وانتدابا ما دام الإنجليز، على رأي الدكتور ثابت، ولعل الفرنسيين أيضا «ما يقولوش حاجة!»
ذلك هو الأخلق بطريف الخيال، وليسعد التمني إن لم تسعد الحال.
منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
أحمد مظلوم باشا
لعمري لو وقفت على عنق
1
من الناس فحاجيتهم: ما أطول الحظوظ في أطول الأعمار في أطول الأجسام؟ لأجابوك في نفس واحد: «مظلوم»! وجه طويل، على عنق طويل، على جسم طويل. ولو رأيته يمشي ولم تكن بعد عرفته لخيل لك أنه «زفة بهلوان» وقف فيها رجل على كتفي رجل! وفي الحق أنه لو قدر - لا سمح الله - وأزيل عنقه وما فوقه عن كتفيه وما دونهما لتمثل منهما رجلان! أشبه ما يكون كل منهما بخلق مظلوم!
أسطواني الرأس، ساهي العينين، لو تأملت فيهما ما أعطتاك إلا أن وراءهما عدا كبيرا وزيفا في أرقام كثيرة! مرسل الأنف، رحب الفم، ممدود الذقن، طويل اليدين والساقين، وإني لأخشى أن ينكشف الزمن، ولو بعد حين عن أن مظلوما هذا رجلان «اقتصاديان» اتصلا بحيلة لطيفة حتى خرجا للناس في صورة رجل واحد توسلا بهذا إلى ألا يدفعا عند السفر إلا ثمن تذكرة واحدة، وفي الفندق - الأوتيل - إلا أجر سرير واحد، وفي المطعم إلا عشاء رجل واحد، وللخياط إلا ثمن بدلة واحدة، والواقع أن من شهدوا مظلوما وهو يتعشى لا يشكون في أن «جماعة» بأسرها تأكل، فان كان ولا بد، رجلا واحدا فهو إنما يجتر ليومه الثاني!
ونعمة صارت إلى كارنز
كم حجة فيها لزنديق
وحدثتك بأنه طويل الحظ، فقد خاض به حظه أهل الكفايات وأصحاب العلم والاختبار في عصره، فتخطى به رقابهم إلى الوزارة، ويظل وزيرا أو «ناظرا» للمالية في عهد اللورد كرومر قرابة ثلاث عشرة سنة إلى أن دالت الأيام لعهد السير غورست، وانحرف وجه السياسة فهدت تلك الوزارة هدا.
ومظلوم أكفأ الإنس والجن لأن يظل «ناظرا» للمالية ثلاث عشرة سنة لا يلى أمرا، ولا يراجع في مسألة، ولا يبدي رأيا، ولا يقرأ سطرا، ولا يكتب كلمة، ولا ينطق بحرف، حتى يقال له خذ متاعك لقد سقطت الوزارة، فلا يجد ما يحمله معه إلا أنفه وإلا يديه ورجليه، أستغفر الله! وإلا الختم! فنحن إذا أردنا أن نترجم لمظلوم باشا في حياته الوزارية فإنما نترجم عن الختم، والله يعلم ما تعب إلا الختم، ولا جهد إلا الختم، ولا استحق المعاش الكامل «1500 جنيه» في الواقع إلا هذا الختم، فطالما دار في غفلة مولاه وبرم، وطالما نقش وبصم، وبدل من أحوال الدولة أحوالا، وبدد أعلاقا وأموالا، وبسط للشركات الأجنبية في أرضها بسطا ، وأخرج عنها جلائل أملاكها قسطا فقسطا. فإذا حملتم للباشا أيها المصريون على هذا حمدا أو لوما فاصرفوه كله إلى هذا الختم وحده؛ فإن الباشا - والله - لكاسمه مظلوم!
ويدسي بعد هذا في «المعاش» وقد نيف على السبعين، وينقطع عن الناس خبره فلا يدرون أيكتبونه في جريدة الأحياء أم يدرجونه في سجل الأموات، ولكن يأبى له حظه الكبير إلا أن يبعثه بعد هذا بعثا كبيرا فيتولى صهره ووارثه محمد سعيد باشا رياسة الوزارة، ويستقيل المغفور له الأمير حسين كامل - السلطان حسين - من رياسة الجمعية التشريعية، فيجيء لها سعيد بصهره ومورثه «بعد 500 سنة» إن شاء الله مظلوم، فيزيد في الإرث بمقدار ثلاثة آلاف جنيه في العام مرتب رياسة الجمعية، من فوقها خمسمائة بدل ولائم، وسعيد كان أكيس من أن يظن أن مظلوما «يقل عقله» ويصنع في عمره لأي كان وليمة واحدة! وتدخل الحرب العامة وتقف الجمعية التشريعية، ويظل مظلوم «يحز» على الحكومة ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه كل عام، حتى يأذن الله ويعلن حلها في آخر عام 1924 من حيث بدأت حياة البرلمان، على أن حظ مظلوم لم ينحل بانحلال الجمعية التشريعية، فقد انزلق أيضا إلى مجلس النواب بل أضحى له رئيسا، ثم صار وزيرا للأوقاف أيضا يقتضي من الراتب ما يقتضي الوزراء!
ومظلوم باشا غني فظيع الغنى، يجري وراء الدنيا والدنيا تجري وراءه حتى لم تجد بين أولئك الملايين الذين يحرزون سندات بلدية باريز عائلا مسكينا محتاجا تحبوه نمرتها الرابحة «10000 جنيه» إلا أحمد مظلوم! وله عمارات هائلة، وأطيان تعيي مصلحة المساحة، وأوراق مالية يخطئها العد، ونقود في المصارف لا تكاد تحيط بها الأرقام، إذ هو في وسط كل هذا «يتيم» فرد لا أم ولا أب ولا أخ ولا أخت ولا ولد، ولكنه رجل شديد البر بأهله من أولاد الإخوة وأولاد الأخوات، فإنه ليضن على نفسه بالدانق والسحتوت، ويقمع نفسه عن التطلع إلى شيء مما تتطلع إليه أنفس الناس من ملاذ الدنيا ومتعها إيثارا لهؤلاء، فهل رأيت برا أعظم من هذا البر، وإيثارا أبلغ من هذا الإيثار؟!
وكان له بيت يسكنه في محطة «مظلوم» بالرمل، فلاحظ أحد أصدقائه أنه اتخذ لجلوسه غرفة لا تصلح لهذا في حين قد امتلأ البيت بأحاسن الغرف، فراجعه في هذا حتى فطن إلى أن الباشا إنما اتخذ هذه الغرفة لمجلسه؛ لأن مصباح الشارع يقوم بإزائها فلا تجشمه نفقة المصباح!
وقد عمد إلى كل قصوره فشق في كل جوانبها الحوانيت ومخازن التجارة حتى انتهى به الأمر إلى العيش في «أوتيل كونتننتال» على أن يأكل في «كلوب» محمد علي، فإن الأكل فيه أضفى وأمرأ وأرخص!
وقد بنى له أخيرا بيتا صغيرا «فيللا» بإزاء كلوب محمد علي، أقامها من طبقة واحدة، ويتساءل الناس لماذا لم يقمها من طبقتين، الأولى حوانيت ومخازن، والثانية للسكن؟ فأجاب أحد الظرفاء بأنه سيبني الدكاكين هذه المرة في الطبقة العليا حين يعم نظام الطيارات إن شاء الله!
وبعد فما أعرف أحد أمتن صبرا ولا أطول بالا من هؤلاء المساكين ورثة مظلوم، فقد انتظروا أدهارا والأعمار تتصرم، والأنفس تتخرم، والباشا - أحياه الله الحياة الطيبة - لا يزداد على الأيام إلا قوة، ولا يكسبه طول السن إلا شبابا وفتوة. ولو كنت مكانهم لقطتعه في أحد البنوك بحطيطة عشرة أو عشرين في المائة كما تقطع الكمبيالات، ويحيا مظلوم باشا بعد هذا كما يشاء!
طلعت حرب بك
لا أحسبك تستطيع أن تتصور «بنك مصر» دون أن تتصور معه طلعت حرب، ولا أحسبك تستطيع أن تتصور اسم طلعت حرب دون أن يتمثل لذهنك في الحال «بنك مصر».
وكذلك شاء القدر أن يقرن اسم هذا الرجل بأجل الأعمال.
ولو أن رجلا حدثك من عشر سنين بأن سيكون في مصر «بنك» يقوم على أموال مصرية، وتقوم عليه أيد مصرية، لرددت حديثه من فورك إلى التزيد في التمني والمبالغة في التخييل! ذلك أننا، ولا أكتمك أشد ما ألح علينا من العلل، إنما كنا نتكئ في كل مهمنا على محض التمني وعقد الآمال بما عسى أن يصنع الغير لنا! أما أن نضطلع بعبئنا ونعالج شأننا بأيدينا، فذلك ما لم تكن تطيقه أذهاننا! ولقد طالت علينا هذه الحال حتى دبت إلينا الظنون بأننا لا نصلح لمعالجة عمل قومي، لا من عجز عن العمل، ولكن من توهم العجز عن العمل، حتى توهنت نفوسنا، وانبرت عزائمنا، وانخذلت هممنا، وشاع فينا ضعف الثقة، والثقة وحدها متكأ كل ما ترى من عظيمات الأمور. وإذا كنا قد عالجنا كثيرا من المشروعات القومية ففشلنا فيها كلها، فذلك لأننا إنما كنا نقدر هذا الفشل بحكم ما ملك علينا أنفسنا من ضعف الثقة. وذلك شأننا كان في كل ما نتطلع إليه من مطالب الحياة.
وأذن الله تعالى لنا بالعافية وأحسسنا، بعد يأس، دبيبها في أنفسنا في سنة 1919، وهببنا أمة تطلب ما تطلب الأمم، وتهيئ كتفيها لتنهض بما تنهض به في سبيل مجدها الأمم.
الوطنية الصحيحة تعمل كثيرا ولا تعلن عن نفسها. «قاسم أمين».
ولست اليوم بسبيل ما قام به أبطال النهضة الوطنية جملة، ولكنني إنما أطوف بالحديث اليوم حول قطعة منه وهي النهضة المالية، وحول بطل من أولئك الأبطال وهو طلعت حرب. وهيهات أن أصف قدر هذا الرجل الفاتح بأبلغ ولا أصدق من أنه أقام لمصر «بنكا» عظيما يقوم على أموال كلها مصرية، وتقوم عليه أيد كلها مصرية، وما شاء الله كان!
وإذا كان طلعت قد أقدم على هذا كله بعد إذ تخاذل الناس، وأصبحنا ولا تظن نفس بنفس خيرا، فقدر أنت مبلغ ما تسلح به هذا الرجل من عزم وثقة حسبهما أن ملآ كل هذه النفوس عزما وثقة!
وإذا كان طلعت حرب قد أفاد في سبيله بنهضة سنة 1919 واستغل اشتغال النفوس بالوطنية، وتنادي الناس بالعمل على أسباب القومية، فقد أضاف إلى العزم حزما، وجمع إلى الثقة والإقدام بصيرة وعلما، ذلك أنه عرف كيف يتخير أسعد الساعات وأكفأها لنجاح مشروعه العظيم.
ولم يكن نجاح بنك مصر مقصورا على ذلك المدى الذي تدور فيه منافع البنوك، ولكن كان له نجاح أوفى وأبلغ، هو أنه بث فينا الثقة وردنا في جليلات الأعمال إلى أنفسنا، وأقنعنا بالحس الصادق أننا في مجال العمل، غير أهل للخذلان، ولا للفشل، فهذه شركات جليلة يقوم بها طلعت حرب كذلك، ويرفدها بنك مصر أيضا، وقد قامت كلها قياما كريما، ونجحت كلها نجاحا عظيما.
هذه شركة للحليج، وهذه شركة للملاحة، وهذه شركة للطبع، ولعله ستتبعها شركة للغزل والنسيج، وأخرى لصنع الزجاج، حتى إني لأخشى إذا تمادى طلعت في هذه الشركات الناجحة، أن يظن جمهرة الناس، أن لا نجاح لسعي الجماعة إلا إذا قام عليه طلعت حرب، وإلا إذا سانده بنك مصر، وفي هذا مساءة قد تستغرق ذلك الإحسان، فليتدبر طلعت وليتدبر رجال الأعمال. •••
وبعد، فطلعت بك حرب وإن لحقته السن، ما برح له عزم الشباب؛ حضور ذهن، وقوة تصور، ومتانة ذاكرة، وجودة رأي، وصبر وجلد على معاناة كل ما يليه من أعمال جسام!
وهو ربعة بين الطول والقصر، غير متسق الجوارح، مستطيل الوجه، لا بالقسيم
1
ولا الوسيم. لا يرضيك ظاهره، فإذا لابسته تكشف لك عن حسن محاضرة، ولطف روح، وسلاسة نفس، على خلاف الظن به والرأي بادئ الرأي فيه!
وإذا استحال هذا الرجل شعرا ما عدا أن يكون قصيدة في ديوان أبي تمام، لا تعجبك مطالعه، على أنك تقع بعدها على أروع المعاني وأشرف الكلام.
ولقد تلقاه يوما فيطالعك بكل ما تملك نفسه من أنس وبشر حتى لتحسب أنه أضحى قطعة من نفسك إذا كنت أنت لم تصبح قطعة من نفسه، ولقد تلقاه يوم آخر فيتولاك بوجه عبوس تكاد تتمثل فيه غيما ورعدا ومطرا، حتى لتشعر أنك في حضرة «زلزلة» لا في حضرة رجل، تعينه على ذاك الأذى عين خيفاء، فإن ترفقت بها قلت عين حواء، حتى لتطرق وأنت تبتهل إلى ربك وتسأله أن يلغى المال من الدنيا لكيلا تحتاج إلى رؤية طلعت حرب! ولقد تتبحث الأمر وتتبينه فإذا هذا «الحرب» سلم كله، وإذا هذا التجهم في هذا الوجه لا يدل على أية غضاضة في تلك النفس! إنما الأمر جميع الأمر أن الرجل تنوء به جلائل من الأمر فيها ما يسر وما يسوء، وفيها ما يبسط أسارير الوجه وفيها ما يربد ضواحيه، ويعكر نواحيه، وذلك الحظ الذي يدفعك إليه وهو في إحدى الحالين. فلو ابتغيت قبل أن تطالعه عرافا أو ضارب تخت رمل أو «فاتحة كوتشينة» لكان أرفق بك وأبين لحظك معه! •••
وإذا كان في بعض طلعت حرب ما لا يعجب بعض الناس فلأنهم لم يفهموه، وإذا كان فيه ما لا يجمل بالرجل العظيم، فذلك أيضا من خلال الرجل العظيم!
وإن تعجب لشيء في شأنه فالعجب كله أنه عضو في مجلس الشيوخ تعرض عليه ميزانية الدولة، وتعرض عليه كل المرافق المالية والاقتصادية في الدولة، فيجول فيها لويس فانوس، ويصول فيها الشيخ حسن عبد القادر، ويضرب فيها شيخ العرب يس أبو جليل بجرانه، وطلعت حرب مدير بنك مصر وأبو المشروعات المالية والاقتصادية في مصر لا تؤثر عنه فيها طول «الدورة البرلمانية» كلمة واحدة!
ولعل هذا أنه يريد أن يربأ بنفسه، أو بعبارة أخرى يريد أن يربأ ببنك مصر وملحقاته عن أي نزاع سياسي على العموم أو حزبي على الخصوص، طلبا للسلام وإيثارا للعافية.
تعالى الله يا سلم بن عمرو
أذل الحرص أعناق الرجال
حافظ رمضان بك
لو أنك لم تكن رأيت محمد حافظ رمضان بك، وبدا لك أن تتمثل رئيس الحزب الوطني القائم على المطالبة بمصر والسودان، مضافا إليهما الملحقات، سواء منها ما في يد الإنجليز، وما في يد الطليان، وما في يد الأحباش، وجلاء الجيش الإنجليزي بلا قيد، ولا شرط، ولا مساومة، بل ولا مفاوضة ولا اتفاق، ولا، ولا ... إلخ، لما استطاع ذهنك أن يتمثله إلا رجلا عنيفا حاد الطبع، ثائر الأعصاب، إذا قاولك وبخاصة في شأن عام، تفجر عن مثل بركان! ولكن ما أعظم خيبة الخيال حين تقع عينك على حافظ رمضان بك، ويضمك مجلسه، فإنه لا يروعك إلا أن ترى رجلا وادعا هادئ السعي، بطيء الحركة إلى حد الجمود، تكاد تقطع بأنه قد فقد كل اتصال بين أعصابه وبين معارف وجهه، حتى لتوشك ألا يتغير عليها شيء من مظاهر العواطف المختلفة، وإنه ليتحدث إليك في القانون، ويتحدث إليك في السياسة، ويتحدث إليك في جميع الأسباب الدائرة بين الناس، فيجيد الحديث إجادة ينقطع من دونها الوصف، جزالة علم، وصحة رأي، ومتانة حجة، وقوة بيان، في حلاوة نبرة وعذوبة صوت، وإنه ليثير عواطفك، وإنه ليبعث معارف وجهك على التشكل طوعا لما أثار حديثه فيك من عاطفة. أما هو نفسه فساكن وادع، فتنصرف عنه وأنت تكاد تحسب أنك إنما كنت تسمع الحديث من «فونغراف» متقن بديع، يدور في هيكل إنسان!
والواقع أن الله تعالى قد وهب هذا الرجل قصدا واعتدالا في كل شيء، فهو معتدل الخلق والتكوين، معتدل الأخلاق والسجايا، معتدل الحركة والسعي، معتدل الحديث والرأي، وهو في الوقت نفسه، رئيس الحزب الوطني! ومبدؤه المطالبة بمصر والسودان والملحقات، وجلاء الجيش الإنجليزي عن جميع البلاد بلا مساومة ولا مفاوضة ولا اتفاق!
وجه مصطفى ووجه فريد. كلاهما لازم لوقت «الشغل» فقط.
الحق أني لو كنت في موضع حافظ رمضان بك لكانت مهمتي أشق مهمة رجل في العالم، على أن حافظ بك يضطلع بها في غير كلفة ولا عناء! وللعظيم العظائم. •••
ومحمد حافظ رمضان ابن المرحوم حافظ بك رمضان، وكان رجلا منقطع النظير في العلم المالي يوم لم يكن لمصري في هذا الباب خطر، وكانت أعظم المصارف الأجنبية بالضرورة، ترجع إلى رأي حافظ بك في أدق مسائل الفن وأبعدها أثرا.
وأنجب عدة أولاد، وأحسن تأديبهم وتعليمهم، فخرجوا جميعهم رجالا ممتازين، فيهم القاضي وفيهم المحامي وفيهم الجندي، وها أنت ذا ترى أحدهم، وهو الذي نعقد له هذا الحديث، في كبار المحامين ورئيس حزب جليل الشأن في البلاد.
نعم، لقد بانت مواهب حافظ من يوم درج لطلب العلم، وما برح يبرع فيه أقرانه حتى أحرز إجازة الحقوق - ليسانس - وأقبل على المحاماة مجدا أمينا حتى تمت كفايته، وبعد فيها صيته ولما يزل بعد في فوعة
1
الشباب، يعينه فيها علم غزير، وعقل شديد، وبديهة حاضرة، وحجة قاهرة وبلاغة ساحرة. كل أولئك في صوت كأنما تختلج به أوتار عود. وكذلك كان حافظ بك خطيبا رائعا جليلا .
وقد اتصل من صدر أيام الشباب بفقيد الوطن المغفور له مصطفى كامل باشا، وظل معه إلى أن قبض إلى رحمة الله، فكان شأنه كذلك مع المغفور له فريد بك، إلى أن شطت به النوى، فما برح هو كذلك موصول الاسم بالحزب الوطني، حتى اختير له رئيسا.
ومما يذكر له في هذا الباب، أنه كان دائما شديد التوافي لأساطين الأحزاب الأخرى حتى في الأوقات التي كان السيد وفيق يرميهم بالمقذعات في جريدة الحزب من غير حساب!
ولقد يبدو لك حافظ رمضان بك كسولا لا يحب أن يجشم نفسه من الأمر جليلا، على أنه إذا جد الجد، كان أنشط من الكوكب السيار!
ومن أعجب ما يؤثر له من هذه الناحية، أنه قد بدا له في صيف العام الماضي، إذ هو في أوروبا، أن يتسلق قمة جبال الألب
Mont Blanc ، وعبثا يحاول صدقانه
2
أن يصرفوه عن هذه النية، والعبث بالعروج إلى قمة الألب إنما هو ضرب من العبث بالحياة نفسها. ويجمع حافظ همته وعناده معا، ويخوض مهاوي الموت خوضا، حتى يبلغ غايته، ثم يتدلى عن قمة الجبل «بالسلامة»، والموت خزيان ينظر! ويظفر بتلك الشهادة - شهادة المعراج إلى قمة الألب، ولم يظفر بها من المقاديم إلا قليل، فكان أيضا حق
Sport ، رغم ما يرمى به من فرط الكسل وشدة الخمول!
وهو شديد الولع بالشطرنج، حتى لقد يجلس إلى رقعته خمس ساعات متواليات لا يلحقه فيها ضجر ولا يتداخله سأم.
ولقد يظل طوال هذه المدة وفم «الشيشة» في فمه، أو فاغرا فاه، فلا تسمع منه إلا تنغما يهمس به أحيانا، أو «كش مات» في غاية كل دست ينعقد له فيه الظفر!
وبعد، فلا أدري أكان حافظ رمضان بك في قرارة نفسه، ومطاوي حسه، شاعرا يحلق في أجواز الخيال أم لا؟ على أن جلسته الطويلة يوسد فيها خده على كفه، مهدل الشفة، ثابت المحجرين في جانب الأفق، لقد تدلك على أنه شاعر بعيد الخيال، ولعل هذا المعنى فيه هو الذي يتخطى سائر مواهبه، فيعقد الصلة بينه وبين مبادئ الحزب الوطني!
ومع هذا كله، فلا محيص من أن تقع المشاكل بين حافظ بك وبين نفسه كلما «زنقته» الحوادث بينه وبين مطالب حزبه، ولكن حافظ بك كما أسلفت عليك، رجل خراج ولاج، لا يغم عليه مشكل ولا يعيبه أمر جسام، فإذا حزبه من ذلك شيء عمد إلى حل بسيط، سهل، معقول، مقبول، وهو أن تعجله مسألة «فيحط كتف» على أوروبا معذورا مشيعا بطيب التمنيات! أليس هذا حلا سائغا معقولا؟!
وبعد، فإذا كان التطرف في الرأي السياسي ضربا من الشعر، فما أعذب هذا الشعر، وما أحوج تكافؤ النزعات السياسية إليه، على أنه إذا تجاوز حده، وخرج عن أفقه فقد أصبح له في توجيه سياسة البلاد شأن آخر.
ولو كان لي من الأمر شيء لدعوت بشركة «حافظ رمضان - عبد الحميد سعيد أخوان» فخيرتها أمرين: إما ترك التغالي في الاستجوابات والعوض على الله، ولو مؤقتا، في الملحقات، وإما أن تتولى الوزارة، وعندها مهلة شهرين لتجيء فيها بالنيل من منبعه إلى مصبه، والملحقات وملحقات الملحقات، والجلاء الكامل بلا مساومة، ولا مفاوضة، «وكمان» بلا اتفاق، على شرط أن تؤخذ عليها التعهدات بعدم «حططان الكتف» على أوروبا وقت الأزمات!
إبراهيم وجيه باشا
طويل، ضافي الجسم، متراخي الأطراف، تتسرح العين منه في منظر غير مؤتلف ولا متسق، وبعبارة أخرى إن عينك لا تكاد تسقط عليه حتى تشعر بما بين خلقه وبين «قيافته» من سوء التفاهم! فهو شديد العناية بهذه «القيافة». وهو لا يعنى بشيء من مظاهر الدنيا عنايته بها. وإنه ليخيل إلي أنه يطوي عامة ليله وصدرا من نهاره في مطالعة مجلات «المودة» ونشرات «الشيك»، وكلما سقط فيها على طريف أسرع إليه فتجمل به وتأنق، وتحلى به وتألق: فمن خواتيم تلمع في الخناصر والبناصر، من شتى الألوان في شتى الجواهر. ومن رباط للرقبة - كرافات - تحتار العين في أزرقه وأسوده وأحمره، وأبيضه وأخضره وأصفره؛ حتى كأنما قد من أنوار بستان، ففيه من كل زهرة زوجان، تجري كلها في مذاهبها حتى تلتقي عند لؤلؤة بيضاء، أو زمردة خضراء، أو ياقوتة حمراء، فكأن هذا «الدبوس» من تلك الألوان، ملتقى العشاق ومجتمع الخلان. ومن حلة محبوكة؛ «محذقة» مسبوكة؛ كأنما موه بها جلده تمويها، فإذا تبدى لك فيها حسبته عاريا وهو كاس! إلى حذاء، وناهيك بهذا الحذاء! ليس يتخذ الباشا حذاءه من مصر كلها، ولا من أفريقيا أجمعها، ولا من كل ما يدلى من سلع الغرب إلى الشرق، بل إنه ليفصل له تفصيلا من مصنع
Lob
الشهير في لندن، وثمن الزوج، على ما يروي الباشا نفسه، تسعة جنيهات إنجليزية «طبعا». أما الحذاء نفسه، كما شهدناه، فدقيق لطيف، رقيق خفيف، قاس، على نعومته، شديد القسوة حتى ليأبى إلا أن يخرج أسيرته - رجل الباشا - صغيرة دقيقة هيفاء!
فإذا أنت ارتفعت بالنظر إلى طرفه الآخر رأيت على رأسه طربوشا طويلا ضيقا أيضا، على أنه - ولله الحمد - على رأسه متسق مسبوك!
وهو يميله دائما إلى ناحية من رأسه فيصور لك من فضل جبينه زاوية لا أدري مقدار حظها من الهيبة أو الجمال!
ولو تمثلته وقد بعد ما بين كتفيه، وتقارب ما بين كشحيه، وما يزال يتقارب في منازله إلى مستدق حذائيه، لرأيت منه مخروطا معكوسا، أو على الأصح قمعا مكفوءا!
على مفوضينا وقناصلنا في جميع أقطار العالم موافاتنا تلغرافيا بآخر «مودة»!
قلت لك في صدر هذا الحديث إن بين خلق وجيه باشا وبين «قيافته» افتراقا وسوء تفاهم، وأكر على هذا الآن فأقول لك: إنه مع كل هذا التأنق، وكل هذا التجمل، وكل هذه النفقات، وكل هذه التكاليف، لا يزيدك في مرآه على أميرالاي في المعاش! •••
وإبراهيم وجيه باشا رجل طيب القلب لا يصدر عن أذى ولا يصدر عنه أذى، متواضع النفس، متواضع التفكير. لقد أصبح في الواقع وكيلا لوزارة الخارجية في الدولة، ولكن أدبه وتواضعه لا يطاوعانه قط على الترافع إلى هذا المعنى؛ وإنهما ليغضان حتى من تفكيره في مقتضيات ذلك المنصب الرفيع!
إنه لرجل متواضع حقا في كل شيء! ولو أنك داخلته مهما داخلته، ولابسته مهما لابسته، لا يمكنك أن تحس منه أي اعتداد بالنفس يشعرك أنه أصبح وكيلا لدائرة، فضلا عن أنه أصبح وكيلا لوزارة خارجية الدولة نفسها. وأيسر الدلائل على هذا موقفه العتيد في مجلس النواب يوم ثار حديث «بيوت هوس» وما اقتضى خزينة الدولة من نفقات جسام.
وهو كذلك رجل متواضع الحديث، لقد يستغرق المجلس بالحديث عن نفسه لا عن مركزه في الحكومة، ولا عما يعتري الدولة من مشاكل ومتاعب في جغبوب، ولا مما يراد من فرض امتيازات لإخواننا الشوام أيضا في مصر، بله المفاوضات المقبلة في تقرير مصير الدولة - بل إنما يحدثك عن المفاوضات المقبلة بينه وبين طاهيه. وإن له لطاهيا عظيما، وإن طاهيه لعبقري؛ يصدع بعبقريته حدود الفن، أليس الطهاة جميعا يقربون، يوم الوليمة إلى الضيفان، «البامية» بعد رأس الطعام «الحمل أو الدندي أو السمك؟»
ولكن طاهيه قرب مرة لضيفانه بعد رأس الطعام صفحة من الفاصوليا الخضراء مباشرة! أليس هذا عبقرية تستحق كل إعجاب وإطراء؟!
سبحان من أودع كل قلب ما شغله، وإذا كان قلب وجيه باشا مشغولا بأشياء وأشياء، فإن قلبه من شئون الدولة كلها هواء.
يهرول في الصغير إذا رآه
وتعجزه مهمات كبار
وقد نسيت أن أذكر لك أن للباشا شاربا لبقا هو الآخر، ظريفا، دائم التشكل والتكيف بحسب «آخر مودة» فتراه مرفوعا ومرة مخفوضا، وتارة مفتولا وتارة منقوضا، وآنا مرسلا وآنا «مكويا»، وحينا مستقيما وحينا ملويا، وأسود يوما ويوما أغبر، وأصفر طورا وطورا أحمر.
ولا نحب أن نتر الرجل حقه، فقد أحرز إجازة الحقوق - ليسانس - في غير عسر ولا تأخر في الطلب، ثم دلف إلى مناصب القضاء فرقي في درجها واحدة بعد واحدة معروفا بالاستقامة والنزاهة والنشاط وعدم الميل مع الهوى، وزامل ثروت باشا في نشأته كما زامله في بعض المناصب التي تولاها، وفي النهاية عين مستشارا في محكمة الاستئناف المختلطة. فكان خير مثال للكفاية والاستقامة؛ فمستشارا ملكيا. وهنا بدأ القلق يدب إلى حظه من التوفيق في مناصبه الحكومية.
وإذا كان قد نفض عن القضاء جملة وقلد منصبا سياسيا «وكالة الخارجية » وبخاصة في العهد الحاضر - عهد المسئوليات الكبرى - فلم يتمكن منه تمكنه من منصب القضاء فليس الوزر عليه هو، ولكن على من أخطأهم فيه التوفيق!
حافظ إبراهيم بك
وجاءت نوبة صديقي حافظ في «المرآة»، ولم تغن عني المطاولة، ولا كثرة الدفاع، كذلك حتم أصحاب «السياسة الأسبوعية»، وبذلك جزم القضاء:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
إذن، سأجلو حافظا في هذه «المرآة»، وأرمي فيه بالقول، وإذن سأدخل في الورطة وتحق علي الكلمة في كل حال! ويح نفسي من عنت أهل العنت من القراء، فإنني إن قلت فيه خيرا قالوا: شهادة صديق لصديق، فهي متهمة مهدرة، وإن قلت شرا قالوا: ما أنكره للود وما أكفره!
وما لي لا أعوذ من ألسن هؤلاء بالحق، فالحق أجدى من مصانعة هؤلاء. وعلى هذا، فإني سأطلق كلمة الحق في صديقي حافظ، وأعوذ بالله تعالى أن يلحقني فيه قول ذلك الحكيم: «إن قول الحق لم يدع لي صديقا.» ولا تنس بعد هذا يا سيدي القارئ مبلغ ما يضحي به الكاتب المسكين في سبيل رسالة يؤديها قلمه إليك لتلهو بها خمس دقائق أو ستا، وهو لا يطمع منك في أكثر من أن تقصد في حكمك، وتترفق في نقدك وشتمك، والتضحية في هذه المرة ليست بجسم يتعب، ولا بمال يغصب، ولا بقلم يغلب، ولا بسب يجلب، إنما هي باستهداف ود دام إحدى وعشرين سنة للجلجلة بله الزوال، وهي كانت متن الصبا، وهي كانت نضرة العمر، وهي هي الذكرى الباقية لحلو الحياة لمن أبرمه مر الحياة!
فإن لم تك «المرآة» أبدت وسامة
فقد أبدت «المرآة» جبهة ضيغم
ما لي قد غشيني من هذه العواطف المحزونة الوالهة، حين عرض لي اسم حافظ ما لم يغشني قبل لاسم إنسان؟ وفيم كل هذا ولعلي لا أصيب في صديقي إلا خيرا! حقا، إني لأخشى أن أكون اليوم مريضا، وأن الأمر كله من لوثة الأعصاب. فإن كنت معافى صادق الوزن، فإنني أرجو أن يكون صديقي حين تقع له هذه المقالة معافى ، متزن الأعصاب. •••
حافظ إبراهيم شاعر، فهو يحب الجمال ويجتمع له، ويكره القبح وينعى على أهله، يجابه بذاك مجابهة، لا يتقي في القول ولا يتحرف، وما إن طلع عليه فتى دميم الخلق، غير مستوي معارف الوجه إلا قال له: يا فتى، ليس الوزر عليك بل على أبيك لأنه لم يؤد مهرا! وإذا اطردت نظرية حافظ، فلا شك في أن المرحوم والده تزوج على الطريقة الإفرنجية فلم «يدفع» مهرا، بل هو الذي أخذ «الدوطة».
جهم الصوت، جهم الخلق، جهم الجسم، كأنما قد من صخرة في فلاة موحشة، ثم فكر في آخر ساعة في أن يكون إنسانا، فكان «والسلام»! أما ما يدعى فمه فكأنما شق بعد الخلق شقا، وأما عيناه، فكأنما دقتا بمسمارين دقا. وأما لون بشرته، والعياذ بالله، فكأنما عهد به إلى «نقاش» مبتدئ تشابهت عليه الأصباغ والألوان، فداف أصفرها في أخضرها في أبيضها في «بنفسجيها»، فخرج مزجا من هذا كله لا يرتبط من واحد بسبب، ولا يتصل بنسب. وإنك لو نضوت عنه ثيابه وألبسته دراعة من دونها سراويل، وأفرغت عليه من فوقها جبة ضافية، وتوجته بعمامة عظيمة متخالفة الطيات، لخلته من فورك دهقانا من دهاقين الفرس الأقدمين! فإذا جردته كله وأطلقته في البر حسبته فيلا، أو أرسلته في البحر ظننته درفيلا! ولكن! ولكن اكشف بعد هذا عن نفسه التي يحتويها كل ذلك، فلا والله ما النور بعد الظلام، ولا العافية بعد السقام، ولا الغنى بعد البؤس، ولا إدراك المنى بعد طول اليأس، بأشهى إليك، ولا أدخل للسرور عليك من هذا حافظ إبراهيم!
خفيف الظل، عذب الروح، حلو الحديث، حاضر البديهة، رائع النكتة، بديع المحاضرة، إذا كتب لك يوما أن تشهد مجلسه، أخذك عن نفسك، حتى ليخيل إليك أنك في بستان تعطفت جداوله، وهتفت على أغصانه بلابله، وأشرق نرجسه وتألق ورده، فأذكراك طلعة الحب: تانك عيناه وهذا خده! وتنفس فيه النسيم بسحر هاروت، فأعجب لمن ينشره هذا النسيم كيف يموت! والبدر في ملكه بين المجرة والجوزاء، يخلع على الروض حلة فضية بيضاء ، فلا تدري أأمست السماء في الروض، أم أمسى الروض في السماء؟
ولم أر قط رجلا أسرع منه حفظا ولا أثبت حافظة، ولقد تقع له المقالة الطويلة أو القصيدة الضافية، فترى نظره يثب فيها وثبا حتى يأتي على غايتها، وإذا هو قد استظهر أكثر جملها، أو أبياتها إن كانت قصيدا، وإذا هي ثابتة على قلبه على تطاول السنين. كذلك لم أر قط رجلا اجتمع له من متخير القول ومصطفى الكلام مرسلا ومقفى مثل ما اجتمع لحافظ إبراهيم، فكان حقا له من اسمه أوفر نصيب. وإذا كنت ممن يجري في صناعة الكلام على عرق وهيئ لك أن يحاضرك حافظ في الأدب، لصب على سمعك عصارة الشعر العربي، وأبدع ما انتضحت به القرائح من عهد امرئ القيس إلى الآن. ويمكنك أن تعد بحق حافظا أجمع وأكفى كتاب لمتخير الشعر العربي عرف إلى اليوم. وليتهم، إذ يشرف على السن، بدل إحالته على المعاش يحيلونه على أحد «دواليب» القسم الأدبي في دار الكتب، إذن لعصموا عليها ذخيرة هيهات أن تعوض على وجه الزمان.
وإذا أردت أن تتعرف لون شعره، وإلى أي واد من أودية الكلام ينتسب، فارجع إلى أكثر ما يهتف به ويردده من شعر من قبله من الشعراء، وإنه في هذا الباب ليؤمن قبل كل شيء بالصنعة والديباجة ونسج الكلام، وما بعد هذا عنده ففضل. وهو يرى، ولقد يرى معه كثير، أن جلال الشعر وبهاءه ليسا في التعليق بدقائق المعاني وإن تزايلت من دونها الألفاظ، وأن أدق المعاني وأجلها لقد تقع للدهماء في حوارهم ومنازع كلامهم، أما إشراق الديباجة وفصاحة القول وتلاحم النسج ورصانة القافية فذلك الشعر. أليس يبهرك ويروعك ويشيع فيك كل الطرب قول البحتري مثلا:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا
مقصرا في ملامة أو مطيلا
لم يكن يومنا طويلا بنعما
ن ولكن كان البكاء طويلا
وقوله:
وقفة بالعقيق نطرح ثقلا
من دموع بوقفة في العقيق
وقول الشاعر:
يا ليت ماء الفرات يخبرنا
أين تولت بأهلها السفن
وقول الشاعر العربي:
فسائل بني جرم إذا ما لقيتهم
وسعدا إذا حجت عليك بنو سعد
فإن يخبروك الحق عني تجدهم
يقولون أبلى صاحب الفرس الورد
وغير هذا من رائع الشعر ما لا يتناوله الحصر.
وبعد، فأي معنى في مثل هذا يرتفع على ما تبتذل به العامة في أحاديثهم وأسمارهم وفنون مناقلاتهم! إنما خطره كله في لطف الصياغة وشدة القول وقوة الأسلوب، ولو قد ذهبت تؤدي بلغة أخرى أفخر ما نظم البحتري وأبو تمام وأضرابهما من أعيان الشعراء ما خرجت من ذاك بجليل، بل لو أنك تعمدت أبلغ ما قالوا فنقضت غزله ونثرت نظمه، ما عدا أن يكون كلاما من أوسط ما اعتاده الناس من الكلام!
هذا رأي حافظ في الشعر، وتلك أيضا صورة من شعره! مشرق الديباجة، جزل اللفظ، صافي القول، محكم النسج، رصين القافية، ترى معناه في ظاهر لفظه، فإذا أقبل عليك ينشدك من شعره، أبصرت البيت يستشرف وحده للقافية استشرافا حتى لتقبض عليها بذهنك قبل أن ينطق بها حافظ إبراهيم.
وحافظ، كما أسلفت عليك، مؤمن كل الإيمان بالصنعة، ولقد يسنح له المعنى الدقيق فيحاول أن يشكه بالقريض، فإن أصابه في غير قلق ولا إعنات للفظ أو إخلال بقوة النظم، وإلا صرف لغيره وجه القريض، ولربما أصاب المعنى الرفيع فيسره للنظم تيسيرا، حتى يخيل لك، إذ تتلوه، أنك في كلام من جنس سائر الكلام!
وهو، كما حدثتك، حاضر البديهة، رائع «النكتة»، يتعلق فيها بأدق المعاني في جميع فنون القول، فلا يحتويه مجلس إلا رأيته يتنزى تنزيا من ضحك ومن طرب ومن إعجاب، وهو كذلك شديد الفطنة، حلو الملاحظة، لا يكاد يعرض لسمعه أو لبصره شيء إلا وجه عليه رأيا طريفا يصوغه في «نكتة» عجيبة قد تستقر على سطوح الأشياء، وأحيانا تتغلغل إلى الصميم حتى تتكشف الأيام منها لا عن طرفة متطرف ولكن عن رأي حكيم! وهو لا يتحامى في تطرفه ولا يتحرج، فتراه يقتحم عليك بتندره كل مداخلك أنى سنحت له اقتحاما، فيصيب من خلقك ومن ثيابك ومن أثاث بيتك ومن طعامك، على أنه في كل هذا مرضيك ومؤنسك وباسط أسارير وجهك إن لم يفرج بالضحك من ثناياك، فأما إذا كنت رجلا ضيق العطن متزمت النفس، فلا خير لك في مجلس حافظ إبراهيم.
وهو أجود من الريح المرسلة، ولو أنه ادخر قسطا مما أصابت يده من الأموال لكان اليوم من أهل الثراء، على أنه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس حتى إذا طالت يده الألف جن جنونه، أو ينفقها في يوم إن استطاع، فإذا استغلقت عليه أحيانا وجوه السبل لإتلاف الأموال، عد هذا أيضا من معاكسة الأقدار! ولعل هذا من أنه نضجت شاعريته في باب «شكوى الزمان»، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلبا ويتفقده تفقدا؛ إيثارا لتجويد الصنعة والتبريز في صياغة الكلام، وتلك دعوة كانت للمرحوم الشيخ محمد عبده أحسب حافظا يحققها بيده إذا قصرت في تحقيقها الأيام. وإنه لفنان
Artiste
حقا، وإن فيه لكل أخلاق الفنانين، توله بالطعن من جميع أقطاره، فقد يسامحك ويتراخى بالصفح عنك، أما أن تتولى فنه وتسلك بالطعن صنعته، فذلك الكسر الذي لا يجبر، وذلك الذنب الذي لا يغفر، وذلك مثار الدمع ما يزال هاميا، وذلك متنزى الجرح ما يفتأ على الزمان داميا.
والعجب أن حافظا نفسه ضيق العطن، قليل الصبر، سريع الغضب، ويا ويل الأرض منه والسماء إذا تعجل أمرا فألبث دونه دقيقة واحدة، إذن لهاج هياج الصبي، فما يجدي فيه التصبير ولا التعليل، وما أبدع غضبته وما أحلاها ساعة يهم بركوب مركبة في الطريق، فيرى الخيل قد خلعت عنها أرسانها، وهناك تسمع منه وهو يكاد يتميز من الغيظ، أبدع النكات وأدقها، وقد عجلت إليه الشيخوخة قبل السن، وضربته أعراض السبعين، إذ هو لم يذرف كثيرا على الخمسين، ففاض من أنسه غير قليل، وشغل بالمرض أو بتوهم المرض، فما يلقاك إلا أبثك علة طارئة وطالعك بشكاة جديدة، وتتقسم أوهامه مراجعة الأطباء والمتطببين، وترديد النظر في كتب الصحة والأقرباذين، فما سمع بعلة إلا أحس أعراضها، ولا وقع على عقار من العقاقير إلا اتخذه وتداوى به!
ومن أظرف نوادره، أن صديقا له لقيه مرة في الطريق، وهو منقبض النفس متربد الوجه، فسأله ما به، فقال له: إن المصران الأعور عندي ملتهب، فقال له صاحبه: وبماذا تشعر؟ فقال: أشعر بوجع شديد هاهنا، وأشار بيده إلى جنبه الأيسر، فقال له: إن المصران الأعور إنما يكون في الجنب الأيمن لا الأيسر! فأجابه حافظ من فوره: يمكن أكون أنا يا سيدي أعور شمال! •••
ولا أحسب شاعرا يجيد الإنشاد كما يجيده حافظ، وإن له لصوتا جهيرا، فخما، رائع المقاطع، فإذا هو وقف ينشد الجماهير هزها هزا، ورفع بالترتيل حظ الكلام درجات على درجات.
ولا ننس لحافظ يدا جليلة على اللغة العربية بما نظم وما نثر إنشاء وترجمة، فلقد طالما استخرج من مجفوها صيغا طريفة بليغة أدت كثيرا من الأسباب الدائرة بين الناس، مما تتحرك معانيه في الأنفس ويعيي أداؤه على الأقلام.
وحافظ إبراهيم - ولا شك - من مفاخر هذا العصر ومن مباهجه معا. أسأل الله أن يبسط في عمره، وأن يرزقه العافية، على أن يقتنع هو أنه في عافية!
وبعد، فإذا كنت يا صديقي قد وترتك بعض حقك ولم أعرض جميع مزاياك؛ فلكيلا أجعل لأحد سبيلا إلى الاتهام، وإذا ظن بي شانئ أني لم أتسقط كل هناتك، إن كانت لك هنات أخرى، فما كان الود ليريني إلا الخير في أصدقائي، على أنني أعتذر إليك في الأولى، وأعتذر إلى القراء في الثانية، وأستغفر الله في الحالين، وأسأله تعالى أن يصرف عني محنة الكتابة، ويتوب علي من فن الكلام.
هدى هانم شعراوي
لقد تعرف أن العرب إنما أخذوا علم المنطق عن اليونان وعربوه تعريبا، ودونوا فيه الكتب، وأشاعوا البحوث وضربوا الأمثلة، على أنهم في كل ذلك لم يخرجوا عن الأفق الذي رسمه اليونان حدا للمنطق تدور فيه قضاياه، وتتكيف أقيسته في أشكاله المقسومة، وكل أولئك مرده عندهم إلى العقل، وإلى العقل وحده. فأما القضايا الوجدانية، وأما الأقيسة الشعرية، فلا اعتبار لها ولا اعتداد بها في معرض الاحتجاج.
وبهذا أضحى المنطق شبيها بالرياضة إن لم يكن شعبة منها. وأما الفلسفة الحديثة، فلسفة الغرب، فقد تبسطت قواعدها حتى تناولت نجوى القلب وحديث الوجدان! وأدخلت هذا في جملة الأقيسة التي تعتبر نتائجها، ولقد يكون هذا من الحق، فإن شعور النفس أحيانا لا يقل صوابا عن حساب الذهن، بل لقد يسبق الوجدان أحيانا، ويستشرف إلى ما لا يهتدي إليه العقل، وينقطع من دونه جهد التفكير، فليس عدلا وليس حقا أن يسقط الإنسان هذه الأداة القوية النافذة من أسباب تعرفه واستكناهه لحقائق الأشياء!
على أن هذا أيضا لا يسلم من الخطل، فكثيرا ما يكون موقع الرأي في الوجدان أثرا من آثار الهوى، أو حكم البيئة، أو الظرف الخاص، أو طول الاعتياد أو نحو ذلك مما تتجه به نزعات النفس دون أن يكون للحقائق في نفسها أي اعتبار.
وإنما سقت هذه المقدمة الطويلة، المملة أيضا، لأقرر أنني، في مسألة المرأة، رجل رجعي، لا أرد هذا إلى قياس منطقي عقلي، على الطراز القديم، إنما مرد الأمر كله إلى قياس وجداني على الطراز الحديث. نعم، لا أدعي أنني حركت في الأمر عقلي فأثبت لي بعد ترتيب الأقيسة المنطقية، أن «نهضة المرأة المصرية» غير ميسورة أو غير صالحة، إنما هي نزوة الوجدان لا تلهمني من هذا إلا أسى وتطيرا! •••
وأهاب بي صديق: «فيما تقصر مراياك على الرجال، وفي النساء من هن أفضل من كثير؟» وأول من تنظرت لي من سيدات العصر، من غير تردد، هدى هانم شعراوي، ولكن! سرعان ما مثل لي تداعي المعاني أيضا مسألة «النهضة النسوية»، إذن، سأكتب في السيدة هدى هانم شعراوي، وإذن، سأعرض برغمي لحديث «النهضة النسوية».
على أنني لم أر السيدة النبيلة، ولا بد لي قبل أن أريها مرآتي أن أراها، ولا بد لي قبل أن أتحدث عنها أن أتحدث إليها، فكيف السبيل إلى كل ذلك؟ ذلك أن أتشفع إليها بصديق لأسألها في مسألة خيرية.
وهمها في العلا والمجد ناشئة
وهم أترابها في اللهو واللعب
ولقد تفضلت السيدة الكريمة وأذنت لي في التمثل لها في قصرها الفخم القائم بإزاء دار الآثار، أو القائمة بإزائه دار الآثار.
مضيت إلى الموعد ورأسي يزدحم بجلائل الأفكار عن هذه السيدة النبيلة، المزدحم تاريخها بجلائل الأعمال، ولقد ثار المصريون في صدر سنة 1919 يطلبون نصيبهم في الحياة، وأبت كرائم السيدات أن يتخلفن في الخدور، فنفرن في خفة إلى الجهاد، وفي طليعتهن كانت السيدة هدى هانم شعراوي. ولقد يسيغ الرجل الرجعي «مثلي» هذا؛ لأننا كنا في جهاد، وهل خلا جهاد من أثر للسيدات عظيم؟ وهادننا الإنجليز وهادناهم، وسكت المدفع وتكلمت السياسة، وآبت أكثر العقائل إلى خدورهن تاركات ذاك للرجال، فذلك، في رأيي، من شأن الرجال وحدهم. وأبت هدى هانم، في سرب من ربات الحجال، إلا أن تجول في السياسة مجالا، ولعله عز على بنت سلطان باشا الذي مثل خديو مصر في البلاد يوم حاصر العرابيون الخديو في الإسكندرية وكفوه عن ولاية الحكم، والذي جرد عليه بعض الثائرين السيف فلم يتتعتع عن التشبث بما اعتقده منجاة للوطن، ولعله عز على زوجة علي شعراوي باشا الذي كان ثالث ثلاثة خاضوا، في يوم الروع، مدافع السلطة وأسنتها، وراحوا يقولون لعميدها في شمم وقوة: إن مصر تريد حريتها لأنها لا تطيق حياة الرق، فإذا كنتم ترومون أن تتصلوا بها، فلتكن صلة الأكفاء بالأكفاء لا السادة بالعبيد، لعله عز على هذه السيدة التي خاضت المجد من كل أطرافه أن تسكن أو تبلغ مصر غاية مناها من الحرية والاستقلال.
على أنها ما لبثت في ميدان السياسة أن فطنت إلى أن لها مهمة أخرى لو حررت لها مواهبها العظيمة، لكان ذلك أزد على بني وطنها، بل على قضية هذا الوطن، ولقد اجتمع للسيدة هدى هانم ما لم يجتمع لكثيرات في هذه البلاد، اجتمع لها الحسب، والغنى، والذكاء، والنشاط، والغيرة الشديدة على النفع العام.
وشاء الله لهدى هانم، أو على الصحيح، شاء لحظ مصر أن تقبل هذه السيدة بكل مواهبها على ما هو أخلق بها، فرأت أن المرأة المصرية مظلومة فحق أن تنصف، محرومة فحق أن تعطى، جاهلة فحق أن تتعلم، وأنفقت ما شاء الله من مالها وجاهها ومساعيها حتى شرعت الحكومة قانونا لسن زواج البنت، وحتى فرضت من عنايتها نصيبا عظيما لتعليم البنات. وما زالت السيدة تلح بمساعيها على الحكومة في شأن المرأة، وما زالت عناية الحكومة تتسع لهذا الإلحاح الكريم.
أما من جهتها هي، فقد راحت تعمل على تهذيب المرأة المصرية وتعليمها، ورفع شأنها بكل دخل في إمكانها من الذرائع: فمن إنشاء مدرسة، إلى إقامة ملجأ، إلى تشييد مشغل، إلى نشر مجلة، إلى إلقاء المحاضرات العامة في شئون التربية والتعليم.
ولم تقنع بكل ذلك، فأقامت مصنعا للخزف؛ تحيي به صناعة وطنية قديمة من جهة، وتعصم به من جهة أخرى طائفة كبيرة من الفتيان المتبطلين من التشرد والاطراد في طرق الشر والإجرام، ويضيق العمل في داخل البلاد عن مساحة همتها، فتهاجر كل عام إلى ديار الغرب؛ لتهتف باسم مصر وتعلي من قدر المرأة المصرية هناك.
وأظن السيدة هدى هانم شعراوي أول سيدة مصرية مثلت بنات جنسها في بلاد الغرب، فقد وفدت على روما من بضع سنين وانتظمت عضوا في المؤتمر النسوي الذي عقد هناك، وألقت بين أهله خطابا نفيسا دل القوم على أنهم كانوا في عقيدتهم في السيدة المصرية جد مخطئين.
ووفدت صيف هذا العام على باريس، ودخلت عضوا تنوب عن نساء مصر في المؤتمر النسوي الذي حضره رئيس الوزارة ووزير المعارف كلاهما، ومما يذكر لها بالإعجاب، أنها لاحظت أنه قد رفعت في قاعة المؤتمر أعلام الدول التي ينتمي إليها الأعضاء جميعا ما خلا مصر، فلم تتوان عن الجهر بما لاحظت، فاعتذر إليها القائمون بشأن المؤتمر، وأكدوا لها جهد قواهم أن الأمر لا يمكن أن يصرف إلا على مجرد السهو، وبادروا إلى العلم المصري فرفعوه بين التحية والتصفيق، ولما انتخب أعضاء لجنة المؤتمر التنفيذية كان بينهن، ولا فخر، ممثلة نساء مصر هدى هانم شعراوي.
كل هذه الأفكار كانت تساورني في طريقي إلى قصر السيدة هدى هانم شعراوي، إلا أنني، كما أسلفت إليك، في مسألة «النهضة النسوية» رجعي، وإذا كنت أخاف شيئا من وفادتي تلك، فهو أن تغير السيدة هدى هانم رأيي في المرأة، والمرأة المصرية على وجه الخصوص!
وأنت إذا جددت في التفكير، انتهيت إلى أن أكثر ما يستريح إليه الناس وما يختمون عليه قلوبهم في معاقد آرائهم مدين لهذا النوع من الأنانية في الإنسان، وإن المرء ليؤمن بالرأي حتى ليقاتل في سبيله ويبذل مهجته من دونه، وما كان هذا الرأي نتيجة منطق سليم، ولا وليد تفكير صحيح، بل لقد يكون أثرا من آثار التقليد، أو طول الاعتياد، أو حكم الظرف الخاص، أو غير ذلك من مختلف الأسباب، وإن الزمن ليعقد بين المرء ورأيه ألفا ومودة، وتلك العلة في نفورك من كل من يكشف لك عن مواقع الخطأ في رأيك، ويحاول أن يزعجك عنه إلى ما ربما كان الصواب. ولقد لمس المتنبي هذا المعنى في قوله:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا •••
وبلغت قصر السيدة الفخم، وقادني الخادم إلى غرفة صنعت على «الطراز العربي»، وقد افتنت اليد الصناع في سقفها وجدرانها ومحاريبها وأثاثها وثرياتها وصورها وتهاويلها، حتى خيل إلي أنني إنما أعيش في القرن الرابع عشر لا العشرين. وجاء شاب من قرابة السيدة، فدعاني وسار بي، فخضنا بهوا عظيما هائلا يتحير الطرف في بدائع أثاثه ورائعة تحفه، حتى أفضى بي إلى غرفة مبسوطة الجنبات، أثثت بفراش من طراز لويس السادس عشر، وزينت جوانبها بغوالي الطرف، كما زينت جدرها بأبدع ما جالت به أيدي المصورين. والواقع أن عينك لا تقع، أنى دارت، إلا على مظهر من مظاهر الغنى، إلا أن ذهنك سرعان ما يستغرقه شعورك بما في ذلك النظام من دقة ذوق وروعة جمال. وهناك استقبلتني السيدة النبيلة مرحبة، وأومأت إلى كرسي كبير - فوتيل - فجلست وجلست.
ولست أعالج من وصف سيدة ما أعالج من وصف الرجال في هذه «المرآة»، إلا أنني لا أكتم القارئ أن هذه السيدة تحيط بها هالة من جلال تحسر النظر عن تصفح ما في معارف وجهها من قسامة وجمال، وذلك البريق في عينيها قل أن يقع على محدثها، بل إنها لتشرد به في ناحية أخرى في فتور طرف، على أنك لو استطعت أن «تنشل» منه في غفلة منها نظرة واحدة، أقنعتك تمام الإقناع بأن نظرها إنما يتجاوز المحيط الذي أنتما فيه ببعيد. والواقع أنها سيدة مفكرة، والظاهر أنها لا تنقطع عن تفكير عميق، محتشمة الثوب، محتشمة المجلس، محتشمة القول، محتشمة الابتسام.
وانتهى دور التحية، ولم يبق لي بد من الكلام، فقلت لها: يا ستي، إنما جئت لأسألك في بعض ما تعانين من الأعمال، فأجابتني في دهشة قد تنطوي على شيء من الإنكار: لقد أخبروني يا سيدي أنك آت لتسألني في مسألة خيرية! - وهل ثم خير أبلغ وأجمع مما تعالجين يا سيدتي من وجوه الأعمال؟ - تفضل فسل عما شئت. - قبل كل شيء لا أكتمك أنني رجل لا أقول بالسفور، ولا أذهب مذهب السفوريين، بل إني أعترف بأكثر من هذا! أعترف بأنني في مسألة «النهضة النسوية» ما زلت رجعيا. - رجعي! ولماذا؟ وما حجتك على هذا الخلاف لجماعة السفوريين؟ - لست أتكلف لهذا حجة، بل لعله رأي طبعتني عليه البيئة بحكم نشأتي في بيت محافظ.
وهنا ابتسمت السيدة النبيلة ودارت ببصرها دورة سريعة، وقالت في بطء يتداخله شيء من العجب: وأين نشأت أنا؟! وكأنها بهذه الكلمة الصغيرة تقول لي بأبلغ البيان: وهل نسيت أنني نشأت في أكبر بيت في الصعيد له كل تقاليده المأثورة، وعاداته القاسية الموروثة؟ فأجبتها من فوري: وهذا يا سيدتي مما يزيد في العجب! - ليس الأمر بدعا كما تظن، فإن أمة تريد أن تحيا وأن تأخذ مكانها تحت الشمس، إنما تعبث بعقلها وكرامة تفكيرها إذا ظنت أنها بالغة من ذلك ونصفها أشل! وكيف يرقى الرجال إذا لم يرق النساء؟ وكيف ينتظم حال بيت تديره امرأة جاهلة، لا رأي لها في الحياة ولا كرامة ولا خطر؟ وكيف تريد للأمة رجالا صالحين أكفاء للحياة المجيدة القوية، إذا كان يتولاهم في بدء نشأتهم ويطبع تفكيرهم أمهات جاهلات وضيعات التفكير؟ - يلاحظ يا سيدتي أنه في هذا الوقت الذي قويت فيه الدعوة إلى السفور، خرجت كثيرات من السيدات عن آفاقهن سواء في ملبسهن وفي غير الملبس من مطالب الحياة! وترى هل هناك صلة بين الأمرين؟ - إن دعوة السفور ما كانت يوما لتنطوي على هذا التبرج، وهذا السلوك الذي تنكره وننكره كلنا معك. فإذا ظن ظان أن من السفور ما تفعل بعض سيداتنا، مع كثير من الأسف، من الابتذال في مجالس الرجال والرقص ونحوه فهو في أشد الضلال. وإذا كان بعض السيدات قد تطرفن في سلوكهن، فما كان ذلك إلا نتيجة «التطور» الاجتماعي، ونحن إذا دعونا إلى السفور، وعملنا بجهدنا على تحقيقه، فإنما نفعل ذلك لنكبح جماح هذا «التطور»، ونسير بالمرأة الشرقية في الطريق النافع المأمون. - وإنك يا سيدتي لتجاهدين كثيرا في أعمال البر، فهل لك أن تصوري لي شعورك كلما أدركت من عملك نجاحا؟ - إنني إذا كان قدر لي في مساعي نجاح كما تقول، فإن شعوري مشغول عنه بمعالجة ما لم يتهيأ بعد له النجاح، ثم قالت في تواضع عظيم: إن خطانا ما زالت بطاء، وخطى الأيام سراع! - لعلك يا سيدتي لا تزنين تمام الوزن أثر المجهود العظيم الذي بذلته على الأيام، لأن أقل الناس إدراكا لنمو الطفل هما أبواه. - على كل حال، فإنه ما زال بيننا وبين الغاية التي نطلبها بون بعيد، فإذا لم ندركها نحن رجونا أن يدركها من بعدنا من الأجيال. •••
وهنا، استأذنتها داعيا لها بالصحة وطول العمر، وانصرفت لا أدري، أبقيت على رأيي «الرجعي» في النساء أم لا؟ إلا أنني رأيت لساني يردد قول المتنبي:
ولو كان النساء كمن رأينا
لفضلت النساء على الرجال
إسماعيل صدقي باشا
ما رأيت رجلا افترقت فيه أهواء الناس كما افترقت في إسماعيل باشا صدقي، فلقد أحبه قوم أشد الحب، وأبغضه قوم أشد البغض، وبقي فيه آخرون متحيري المذاهب، مترجرجي الآراء، وليس يشغل الناس بكل هذا إلا عظيم.
ولقد رزقه الله قصدا في كل ضواحي خلقه؛ فهو ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالبدين ولا بالهزيل، معتدل القامة، متناسب الأعضاء، له وجه لطيف مستدير، وفم حلو تترقرق عليه ابتسامة حلوة، يحدثك في هوادة وظرف، حتى لترى فيه خفر الكاعب وارتياح الغلام، ولا تجده، مهما لج بكما الحديث وتعلق بما يحفز ويثير، إلا وادع النفس، مطمئن القول، عذب الصوت، يقاولك في الجلى كما يقاولك في أتفه الشئون، حتى لتحسبن هذا الهيكل الذي يجتمع عليه نظرك لا يجن إلا طاقات من الزهر، أو قطعا من نسيم السحر، فلا غضب ولا مراح ولا ضغن ولا وجد ولا غريزة من تلك الغرائز التي تتفجر في صدور جميع الأحياء! ولكن، ارفع بصرك إلى عينيه تجد هناك كل ما يصول به اللسان، وتتنزى به في الحادثات جوارح الإنسان! ولصدقي باشا عينان حديدتان، وهما مستديرتان في غير سعة، وقد ركز الله فيهما مظاهر كل ما في الرجل من ألوان العواطف، فإذا استرسلت نفسك منه إلى مثل صفاء الغدير، فاحذر فلعلك بين براثن ليث خادر!
ولصدقي باشا صلعة شديدة الوضوح، تنحدر إلى مؤخر نافوخه حتى لتعرفنه بها موليا كما تعرفه مقبلا.
ويهب الله له دقة في الحس، وصفاء في الذهن لم يهبهما لكثير من الناس. وإليهما يرجع الفضل أعظمه في كل ما أدرك من براعة ونبوغ. ولصدقي باشا كل مواهب الرجل الفني حقا، وإنه لم يعالج من يوم نشأته إلى هذه الغاية موضوعا في هذا الباب إلا برع فيه، وأوفى على نهاية الإحسان. وبهذه المواهب تهيأ لإسماعيل صدقي أن يكون أكبر رجل مالي في البلاد، لا أريد مؤلفا ولا محاضرا، وإنما أريد رجل عمل، أنقذ بمهارته ميزانية الدولة مرة، وكان قد أشرف بها سلفه على الدمار. وما يزال يعالج بتلك العبقرية الفذة ميزانية الدولة وزيرا وعضوا في مجلس النواب.
من ذخائر الأمم.
وقد تطلعت الآمال من بضع عشرة سنة إلى وضع مشروع جامع لترقية شأن البلاد من الوجهتين: المالية والاقتصادية، وعهد بهذا إلى «لجنة» من أهل الخطر في هذه الأمور، مصريين وأجانب، وتولى صدقي باشا رياستها، فبحث في كل مرافق البلاد، لم يدع دقيقة ولا جليلة في ذاك إلا حررها ودل على مواضع النقص فيها، وكيف تطلب أسباب الكمال لها. وخرج بمشروع عظيم لو أن مصر وفقت إلى الأخذ به والسير بمرافقها على ما رسم فيه، لكان لثروتها المسكينة اليوم شأن آخر!
وهو من أعلى المثل للكفايات الواسعة المشبوبة التي لا تتحرج بمطلب، ولا تنخذل عن الغاية، وأنى شارك في عمل كان المجلي، وكان أول نظره جماع الرأي في النهاية. ومما يؤثر له أن المجلس الاقتصادي - ولا تنس أنه من بعض آثاره في وزارة المالية - انتخبه رئيسا للجنة الفرعية التي عهد إليها وضع النظام الجمركي، فأعد برنامجا بديعا اتخذته اللجنة دستورا لها، وما زالت تترسم آثاره إلى الآن.
ومما يحصى له إن كانت تحصى مفاخر آثاره، تلك المحاضرة الرائعة التي ألقاها في العام الماضي على محامي المحكمة المختلطة في موضوع الامتيازات الأجنبية وعلاقتها بالضرائب، وما كان أعظم انتصاره إذ يضرب تلك الامتيازات في أمنع قلاعها، ثم يتدلى عن المنبر بين تهليل صفوة «الأجانب» وهتافهم الطويل! •••
وأحرز صدقي باشا إجازة الحقوق من مدرسة الحقوق المصرية وسنه لم تتشرف بعد على الثامنة عشرة، وخرج من مراكز النيابة فلم يظهر له فيها كبير خطر، وأي خطر كبير يمكن أن يتهيأ لعضو نيابة محدود السعي، محدود العمل؟ ولكنه ما كاد يولى سكرتيرية المجلس البلدي في الإسكندرية، حتى ظهر نبوغه وظهرت معه تلك الجرأة النادرة. ويقبض رجل مصري لأول مرة على ناصية المجلس البلدي، فيضبط إدارته ويعمل على أن يطهره من أدرانه تطهيرا.
ثم جيء به سكرتيرا عاما لوزارة الداخلية فوكيلا لها، فكان له شأن أكبر من شأن «موظف» مصري في ذلك الزمان. وأنى صار صدقي باشا في مناصبه صارت معه الدقة والفطنة إلى خفايا الأمور والاضطلاع من مهام الحكم بكل عظيم.
وتولى الوزارة فلم يطل به الحظ فيها، فاعتزلها ولبث في داره بضع سنين، إلى أن ألف الوفد في أعقاب سنة 1918؛ ليتحدث على قضية مصر، فانتظم فيه صدقي باشا، وكان رابع أربعة من رجالاته امتدت إليهم يد السلطة العسكرية فنفتهم عن البلاد إلى جزيرة مالطة، حتى إذا أطلقوا بعد تلك الأحداث الجلى، انطلقوا من فورهم إلى باريس حيث وافاهم سائر أعضاء الوفد، وهناك جعلوا يرفعون صوت مصر ويطرقون بطلبتها كل باب، ويسعون إلى استقلالها ما وجدوا إلى السعي سبيلا. وإذا كانوا رفعوا صوت مصر، فلقد رفعوا كذلك رأس مصر. وإذا كانوا دونوا في إثبات حقها صحائف خالدة على التاريخ، فإن اسم إسماعيل صدقي سيظل في أجل هذه الصحائف خالدا على التاريخ.
وفشت - مع الأسف - فاشية انقبض على أثرها صدقي باشا عن العمل، وصدر أدراجه إلى مصر وبقي في عزلته حتى كانت الوزارة العدلية في أوائل سنة 1921، فتقلد فيها وزارة المالية، وشخص في الوفد الرسمي إلى لندن في تلك السنة. وإذا كان قد شارك في بحث المسألة السياسية فقد انفرد ببحث المسائل الاقتصادية التي تعلقت بها المفاوضات، فكان فيما حرره منها حق لبق، وحق خبير.
وتعلم أن ثروت باشا قد استخرج في سنة 1922 تصريح 28 فبراير، وإعلان مصر دولة مستقلة ذات سيادة. فلا تنس أن صاحبه صدقي باشا كان وزره في هذا السعي وعونه بما جلى من التفاصيل. وما أبدع صدقي يكمل ثروت إذا عرضت عظيمات الأمور، هذا لخطب السياسة الضخم، وذاك لما يتكئ عليه حل المعضلات من دقائق الموضوعات.
فكيف بهذين مع عدلي بعينه العالية ونظره السياسي القدير؟ وكيف بثلاثتهم مع الزعيم الجليل سعد باشا، وما اختصه الله به من شدة نفس وقوة حجة وصلابة عود؟
ولقد حق للأمم الناهضة بهذا أن تغبط مصر، وإن مصر ببركة هذا الائتلاف المقدس لبالغة غرضها الأسمى إن شاء الله.
وبعد، فلقد لبثت مصر بضع سنين وعيشها السياسي قائم على تنابذ قادتها وتناحر أحزابها، كل يعمل للقضاء على غيره، حتى إذا خلا له وجه الأمر تولى حل قضية البلاد على ما قدره هو لتحقيق أماني البلاد. ويستحر القتال، ويرمي كل عدوه بما ملكت يده من أسباب الهلاك. ويأبى حارس الكنانة إلا أن يبصر الصفوة من القادة وأعيان أهل الرأي بأنه إذا كان هناك من يستفيد بهذه السياسة الدامية فليست هي مصر على أي حال!
وما إن أهاب بالقوم ذلك الداعي النصيح حتى ألقي السلاح، ونضيت الدروع، وخشعت القلوب، وفاضت العيون بالدموع، ومشى الأخ إلى أخيه يستعتبه فيعتب، وهرع الولد إلى أبيه يستعطفه فيعطف ويحدب، وتبزل الأضغان وتسل الأحقاد، فيجتمع الأحباب من كل ناد، فلا ترى عطفا يملأ الأفئدة، ورحمة تسيل بها الأكباد.
شواجر أرماح تقصف بينها
شواجر أرحام ملوم قطيعها
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها
تذكرت القربى ففاضت دموعها
وكذلك أصبحت البلاد بنعمة الله صفا واحدا، يرمي في غرض واحد بعد أن كانت صفوفا يرمي بعضها بعضا. وصدقي باشا رجل شديد في رأيه يعمل له بكل ما أوتي من قوة، وهو من أكبر العاملين على ترك سياسة الفرقة إلى سياسة الوئام، وصل الله في عمرها إلى غاية الزمان، فكان شديدا في الأولى كما كان شديدا في الثانية، ومن ينكر عليه هذا فهو لا يدين بمنافع البلاد حيث كانت، ولكن يدين بعبادة الأشخاص حيث تكون!
وهل كان هذا في شرع السياسة بدعا؟ وهذه دول الغرب التي نأخذ عنها أساليب الحكم، ونتروى وجوه التصرف في السياسة، لقد تتعادى أحزابها وتتفانى، وينضح بعضها بعضا بالمكروه، حتى إذا حدثت الأحداث تصافحت الأيدي، واتحدت الكلمة وتلاحمت الصفوف، ودخل رجال من بعضها في وزارة ينمى رئيسها لآخرين، والأمثلة على هذا أوفر من أن يتناولها البيان.
ولقد كان سعد وعدلي وثروت وصدقي من فجر النهضة حزبا واحدا، يدينون برأي واحد، ويسعون لغرض واحد، فهل يعد عليهم اليوم أن تنحسر الفتنة بينهم، وأن يعودوا كما بدءوا قلبا واحدا، وقد جدت الأحداث، لإنقاذ حياة البلاد؟! •••
ولعل صدقي باشا يمتاز عن أصحابه بشدة العصبية لأهله ومعشره، فلا يفتأ يتفقدهم ويتوافى لهم ويصلهم بكل ما دخل في ذرعه، ولقد يفرط في هذا إلى الحد الذي يبعث ضعاف الأحلام، على إنكار ما أوصت به المكارم من صلة الأرحام!
وصدقي باشا، في بابه، عدة قوية للبلاد، وهو لا يكل من العمل، على فرط ذكائه، ولا يمل. ومما تحدث به عنه أعرف الناس به، أنه حين كان وزيرا للمالية لم يكن يرهق كبار موظفيها بطول المراجعة والاستخبار، بل كان يتكئ على فطنته واختباره وحدهما في مذاكرة ما يدفعونه إليه من الأوراق. ومما تحدثوا به عنه في هذا الباب أيضا، أنه كان في غاية اليوم تحمل إلى داره خرائط ثلاث أو أربع تجن كل ما يجري من الأعمال في وزارة المالية، فيكب على دراستها من الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي فلا تدخل الساعة التاسعة إلا وقد قتلها بحثا ومراجعة، واستوى له في كل منها الرأي النصيح.
وإن خطئا عظيما ألا يستخدم على الدوام للنفع العام، فإذا أخذه شانئوه بهنة فما كان هذا ليتنقص أقدار الرجال، إلا إذا تنقصت الكهوف أقدار الجبال، ولعلهم في هذا أيضا كانوا مسرفين!
من صدقي باشا إلى محرر المرآة
وقد تفضل حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا، فبعث إلى محرر «المرآة» بالكتاب الآتي:
عزيزي الأستاذ الفاضل
أشكر فضيلتكم كثيرا لمرآتكم الناصعة وإن كنت لا أخفي عنكم أنني لم أتعرف صورتي تماما خلالها، بل أخشى أن تكونوا قد بالغتم في تجميلها وتزيينها.
وأرجو قبول تحياتي.
المخلص
إسماعيل صدقي
17 يناير سنة 1927 «محرر المرآة»: وليس لي يا مولاي ما أقوله في هذا المقام غير قول الشاعر:
فلو «صورت» نفسك لم «أزدها»
على ما فيك من شرف الطباع
علي الشمسي باشا
لم يكن علي الشمسي من يوم نشأته منكور المحل، وأول عهد الجمهور به يوم كان في سويسرا يطلب العلوم العالية، فكان طالبا مجدا متفوقا، وكان إلى جانب ذلك حركة وطنية قوية تدعو لمصر المضطهدة وتطلب لها الحرية في صميم بلاد الحرية. نعم، كان الشمسي في أوروبا أقوى صدى لصوت الحزب الوطني في مصر، وأتم تحصيل علومه ونال عليا الشهادات من أكبر جامعات سويسرا، وعاد إلى بلاده، فظن الناس أن «وظيفة» تمهد في الحكومة لهذا القادم الناجح الجديد، فإذا به يعدل إلى دار الحزب الوطني وينتظم من فوره عضوا في مجلس إدارته. وهكذا كان الشمسي درسا بليغا في التضحية خالصة لوجه الوطن ، ومن حيث علم من لم يكن يعلم أن التلميذ يتعلم في مدارس مصر، حتى إذا تاقت نفسه إلى طلب العلم العالي هاجر إلى بلاد الغرب، فلبث سنين طوالا بعيدا عن أهله وأحب الناس إلى قلبه، وأنفق ما شاء الله أن ينفق من مال وعمر، وأدركه ما شاء طلب العلم من كد ذهن وإرهاق عصب، حتى إذا برع وحاز أسمى الألقاب العلمية، عاد إلى بلاده لا ليطلب بهذا كله عند الحكومة مرتزقا، ولكن ليطلب به «وظيفة» جندي مجاهد في سبيل الوطن!
وكان علي الشمسي في الحزب الوطني قوة كبيرة، لا في جهارة الصوت، ولا في كثرة الترائي للجماهير، ولا في سبب من أسباب الظهور، ولكن في صحة الرأي وبعد النظر وسلامة التدبير، حتى إذا بعثته ضرورة الحال للخطابة، أسمع الناس كلام وطني شديد الوطنية، في عبارات سياسي محصه العلم ومرسته تجارب الأيام.
وهنا يحلو لي أن أقرر ملاحظة صغيرة: تلك أنه لم يكد يخرج رجل فينا إلى ميدان السياسة إلا جاز إليه بالحزب الوطني والتشيع بادئ الرأي لمبادئه. والوجه في هذا - على تقديري - أن الحزب الوطني حزب الشباب حقا، وأن مبادئه مبادئ الشباب حقا.
بصير بأعقاب الأمور كأنما
تخاطبه من كل أمر عواقبه
والشباب كله حد
1
وقوة: دم فائر، وطبع ثائر، وخيال طائر، وأمل لا يتحسب للصعاب، ولا ينخذل عن الاستشراف للغاية مهما عز الطلاب:
2
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا!
وكلما علت السن عدا العقل على الخيال، وقصت التجاريب من حوافي الآمال، وطال النظر وكثر الحساب، وتحير الرأي فيما على طريق الغاية من عواثير وما فيها من عقاب
3
إلى ما تثلم السن من القوة، وتقلم من أظفار الفتوة، وتعجز من تلحقه عن التطلع إلى الطفرة، وتطامن من جماح أمله طلبا للسلامة من العثرة. فاحكم أنت بعد هذا: أكانت فترة الشيوخ عن صحة تدبير وصدق حساب، أم عن تراخ في المنة وعجز عن الوثاب؟!
وجاء الانتخاب «للجمعية التشريعية» فظفر علي بك الشمسي بالعضوية فيها عن مديرية الشرقية، ولا أدري أكان ظفره بذاك، على شدة التنافس وقسوة الخصومة السياسية، لإدراك الناخبين صدق وطنيته وما له من المواهب السامية، أم لأنهم إنما أخرجوه للنيابة عنهم لحسبه، وأصالة عرقه، ومواضع بيته في تلك البلاد؟
على أنه ما كاد يتبوأ كرسيه في «الجمعية التشريعية»، وكان أصغر أعضائها سنا، حتى انفسح له بين رجالاتها في مكان الرأي والحكمة مكان خطير!
ودارت رحى الحرب العظمى، وظهر للسلطة القوية أن علي الشمسي «من غير المرغوب فيهم» فكفوه عن العودة إلى بلاده، ويلبث في ديار الغرب منفيا طوال زمن الحرب، فاغتنم هو هذا النفي ليدعو فيه لمصر وليستزيد من فضل الوقت لطلب العلم في أعظم جامعات الغرب.
وأراد الله وأغمد السيف، وهتف هاتف السلام، وأذن «للمغضوب عليهم» في العودة إلى بلادهم، فعاد علي الشمسي لا ليستريح من ذلك النصب الطويل، ولكن ليستقبل في قضية بلاده ذلك الجهاد الطويل.
وشخص الوفد المصري إلى أوروبا، فسرعان ما اتصل به علي الشمسي، وظل يمده بجهوده ويصله بصادق الدعوة في مواطن الدعوة، ثم انتظم فيه عضوا.
وبعد، فأنت أخبر بمساعيه للوفد المصري وبخاصة في بلاد الغرب، مما أجدى عليه بقوة ذكائه وعظيم اختباره ووثيق صلاته برجال السياسة هناك أعظم الجدوى. •••
ولقد حدثتك في أول هذا المقال أن علي الشمسي لم يكن من يوم نشأته منكور المحل، وإنما أردت بهذا علم الناس بنشأته في المجد والحسب، وثقتهم بما له من شدة فطنة وواسع علم، وإيمانهم بما أدرك من اختبار وتمرين في السياسة وصدق جهاد في الوطن. أما أنه يصلح لأن يكون وزيرا، وفي وزارة المعارف، يضطلع بتلك الإدارة الواسعة ويعالج أضخم مشكلة تعترض حياة البلاد، وهي مشكلة التعليم؛ فذلك ما كان محل نظر كبير، إن لم أقل إنه كان موضع خوف كبير! حتى لقد سلم كثير من الناس الأمر لله في هذا وللزعماء تسليما! وحتى قال بعض الصادقين المخلصين حين رأوا إجماع الزعماء على تقليد علي بك الشمسي وزارة المعارف: «اللهم إيمانا كإيمان العجائز!»
وأول ما ظن به أنه سينبعث بهوى السياسة وحدها في عمله الجديد، فلا يرى أثرا إلا عفاه، ولا بناء إلا هدمه، ولا عملا لأسلافه إلا نقضه، ولكن علي الشمسي لم يكن عند رأي أحد من أولئك المتعجلين جميعا! فقد ارتفع به علمه عن أن يغير في نظم التعليم لمجرد الشهوة في التغيير، وارتفعت به وطنيته عن أن يغضب العلم ليرضي السياسة. وحين فارت فورة بعض أعضاء مجلس النواب على ما صنع سلفه، أبت على علي الشمسي كرامته وكرامة العلم عليه أن يشايع بظهر الغيب، بل لقد صارح القوم بأنه لا يستطيع أن يحكم على عمل سلفه إلا بعد أن يراجعه ويصيب فيه مكان الرأي، فما كان منه خيرا أثبته وأقره، وما كان شرا رده إلى الخير. وأسرع لساعته فدعا بالأفذاذ من أقطاب العلماء وأهل البصر في هذا الموضوع، وألف منهم «لجنة» برياسته لمراجعة نظم التعليم بجميع درجاته، ووضع الخطة الحكيمة التي تحقق في العلم أماني البلاد. وها هي تي تعمل جاهدة في هذه السبيل، فلا تنتقل من خطوة إلى خطوة إلا بعد البحث وتقليب النظر وطول المراجعة، حتى لا ترسل خطوتها إلا إلى الثابت المطمئن، مستهدية بالحكمة والاختبار وحاجة البلاد وطبيعة أهلها، وما انتهى إليه رأي علماء التربية في نظم التعليم. وإنا لنرجو الله تعالى أن يوفق هذه «اللجنة» في مهمتها حتى تبلغ غايتها، وبهذا ندعو لعلي باشا الشمسي بتسجيل أبلغ فخر أثبته التاريخ لوزير المعارف في مصر. •••
وعلي باشا الشمسي رجل جم الأدب وافر التهذيب، يروى عنه أنه لا يلقى أصغر عماله إلا باللطف والهشاشة، على أنه مع هذا شديد الحزم، لا تأخذه هوادة في موطن الحق. يغار على عمله غيرته على أوثق أسبابه، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من أعمال وزارته إلا سلط عليها ذكاءه وقلبها على كل نواحي الرأي، فإن اجتمع فيها وجه المصلحة الخالصة أمضاها وأجازها، وإلا فلأم هوى النفس وهوى «الرجاء» الثكل.
وليت حكامنا جميعا يصلبون على تقبل الشفاعات في غير مواطن الحق، فإن الإفراط في الرجاء أصبح من أعضل أدوائنا الاجتماعية.
وإذا كان الحاكم عدلا صادق الولاية على عمله، فليس هناك معنى «للرجاء» عنده إلا أن يراد به العدول إلى الظلم وتعمد الخلاف للقانون! أرأيت مثل هذا إسفافا في الطباع وفسولة في الأخلاق؟! ... والعجب أنه مع وضوح هذا كله لجماعة المضطربين بفنون الشفاعات عند الحكام، فإن أكثرهم ليطلقون ألسنتهم بمقالة السوء فيمن يعتصم بالحق ولا ينحرف، طوعا لشفاعاتهم، عن حكم القانون. وبهذا أصبح لا يستحق الحمد، في شرع هؤلاء، إلا ظالم متمرد على النظام!
وقال لي صديق من القضاة يوما وهو جزع ثائر النفس: لا يغيظني يا فلان قدر أن يجيئني الشفيع في إحدى القضايا فلا يفتح عليه الإجرام إلا بأن يرجوني «أن أقضي فيها بالعدل!» ومعنى هذا أنني لا أحكم في أقضية سائر الناس إلا بالظلم! ولو سألني أن أقضي في شأن صاحبه بالظلم؛ لكان ذلك أرفق بي وأدل على أنني إذا أرسلت على طبعي لما عدوت مكان الحق! ...
أقول، لو صلب الحكام جميعا على تقبل الرجاء لما استنكفوا الأذى فقط بل لطبعوا، على الأيام، كثرة الناس على حب الحق وإجلال القانون، وما أحوج بلادنا في نهضتها الكريمة إلى أن يتغلغل في القلوب حب الحق، وإجلال القانون.
ونعود إلى علي باشا الشمسي فنقول إنه أظهر في هذه الفترة التي قبض فيها على زمام وزارة المعارف كل مواهب الوزير العظيم، القوي الذهن، النافذ الرأي، الواثق بالنفس، والذي لا يجعل كلمته في أسباب الحكم رهنا بمنصبه، بل يجعل منصبه رهنا بكلمته.
وليس لتعليم علي الشمسي فضل كبير في الحرص على كلمته، بل إن أعظم الفضل في ذاك لحكم الوراثة، فقد قال أبوه أمين باشا الشمسي أغنى تجار القطن من قبل كلمة، وكان له أن يتحلل منها فلم يفعل، وخسر فيها مئات آلاف الجنيهات. وهكذا إذا كان في نبل الكلمة خسارة في المنصب أو المال، فهي كل الربح يحصيه التاريخ لعظماء الرجال. •••
وعلي باشا الشمسي شاب متين الجسم، مفتول العضل، أدنى إلى القصر منه إلى الطول، أبيض اللون، أزرق العينين، تسترعي نظرك منه تلك الجبهة الواضحة العريضة التي تمثل لك قاعدة مثلث ينتهي بأسفل ذقنه، وما أن راقك منه أدبه وشدة وداعته، فاطلعت منه على تلك الجبهة الهائلة إلا أحسست أنه رجل خلق للكفاح والنضال.
وحدثتك أنه مفتول العضل، ذلك بأنه
Sport
حقا، فهو يجيد السباحة، وركوب الخيل، والملاعبة «بالشيش»، ولا ينطوي عليه يوم إلا فرض منه قسطا للألعاب الرياضية.
وإذا كان في المصريين قوم قد أسفوا أول الأمر على تقليد علي الشمسي وزارة المعارف، فإن هؤلاء اليوم أشد الناس أسفا على أن الوزارة قد حرمت هذه العبقرية من زمان طويل.
الشيخ أبو الفضل الجيزاوي
ألا من شاء أن يقدر مبلغ التطور الذي دخل على رجال الدين عندنا، ويعرف مدى الطفرة العظيمة التي طفروها في سبيل الحضارة «والرقي»، فليسمع القصة الآتية:
حدثني الثقة الصادق أنه كان في الأزهر من ستين أو سبعين سنة عالم جليل المقدار يدعى الشيخ الإسماعيلي، وكان يسكن جامع المؤيد، وله تلميذ خاص، على عادة كبار العلماء في ذلك الزمان، يقرأ بين يديه درسه إذا أقبل على حلقته، ويتلوه عليه إذا خلا لمذاكرته؛ ويعينه إذا سعى، ويصب له ماء وضوئه؛ ويحمل نعله إذا دخل المسجد ... إلخ. وهذا التلميذ كان يدعى الشيخ حسنا.
وكان الشيخ الإسماعيلي رجلا شديد الزهد في الدنيا قوي الرغبة عنها، لا يتعلق منها بسبب إلا ما كان من شأن دينه وتعليم طلبته، وكانت وظيفته كل يوم بضعة رغفان يتبلغ بها وتلميذه، وفي كل شهر ثلاثين قرشا يأتدم بها وصاحبه، ويتجمل بما فضل منها لسائر حاجاتهما. ويدعو أحد التجار ذلك الشيخ ليتغدى عنده التماسا لبركته فيأبى الشيخ ويعتذر، ويلح الرجل في الدعوة فيلح الشيخ في إبائه واعتذاره. فلما أيس الرجل من إسلاس الشيخ طلب وجه الحيلة في الأمر فاختلى بالشيخ حسن وقال له: إذا رضت لي نفس الشيخ وقدته إلى داري ليفطر عندي في رمضان، وقد أصبحوا من رمضان على أيام، اجتعلت لك على هذا نحيين من السمن، وغرارتين من القمح، وأربعة أعدال من السكر والصابون والشمع والبن. فجمع الشيخ حسن كل عزمه وانصب على شيخه يقبل يديه ورجليه ويسأله ألا يخيب رجاء داعيه، إذ الشيخ ما يزال في نفوره وإبائه، والشيخ يلح في الاعتذار محتجا بأنه ما زال في «خزانته» خبز كثير. ولما طال إلحاح التلميذ فطن الأستاذ إلى أن في الأمر شيئا فقال له: هل اجتعل لك الرجل على هذا جعلا؟ فقال: بلى يا مولاي! لقد جعل لي كيت وكيت وأنا رجل، كما تعلم، ذو زوجة وأولاد، وإني أرجو أن أعود بهذا على شملي وأوسع في النفقة دهرا على عيالي؛ وحينئذ طابت نفس الشيخ الأكبر بإجابة الدعوة رحمة بعيال الشيخ الأصغر، وعين يوما من أيام رمضان ليفطر فيه عند ذلك التاجر. ويطير عم الشيخ حسن إليه يبشره بقبول الشيخ. ويحتفل الرجل للأمر فيدعو بأجود الطهاة ويتقدم إليهم بطهي أزكى الأطعمة، كما يدعو لليوم المعين أعيان التجار والسراة وكل ذي خطر في الحي لينعموا بطلعة الشيخ ويتشرفوا بمؤاكلته. حتى إذا كان عصر ذلك اليوم لاحظ الشيخ حسن على أستاذه فتورا وإغضاء وتربد وجه وانقباضا عن الحديث، حتى إذا تهيأت الشمس للنزول قال لصاحبه: هلم بنا. وانطلقا يطلبان حي الجمالية، مثوى الداعي، وما كادا يتشرفان على حارته حتى أبصرا علائم الزينة من بنود خافقة، وثريات آلقة، ترتجف أثناء ذلك بطاطيخ الزجاج في ألوانها، ورأيا كبار الأعيارن وهم ميممون دار الداعي على أتنهم وبراذينهم الفارهة. فجمد الشيخ واصفر وجهه وتهدلت شفته وأرعشت يداه وصاح في تلميذه: كم اجتعل لك الرجل يا شيخ؟ فقال: جعل لي كيت وكيت. قال: فكم يبلغ ثمنها؟ قال: يا مولاي حول الاثني عشر جنيها. قال: فقسطها علي كل شهر ثلاثين قرشا! ودار على محوره وجرى طلقا إلى مثواه في جامع المؤيد حيث يبسط خوانه مما ادخر من الخبز في «خزانته».
وفينا اليوم علماء كبار، ولنا اليوم شيخ إسلام جليل المقدار، لم يمنعهم علمهم، ولا دينهم، ولا شدة ورعهم عن أن يفقهوا الدنيا ويجاوروها في مظاهر حضارتها ورقيها حتى لا يطلقوا فينا القالة ولا يبعثوا الألسن بتنقص الدين والقول بأنه يدعو إلى الجمود ومناهضة عوامل الرقي والتقدم في الدنيا إلى حد أن يحيوا ليلة القدر المباركة في «دار الوكالة الإنجليزية في شهر رمضان الماضي!» ولو قد رأيتهم يهرولون في «فروجياتهم» إلى دار الوكالة الإنجليزية إجابة لدعوة العميد وذكرت مرجع ذلك الشيخ الجامد وهربه من تناول طعام لعله قد دخله ما لا يحل - لعرفت حق العرفان مبلغ التقدم الذي بلغه رجال الدين عندنا في مدى ستين أو سبعين من الأعوام.
الحمد لله! لم يبق إلا مائة ألف جنيه و5000 سهم بنك عقاري قديم حتى أنقطع إلى عبادة الله والزهد في الدنيا!
ولو قد استشرفت لك ليلة القدر فكشفت لك عن «خزانة» الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الإسلام لما وقعت عينك فيها على فقار من الخبز، بل لوقعت على الآلاف من «البنك نوت» إلى أمثالها من أسهم الدين الموحد، وشركة السكر، والرنت الفرنسي، والقونسوليد الإنجليزي، وقناة بناما، «ويانصيب» بلدية باريس، إلى وثائق الرهون، والغاروقات، والامتيازات العقارية، والاختصاصات، وأحكام نزع الملكيات، وإن شئت إجمالا قلت إن «خزانة» شيخ إسلامنا - والحمد لله - لا تقل عن خزائن ثلاثة «بنوك» مجتمعات!
وما لنا لا نغتبط بهذا ولا نباهي به وقد كانت كل «العمليات المالية» في أيدي الإفرنج واليهود والأروام والأرمن، وها هي تي الآن تستخلصها من براثن أولئك الأقوام، أيدي سادتنا العلماء الأعلام. •••
والشيخ أبو الفضل الجيزاوي رجل عصامي حقا؛ فقد خرج من بلدته الوراق من أعمال مركز إنبابة إلى الأزهر، وجد في طلب العلم، وكدح في ذلك كدحا عنيفا قام عنده مقام شدة الذكاء وقوة الاستعداد، وانتهى أمره، لا أدري بأية وسيلة، إلى المرحوم الشيخ العباسي المهدي الذي كره له لقبه فدعاه «أبا الفضل» فذهب له هذا اللقب من ذلك اليوم. ولما استوى عالما مدرسا كان المرحوم العباسي يعتمد عليه في بعض وسائل امتحان العالمية في الأزهر. ورأى الشيخ «أبو الفضل» أن «يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا كما يعمل لآخرته كأنه يموت غدا» فحرص على جمع المال وجد في تثميره من أيسر الوسائل، وكم واسى به عاتيا، وكم فرج به كربة محتاج؛ على أن الله تعالى، الذي لا يذهب العرف بينه وبين الناس، قد أنعم عليه وجازاه فيما أعطى أضعافا مضاعفة. وله في هذه المكارم أحاديث مأثورة، وصحف لا تزال مقروءة منشورة.
وظل الشيخ «المالي» مدرسا في الأزهر معروفا بشدة الاجتهاد والمطاولة في الدرس، وقوة الصبر على التفهم وتصيد الشكوك ومدافعتها، على عادة الأكثرين من علماء الأزهر في عهده، فكان درسه من أحفل الدروس بطلبة هذا النوع من التعليم.
وهو رجل معروف بحب القرآن وتلاوة القرآن، فلم يتبطر وهو عالم كبير، ومالي شهير، على أن يلي مقرأة السلطان الحنفي لقاء ريال في كل شهر، وعشرين رغيفا في كل أسبوع.
ثم ولي مشيخة معهد الإسكندرية وظل فيها إلى أن أفضت إليه مشيخة الإسلام في سنة 1916 أو 1917م، وبلغ من حب الرجل للقرآن واحتفاله للقرآن ألا يتنحى عن مقرأة السلطان الحنفي وهو في ذلك المنصب الجليل! ويأبى الله إلا أن يفسح له في الخير ويبسط له في الرزق، فبعد أن كان مرتب شيخ الإسلام ستين جنيها في الشهر أضحى ألفي جنيه في العام، وبعد أن كان ثلاثين رغيفا في اليوم أصبح ثلاثمائة، إلى ما أضيف إلى ذلك من وظائف عدة تجري على مولانا الشيخ الأكبر في كل شهر مكافأة على حضور مجلس إدارة مدرسة القضاء الشرعي، وأخرى لمدرسة دار العلوم، وثالثة على حضور مجلس الأوقاف الأعلى، ورابعة لمجلس البلاط، وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة، إلى تلك الأوقاف الواسعة التي دخلت على مشيخة الأزهر والتي لا يعلم حسابها إلا الله تعالى. وما شاء الله كان.
والشيخ أبو الفضل الجيزاوي متوسط القامة بين الطول والقصر، قصير العنق، عريض الألواح، متوافر اللحم لولا أن رهل لحمه بحكم التسعين؛ أخيف العينين، خفيف شعر العارضين، كوسج اللحية، أرت اللسان، إذا تحدث تمتم فلا تكاد تستبين له إلا بالعناء قولا، وقد أصبح من المرض وتزاحم السنين أشبه بمومياء، حتى لو قد استدرجته يوما إلى دار الآثار ما استطعت أن تستخرجه منها إلا بعد جدال وجهد في الإثبات ... وهو وإن تهدم جسمه، وإن خمد ذهنه، ما يزال فتي الرغبة في المنصب. وإن الحفلة الرسمية لتعقد، وللشيخ كل عذره في التخلف عنها لمعالجة ما هو أشبه بالموت، ولكنه يأبى إلا أن يحمل إلى الحفل حملا إدحاضا لما يتقول على صحته المتقولون.
وللشيخ مزيته التي لا تنكر، فهو شديد الحرص على إطاعة كل ما يؤمر به ممن يستدرج الأمر منهم، إذ الرجل واسع العلم بأحكم الفقه وما تتغير عليه في كل حادث آراء الفقهاء، فلا يعجزه أن يبرئ ذمته في أي حادث بجواب، مهما اختلفت العلل وتنوعت الأسباب.
ومن طريف ما يذكر لمولانا الشيخ في هذا الصدد ويدل على عظيم تصرفه وحاضر حجته أن عالما يمت لنشأت باشا بالصهر، وقد نال إجازة التدريس من الأزهر على أنه شافعي المذهب، وبعد سنين تقدم إلى الامتحان في فقه أبي حنيفة توسلا إلى تقلد منصب القضاء الشرعي، فلما طرح اسمه على لجنة اختيار القضاة الشرعيين، ولم يكن لنشأت باشا في ذلك اليوم شأن ولا خطر، عارض مولانا الأكبر في تعيين ذلك الشيخ بحجة «أنه شافعي». وتدور الأيام ويقبض نشأت باشا على كل السلطة في الحكومة - كما تعرف - فيرد اسم الشيخ صهره على اللجنة، ويتبارى بعض الشيوخ من أعضائها في تزكيته وتبيين مزاياه، ويؤمن على شهادتهم فيه مولانا الأستاذ الأكبر هاتفا بهم: ولا تنسوا أنه مع كونه عالما حنفيا فهو يجيد «فقه الشافعي» أيضا!
والشيخ، على ما أفاء الله عليه من الثراء العريض والنعمة الواسعة، ما زال يتخذ دارا متواضعة في زقاق ضيق خلاف ميضأة الحنفي، على أنه طالما أتعب سماسرة البلد في المساومة على ما يعرض للبيع من قصور الزمالك، والجزيرة، وقصر الدوبارة، «وجاردن ستي»، فإذا جاءوه بالبيت وكان ثمنه عشرين ألفا طلبه بالخمسة عشر، وإذا كان بخمسة عشر صمم على العشرة، وهكذا ما زال الشيخ جاهدا نفسه وجاهدا معه سماسرة البلد من عشر سنين مضت، فلا هو يشتري ولا يقعد عن التماس القصور، على حد قول الشاعر: «فلا أمل ولا توفي المواعيدا!» وما له ولقصور الدنيا تلك التي تستفتح الخزائن وتستخرج الأموال وتجشم النفقات، وفي الجنة قصور من الزمرد ومن اليواقيت ومما تقوم اللبنة فيه من الفضة وأختها من الذهب وهي لا نفقة فيها؛ فالطيبات كلها وألوان الترف تجري على أصحابها من غير كلفة ولا عناء. ولمولانا الشيخ منها، بعد العمر الطويل، ما لا يحصى جزاء الزهد في الدنيا والرغبة عن قصورها ومتاعها «وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟»
نسأل الله جل وعلا أن يمط في عمر الشيخ أبي الفضل في الدنيا وأن يسعد في حاله، ويزيد في ماله؛ فلا تقوم بجانبه البنوك، ولا تجوز بغير توقيعه الصكوك، وأن يخصه بكل ما تجبيه الأوقاف والحوانيت والشركات والمصارف، من أول الإسكندرية إلى أقصى القضارف. آمين.
عزيز عزت باشا
مظلوم من الطبيعة، ومظلوم من الحكومة، ومظلوم من الناس، ومظلوم من نفسه. شاع فيه المرض أو توهم المرض «أو ما تراه أعظما وجلودا؟» فهو يخشى الطعام لئلا يدركه البشم، ويخشى الشراب لئلا يلح عليه السقم، ويخشى المشي خوف تعب القلب وخفقانه، والتلفت اتقاء وجع الجنب وضرباته، والحديث فإنه يرهف العصب، والكتابة فإنها مدعاة للكد والنصب. ولا بد له من أن يطعم ليعيش، فإذا قربوا إليه الطعام دفع صحاف اللحم أبيضه وأحمره، لأن أضراسه لا تقوى على قضمه، ومعدته لا تضطلع بهضمه، وإذا جاءوه بالخضر صدف عن هذا ففيه حديد، وهذا لكثرة ما يحوي من «الأسيد»، وهذا لأنه وشيك التحجر، وهذا لأنه سريع التخمر، وهذا لأنه يستحيل في الأمعاء غازا، وهذا لأنه لا يجد في «الاثنى عشري» مجازا، ثم مد يده في خوف ووهل
1
فتحيف من إحدى الصحاف قطعة من «البطاطس» مسلوقة مدقوقة، قد بالغوا في عركها، وألحوا في فركها، ولم يعالجوها بدهن ولا مرق، حتى إذا أساغها بعد طول مضغ وهرس وترديد على كل ثنية وكل ضرس، مضى يطلب لهضمها من العقاقير كل ما أخرج أطباء الإنجليز والألمان، والفرنسيين والأمريكان مما يدر عصير المعدة، ويحرك الأمعاء، ويشد المصران ، ويقوي «الضفيرة الشمسية» ويمنع التخمر، ويشتف الغازات، ويجتاز «الحجاب الحاجز » فلا يضغط القلب، ثم راح يشكو هؤلاء جميعا!
لا يغرنك سهولة المرتقى إذا كان المنحدر وعرا.
وعزيز باشا عزت كبير الرأس، له وجه شاحب طويل على جسم رفيع طويل، لو وقف أمامك ولم يتحرك لخلته عصى خيزرانة ركب عليها مقبض من العاج!
وقد نجم من بيت حسب وغنى، وتعلم في صدر شبابه في مدارس مصر، ثم شخص إلى إنجلترا فتلقى العلم في مدارسها، ثم دخل في جامعة «ولش» العسكرية حتى إذا طوى فيها سنين طالبا مجدا متفوقا، خرج منها ضابطا في الجيش البريطاني، ثم استقال وعاد إلى مصر، فانتظم في خدمة الحكومة المصرية حتى قلد وكالة الخارجية إلى أن كانت وزارة محمد باشا سعيد الأولى، فلم ير أن يبقى في وزارة الخارجية وكيلا، فنزح بأهله إلى لندن وأقام فيها كل هذه السنين.
وهو رجل وافر الذكاء، غزير العلم، جم الأدب، صادق النبل، وبهذه السجايا استطاع أن يحرز في بلاد الإنجليز مكانا رفيعا.
ولما جاء دور اختيار السفراء قلدته حكومة جلالة الملك فؤاد الأول سفارة لندن، وكان اختيارا موفقا من ناحية ما للرجل من سعة العلم وصدق النبل ووفرة الغنى والمنزلة في عظماء الإنجليز، إلا أن الرجل، مع الأسف، كما أسلفت عليك مريض، ولعل المرض هو الذي شغله عن متابعة الحركة المصرية ومدارسة قضيتها، وتفهم ظواهرها وخوافيها، فلم يكن ذلك المعوان الذي يتكئ عليه رجال السياسة في معالجة القضية المصرية كلما جدت عظيمات الأمور.
وفي الحق، إن عزت باشا في خطبه البديعة الرائعة عن السودان إنما كان رجلا وطنيا أكثر منه رجلا سياسيا، فإن مهمة السفير أن يخاطب الرجال الرسميين لا يتخطاهم إلى خطاب الشعوب. ولعل ظرفنا الخاص هو الذي بعث حرارة عزت باشا وأطلقه في الشعب الإنجليزي بتلك الخطب السوابغ. وكثيرا ما يغتفر في أمثال تلك الرجات القومية تجاوز ما يدعونه بالتقاليد.
ولقد أخذوا عزيز باشا عزت بطول إجازاته، وتركه مثوى عمله الأشهر الطوال إلى سويسرا للتداوي وتارات إلى مصر . والرجل لم يكن متجنيا ولا متبطرا، فإنه وأهله كليهما مريض ، وقد حدثتك أن الطبيعة ظلمته، وأي ظلم أشنع من ظلم المرض، وحدثتك أن الحكومة ظلمته إذ قلدته بادئ الرأي منصبا لا تضطلع صحته بأعبائه، وإنه ليقدم إليها الاستقالة بعد الاستقالة، وهي تأبى إلا أن تردها إليه وأن تمسكه في مركزه رغم أنفه، والناس له في هذا كذلك ظالمون.
ويجمل في هذا الموضوع أن نذكر أن الرجل لم يدل يده إلى تناول راتبه طول مدة إجازته، فهو يردها على خزانة الحكومة ردا.
وأنت تعلم من مناقشات مجلسي البرلمان أنه لم يدخل في شأن «بيوت هوس» بيد ولا رجل. بل لقد أنكر هذه الصفقة أول الأمر وقضاها زيور باشا آخره في سر منه إذ هو في سويسرا.
وإن من الغبن أن يقال إن عزيز باشا عزت «يشتغل» سفيرا لمصر في لندن، ولو سألتني عن وظيفته الحقيقية، لقلت لك إنه «يشتغل عيان»، نسأل الله أن يلقيه العافية.
وبعد، فإذا كان لنا سفير في باريس وسفير في روما وسفير في الآستانة، وحتى لنا سفير في طهران! أفلا يصح أن يكون لنا سفير أيضا في لندن؟! وإذا كانت لنا صلات ببلاد فارس، ولفارس في أسواقنا سجاجيد، «وشيلان كشمير»، وسبح «كهرمان»، فإنني أتخيل أن لإنجلترا في أسواقنا شيئا يدعى الفحم، وآخر يدعى الحديد، وثالثا يدعى الأقمشة على اختلاف أنواعها، ورابعا وخامسا، فإذا لم يكن بيننا وبين إنجلترا مسائل سياسية تستدعي أن نبعث لها سفيرا، فلا أقل من أن نبعثه لما بيننا وبينها من وسائل تجارية!
وإذا لم يكن في مقدور حكومتنا أن تقبل من عزت باشا ما يقدمه لها من الاستعفاء، فإن في مقدورها أن تعجل له الشفاء!
أبو نافع باشا أو عمدة سان استفانو
محمد أبو نافع باشا شخصية قوية يحق أن يتولاها الكتاب بالبحث والتحليل. على أنني إذا عجزت عن أن أجلوه تماما في هذه «المرآة» فلأن تلك الشخصية غريبة في بابها، بل لعلها خرجت إلى هذه الدنيا على غير سابق مثال. أما جسمه فيبدأ دقيقا من طرفيه كليهما، ثم ما يزال يتدرج في الغلظ من كلتا الناحيتين حتى يبلغ السمن منتهاه، عند «خط استواه». ثم هو أفوه، غليظ الشفتين؛ حديد العينين، قصير العنق. إذا مشى حسبته هضبة تضطرب في زلزال، وإذا جلس خلته تلعة فصلت عن أحد الأجبال.
عاقل راجح العقل، ذكي مشتعل الذكاء، غني وافر الثراء؛ يجمع من ألوان العلم بتاريخ هذا البلد وأحداثه وأحوال أسره ونفسيات رجالاته ما أحسب أنه لا يتسق لرجل غيره.
وهو عذب الروح، حلو الحديث، بارع المجلس، حاضر النكتة يرسلها في موضعها في توقر واحتشام. وقد دعي - بحق - عمدة «سان استفانو» لأنه ما تكاد تلوح علائم الصيف حتى يشد الرحال إلى الإسكندرية فيتخذ له دارا في الرمل، فإذا كان الصباح من كل يوم خرج إلى «كازينو سان استفانو» فجلس مجلسه إلى يسار الداخل، وفي هذا المجلس يحتشد الجمع الحافل من الوزراء، سابقين ولاحقين، ومن مستشاري الاستئناف، ومن المديرين، ومن كبار الموظفين، ومن الأعيان، ومن أهل العلم والأدب، لأن أبا نافع باشا يدعو كل من جاز به من أصحابه ويعزم عليهم بكل عزيمة، ويأبى إلا أن يقرب إليهم «على حسابه» كل ما يسألونه غلمان الكازينو من ألوان الحلوى والمياه المعدنية وما إلى ذلك، ثم ينطلق في المجلس محاضرا مفاكها محبوك الحديث متزن الكلام إلى أن يحين وقت الغداء فينطلق «وحده» إلى داره، فإذا كان العصر عاد إلى مجلسه وعاد إليه من ذكرت من صدور الناس، فلا عجب إذا دعي أبو نافع باشا بعمدة سان استفانو، ولا بدع إذا دعي مجلسه هنالك «بالمصطبة».
لا تخف فإني والله خفيف!
وحدثتك أن أبا نافع باشا شخصية غريبة، والواقع أنه قد حيرني فيه، فلم أعد أدري أهو أكرم الناس أم هو أبخل الناس؟ فلقد أرى نفسه تطيب بالإنفاق على كل من استراح إلى مجلسه في سان استفانو بالغا ذلك ما بلغ، حتى ليخيل إلي أنني لو طلبت «على حسابه» كل يوم
Consommation
بمائة جنيه لسخا بها في هشاشة ولطف أداء، على أنه طالما وعدني بأن يدعوني في داره إلى حفلة عشاء يسمعني فيها المرحومة ألمظ، وما برح يطاولني في هذا وينظرني حتى ماتت، فتحولنا بالعدة إلى المرحومة الوردانية فما برح يطاولني وينظرني حتى قضت هي الأخرى إلى رحمة الله، ثم انتقلنا إلى الشهدية، فعبد الحي حلمي، ففلان ففلانة ممن طواهم الردى وأتى الموت على آخرهم حتى وصلنا بالسلامة إلى الآنسة أم كلثوم، مد الله في عمرها، حتى يحقق أبو نافع باشا وعده لي ويحقق رجائي فيه، ولا أظنني أدعو لأحد بالبركة في الحياة وطول العمر كما دعوت للآنسة أم كلثوم بأن يحييها الله تعالى حتى يدعونا لسماعها أبو نافع باشا! كذلك تجري الأحداث في البلد فيهرع المياسير وغير المياسير إلى الاكتتاب بالأموال الجليلة والضئيلة، ولكنك لا تسمع لأبي نافع باشا خبرا، ولا ترى لهم فيهم أثرا؛ على أنك - في بعض الأحيان - تراه يسخو بالآلاف ويعد صادقا بالآلاف وهو في صمت وكراهة للإعلان.
وهو رجل غريب في احتياطه وتحرجه؛ فلا تراه قط يتهافت على شأن عام، ولقد قامت الدنيا وقعدت وانصدع البلد أحزابا وشيعا، ثم كانت الانتخابات يتقاتل الناس عليها ويتناحرون فيها، وأبو نافع باشا جاثم مجثمه لا يحدر إليها طرفا ولا يدا.
وإنك لتجلس إليه والخطب قائم فما يزال يستدرجك ويستخرجك حتى تستريح إليه بمكنون رأيك؛ إذ هو متحفظ دونك ما تتفصد نفسه من الرأي بكثير ولا قليل. فإذا أنت عالجته على أن يفضي إليك في الحدث القائم بحقيقة رأيه ودخيلة اعتقاده، راح يرجحك بفنون من القول يطليها بأفاكيهه العذاب، حتى يختم عليكما المجلس أو تأخذا في حديث غيره.
وإذا تهيأ لنا أن نلمح جانبا من هذه النفسية الغريبة وأن نصورها للقارئ كما لمحنا وكما يحتمل التعبير، فالوجه في هذا أن الرجل إنما يأخذ نفسه بالاحتياط التام في كل قول، وفي كل عمل، وإن أكثر الناس لينزلقون في الأقوال وفي الأعمال حتى إذا بان لهم وجه الأذى فيما تورطوا فيه راحوا يطلبون الخلاص ويلتمسون لهذا كل ما دخل في ذرعهم من فنون الحيل .
أما أبو نافع باشا فقد طبع نفسه بادي الرأي على ألا يتورط في قول ولا عمل «وكفى الله المؤمنين القتال.»
وأبو نافع باشا وإن كان شيخا موفيا على الهرم إلا أنه ما زال فتي الروح، فهو لا يستريح إلى القعود في الدار استراحة الشيوخ، ولا يرضى لسنه ولمنزلته أن يبتذل بالجلوس على متون القهوات، فكيف يصنع ليرضي شيخوخة سنه وشباب روحه جميعا؟
لعلك تعرف قهوة «سبلنددبار» وأنها تقع في سرة العاصمة، وأنها مجاز كل غاد ورائح، ومتراءى كل سانح وبارح، وإذا كانت لا تتسق لمجلس أبي نافع باشا فإن قضاء الله المحفوف باللطف ليشق بجوار «سبلنددبار» دكانا للخواجة «سوسيدي» الدخاخني، فلماذا لا يجلس فيها أبو نافع باشا فيكون له كل حظ الجالسين إلى القهوة وليس عليه شيء من تكاليفهم؟! نعم إن أبا نافع باشا لا يدخن ولكن هل هذا يمنعه من أن يبتغى مجلسه في دكان دخان؟ ولقد كان يجلس فيها أبو نافع باشا وبإزائه المرحوم محمد الشريعي باشا من ناحية، ويجلس السباعي بك المصري وبإزائه محمد بك حتاتة من الناحية الأخرى، فكان أربعتهم أشبه بالأربعة السباع القائمة على حفافي كبري قصر النيل. ولقد طالما اشتهيت سجاير سوسيدي فصرفني عن محله هيبتي لأولئك الأربعة من سكان الآجام.
وما كان أوسع صدر هذا الرجل وأبلغ تضحيته: فاثنان من هؤلاء لا يدخنان قط، وهما أبو نافع باشا والسباعي بك المصري، واثنان يدخنان؛ على أن أحدهما لا يؤثر إلا سجاير «جناكليس»، فإذا انتهت سجايره رجا الخواجة سوسيدي أن يبعث بغلامه ليجيء له بعلبة سجاير من محل جناكليس.
ولا تنس ما للأربعة الأقطاب من التكاليف الكثيرة والمطالب الوفيرة، هذا يشتهي السمك البربون، وهذا يطلب «الملوخية» الجديدة، وهذا يبحث عن سواق للأتوموبيل، وهذا يطلب «سمكريا» لإصلاح صنابير الدار، وهذا يطلب «فكة» ورقة بخمسين جنيها، وليس يجشم كل هذه الخدم إلا الخواجة سوسيدي المسكين!
ولعل كل عزاء الرجل عن هذا البلاء جميعه أن الله قيض لدكانه حراسا أربعة فلا يستطيع اقتحامها أشد سراق الليل ولا أبرع لصوص النهار؛ على أنه حين اقتحم دكانه إحدى الليالي وسرق من خزانته أربعة جنيهات، قرر أن «يخصم» من مرتب الفرسان الأربعة جلوس ثلاثة أيام لبثوها في «ضرب بلطة» على الرصيف حتى أذن الله وانقضى الأجل المحدود. •••
والواقع أن أبا نافع باشا أخذ نفسه بألا يطلع من صور الحياة إلا على نواحيها المفرحة، وإنك لا تراه، مهما جد الجد وأزم الخطب، إلا مرحا طروبا، ولا تراه يعرض للأحداث العامة وغير العامة، مهما جل شأنها، إلا من ناحية ما يستشف فيها من نكتة بارعة ورأي طريف. ولو كان يغامر كما يغامر سائر الناس لامتحن في الحياة محنتهم ولأصاب من مرها ما يصيبون، ولكنه رجل فيلسوف، وإن فلسفته - على أي حال وجهتها - لفلسفة سعيدة.
شوقي
لو بعث الله الناس كلاما ما عدا أن يكون شوقي نفسه قطعة شعرية جميلة نظمت في الحب والرحمة. دقيق الجرم، لطيف الحجم، متناسق الأعضاء، مستدير الوجه، لا تزال عليه أثارة من ملاحة الصبا وإن تكرشت بعض معارفه بقضاء ما فوق الخمسين. إذا أقبل عليك يحدثك مالت حدقتاه عنك إلى ما على يمينك أو شمالك أو ظلتا تضطربان بينهما، حتى لتحس أنه يوجه على غيرك الحديث. ولقد ينقطع عن المجلس، وهو فيه، المرتين والثلاث، فلا يسمع ولا يرى ما يدور بين يديه، فإذا كان على هذه الحال ورأيت رأسه يختلج، وقد رشق ظفر إبهامه بين ثنيتيه وراح يهمس بالتناغيم يسلخها سلخا، فإياك أن تقتحم عليه شأنه؛ فإنه إنما يتلقى وحي القريض.
وهو خفيف الروح، رفيق النفس، نبيل الخلق واللسان، ترى فيه غبطة العصفور، وترى فيه وداعة الحمام. وهو، كما قلت لك، قطعة من الحب والرحمة، وإذا كان الحب ضعفا، وإذا كانت الرحمة ضعفا، فلا شك في أن شوقي أضعف الخلق أجمعين. ولم أره يوما غاضبا ولا ممهدا سبيلا للقسوة إلى قلبه أو يده أو لسانه، ذلك أن الله طبعه على أن يتناول بما فيه من الحب كل ما يجري في هذا العالم من الخير، وأن يتناول بما فيه من الرحمة كل ما يجري في هذه الدنيا من أذى وشر . ومن هنا تدرك كيف يشيع ذكر السيد المسيح في شعر شوقي، وكيف يتغزل بأفتن الغزل في سجاياه العذاب!
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
مفرط في حب نفسه، شديد الولع بها، مفرط في حب بنيه، شديد الولع بهم، وإنه بعد ذلك لشديد الرقة للناس جميعا، أضعفه الحب وفل من عزمه، فلا يستطيع أن يشهد مشهدا مؤلما، ولا يستطيع أن يسمع قصة حزينة. ولو قد عرض لسمعه أو لبصره شيء من هذا لولى منه فرارا ولملئ منه رعبا. ولوع بنفسه هيوب من أن تعتريها الأيام بمكروه، وذلك الوجه فيما ترى من دوام رضاه وارتياحه، فلا تلقاه يوما شاكيا ولا برما بالحياة مهما تكدر العيش وتنكر وجه الزمان، فإنه إذا أصابه الخير هش له وفرح به، وإن أصاب المكروه سببا من أسبابه أطار خياله كل مطير، فراح يلتمس له في الضير خيرا وفي المكروه نعمة، ثم جاءك يحدثك بمنة الله عليه وعنايته به، فهو رجل يستخرج الرضا، ويستكره سبب الغبطة على كل حال! وإنه ليسرف في هذا إسرافا شديدا لقد يصل بك أحيانا إلى العجب من أمير الشعراء! •••
وبعد، فلكم عالجت القلم على أن يقول في «شاعرية» شوقي فعصى، ولكم بعثته بالبيان عنها فتعذر وأبى، وإن ظلما أن تريدني «السياسة الأسبوعية» على هذا وأن تقضي به علي اليوم قضاء لزاما!
وليت البيان يعار فأستعير بيان شوقي ليصف شعر شوقي، فليس يتعلق بهذا إلا ذاك. وإني لآخذ في شعر هذا الرجل فما يزال يشفني ويرفعني، حتى أراني استحلت روحا محضا يطير بي عند السماك، ويحلق محلق الأملاك، فإذا أتيت عليه وعدت إلى نفسي، فإذا أنا ما زلت جسدا رابضا على هذه الأرض. وإذا شعر شوقي ما يزال نورا يترقرق في تلك السماء!
صائد لا يخطئ سهمه، وإنه ليصيب أرفع المعاني من أول رمية، وإنه ليترفع بك إليها أو ينزل بها إليك فتسيغها في غير عسر ولا عناء ، وإن كنت حق شاعر بأنه إنما جاءك بما يجاوز تفكيرك ويعلو على مدى تخييلك.
ولقد ضرب في كل قصد، وجال في كل غرض، فبرع وبذ وأتى بالطريف لا تدرك آثاره، ولا يلحق غباره. ومن عجب الزمان أن يخرج شوقي في هذا الزمان! ولا أدري كيف فر هذا الشاعر من شاطئ دجلة إلى شاطئ النيل، ولا كيف تسلل من جيل أبي نواس إلى هذا الجيل؟!
ولقد عارض الفحول من متقدمي الشعراء في أجل قصيدهم، فما قصر عن مداهم، ولا انخذل عن اللحاق بهم، بل لقد زاد عليهم من كل ما فتق العصر في فنون المعاني يرسلها في الكلام الناصح، فلا ينبو عنها الطبع العربي ولا يجد لها عليه نشوزا.
وشوقي هو شوقي من يوم شدن، ومن يوم تحرك بالشعر لسانه، آية من آيات البيان يدوي بها السهل والجبل. ولقد يكون التقدم في السن، والتبسط في العلم، وتجارب الأيام، وطول التمرين على نظم الكلام، قد بسطت في أغراضه وبصرته بكثير من مضارب القلم، إلا أنها لم تزد، وهيهات لها أن تزيد في «شاعريته» كثيرا ولا قليلا، ذلك أن هذه العبقريات إنما تخلق مع المرء خلقا، فلا تنال بكسب ولا تعليم، فإذا كان لشيء من ذلك فضل، ففي مجرد الصقل والتهذيب.
وليس بدعا في سنة الله أن ينتضح طبع شوقي بكل هذا البيان العربي، وهو فتى لا يتصل من أبناء العرب، من أمه وأبيه بسبب، ولا كان محصوله من لغتهم وأشعارهم ومحاضراتهم ومظاهر بلاغاتهم بأوفر من محصول من نشأ فيهم من أهل البيان، فوثب دونهم ورد بيان بني العباس عليهم، وإلا فمن علم البدر كيف يتألق، ومن علم الغدير كيف يترقرق، ومن علم السحر الجفون، ومن علم الغمامة كيف تسح بالعارض الهتون، ومن علم الوردة كيف تتنفس بالأرج، ومن علم البلبل كيف يتغنى بالرمل والهزج؟ ألا ذلك تقدير العزيز العليم!
وإن طبع شوقي ليجود بالشعر يصيب به أعلى المعاني ما أحسبه يرتصد لها أو يعالجها بالمطاولة والتفكير. ولقد تراجعه في بعض شعره وما يطلب به فيروح يتفهمه معك بمجاهدة الفكر، وطول الشد على العصب، حتى إذا فر هذا الشعر واحتدت فيه الأذهان خرج للناس فيه من وجوه المعاني ما يحير العقول ويذهب بالألباب. فإذا رأيت بعد هذا شوقي ولم تستطع التوفيق بين مجلسه وحديثه في الأسباب الدائرة بين الناس، وبين شعره الذي ينيف بك كلما قرأته، على السماك، فاعلم أن هناك موهبة أو ما يدعونه «عبقرية» ليس من الحتم أن تتسق دائما لسائر غرائز الإنسان!
وإذا رأيت أثر النعمة باديا على شعر شوقي، فلا يتعاظمنك هذا ممن لاغاه إسماعيل طفلا، ورباه توفيق يافعا، وخرجه عباس رجلا، وعاش عمره متقلب الأعطاف في الترف والنعيم.
وقيل يوما لابن الرومي: كيف يسبقك هذا الغلام «عبد الله بن المعتز» إذا وصف، فلا تلحقه أنت ولا أضرابك من مشيخة الشعراء؟ فقال: لأنه إذا تكلم فإنما يصف آنية بيته!
وشوقي لا يحفل كثيرا بنسج الكلام، وتزوير اللفظ، وتزويق الديباجة، فإن طبعه قد انصرف أكثره إلى المعاني، حتى إنه ليحمل اللفظ أحيانا ما يثقله ويبهظه ويكد ذهن القارئ في التماسه وتبيينه، بل إنه في سبيل الوفاء بما قصد له من المعنى ليأتي أحيانا بالغريب الشامس من اللفظ، لا تدرك معناه إلا بعد مراجعة وطول استخبار!
على أنني في هذه المرآة بسبيل تحليل نفس شوقي لا تحليل شعره، فمن كان لم يزل في حاجة إلى التهدي لفاخر شعره، وعيون قصائده، وهي فوق أن يتناولها العدد، فليطلب بعضها في قصيدة صديقه شاعر النيل التي أعدها للحفل الكبير، فليس أقدر على الدلالة على فاخر شعر شوقي من حافظ إبراهيم.
وقد يسف شوقي كما كان يسف بشار وأبو نواس وأبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري، ومن دخل في خللهم من جلة الشعراء، ولا بد للطائر المحلق أن يستريح هنيهة بالإسفاف، وإنك لو وازنت بينهم في نصاحة شعرهم وحبك قريضهم وارتفاع معانيهم، وفي إسفافهم ذاك وتزايل ألفاظهم وفسولة معانيهم؛ لخلتهم إنما يعتمدون هذا اعتمادا استجماما بالعبث أو تجنيا على ما أمكنهم الله من نواصي البيان!
وقلت لك إنني لست بسبيل تحليل شعر شوقي حتى أضرب على ما تقدم به القول مختلف الأمثال.
وشوقي فنان كل الفنان، يكلف بفنه ويغرم بآثاره غراما شديدا، وليس يؤذيه شيء كما يؤذيه أن تتره حقه وتتحيف من قدر صنعته.
ولقد قلت لك إنه ضرب بالشعر في كل قصد، وجال به في كل غرض، فبذ وبرع - أستغفر الله إلا الهجاء فما أحصي عليه فيه بيت واحد، اللهم إلا أن يتندر ويلاعب بالشعر لا يبلغ به الإقذاع ولا يتردى به إلى داعر الكلام، ولا أدري أكان ذلك ترفعا من نبل النفس وكرم النشأة. والنزاهة عن التدسس إلى مكاره الناس؟ أم أنه يرجع أيضا إلى تلك الطبيعة الغريرة والنفس الحلوة. فهيهات للعصفور أن يكون بازيا، وللحمل الوادع أن يستحيل ذئبا عاديا!
وللكتاب شعر تعرفه بجفافه وجريانه في مثل أقيسة المنطق، وللشعراء نثر تعرفه بتزابل لفظه، وانقطاع جمله، وعدم استرسال معانيه. إذا عرفت هذه القاعدة تهيأ لك أن تعرف كيف يكون نثر أمير الشعراء! على أنك واجد لنثر شوقي حلاوة، برغم ما يقيده من أسجاع الكهان، ولكنها حلاوة شعر لا حلاوة كلام مرسل، وكأني به إذا اعتزم الكتابة في بعض الأغراض نظمها أولا في شعر مقفى موزون، ثم كسره تكسيرا وبذره على القرطاس بذرا.
ولسان شوقي لا يفي بمطالب أدبه ولا خياله، وإن فيه فوق هذا لخجلا يمسكه عن الكلام أحيانا في مواطن الكلام، وقل أن تراه يتبسط في حديث إلا إذا خلا إلى نفر من صفوة خلانه، على أنك إذا شهدت مجلسه، ولم يسر إليك أحد بأنه شوقي، لما سهل عليك أن تدرك أن هذا شوقي الذي ملأ طباق الأرض بيانا! •••
وليس جديدا أن أنبئك بأن العبقرية كثيرا ما تضخم في المرء على حساب ما فيه من الغرائز، وكأني بها تملك عنها قدرا من غذائها حتى ما تدع لبعضها قواما. وتلك العلة، لا شك، فيما تراه وتسمعه من شذوذ جميع العبقريين في العالم، فإذا كنت منكرا على شوقي شيئا من الشذوذ فإنك منكر، من حيث لا تريد ولا تجرؤ، تلك العبقرية الفحلة. وحسبه أن أصبح بها ملء الأرض، وحسبه أن أضحى بها حديثا للتاريخ طويلا.
محمد محمود باشا
تاريخ كبير في سن صغيرة، وشأن جليل في جسم ضئيل. ولعل محمد باشا محمود لم يذرف
1
بعد على الخامسة والأربعين، ولكنك حين تقلب الذهن فيه ينسرح منه إلى مدى عريض. وحسبك أن ترى أرنبة أنفه وهو يشدها إذ يتحدث إليك أو ترفعها له الطبيعة، لتدرك أنه رجل لا يريد إلا أن يكون عظيما، أو على الصحيح، أنه لم يخلق إلا لعظيم. وكذلك كان محمد محمود من يوم أخرجه أبوه للتعليم في مدارس الحكومة، فكان في السنة الأولى أول لداته جميعا، فلما تحول إلى الثانية كان فوق أن يكون أول تلاميذها، فوثب به الناظر إلى السنة الرابعة طفرة. وجاء عاهل وزارة المعارف «دنلوب» ليطالع مدرسة أسيوط ويتشرف على سير التعليم فيها، فلما انتهى إلى تلاميذ السنة الرابعة رأى غلاما دقيقا لا تتصل سنه بأهل تلك السنة، فبعثه من مجلسه، وجعل يسأله، وجعل محمد يحسن الجواب في غير تتعتع ولا ورع، حتى راع دنلوب شأنه، فسأل عنه فنفض له جملة خبره، ففظع بدنلوب أن ينقل تلميذ من السنة الثانية إلى السنة الرابعة طفرة، فعجل العقاب لذلك الناظر المسكين! ولا أدري أكانت فعلة دنلوب حرصا على النظام، أم حرصا على ألا تفسح مدارس الحكومة طريق النبوغ لأهل النبوغ؟!
ويمضي محمد محمود في سبيله إلى المدارس الثانوية بعد إذ يحرز الشهادة الابتدائية، ولا يكون شأنه في الأولى إلا كشأنه في الثانية مجليا أبدا، حتى إذا ختم علومها وأحرز «البكالوريا» متقدما، مضى إلى إنجلترا وانتظم بها طالبا في جامعة «أكسفورد»، وكان له في جامعة أبناء الأعيان من الإنجليز ما كان له هنا: إكباب على الدرس، وطاعة في عزة نفس، ونبل يمليه الحسب، وكرامة يزكيها ما يفضي له أبوه من مال ونشب. وكذلك عاش محمد محمود مثلا أعلى للكرامة المصرية في أعظم جامعات إنجلترا بين أبناء أعظم أعيان الإنجليز. وتأبى عليه «أرنبة أنفه» كذلك إلا أن يكون بينهم مجليا في إنجلترا كما كان مجليا بين معشره في مصر، حتى أحرز أعلى الشهادات. وينقلب إلى مصر قريرة به عين شيخ جليل طالما صدق في خدمة مصر بلاؤه، وتمحض في هواها إخلاصه ووفاؤه.
وإني من قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
ودخل محمد في خدمة الحكومة مفتشا - على ما أظن - في وزارة المالية، فسكرتيرا لمستشار الداخلية، وتضيق هذه المساحة عن همته كما تضيق بمطامعه في الحياة، فيغامر في ميدان السياسة، ويغامر فيها بحزب قوي يجمع «أرباب المصالح الحقيقية» ورؤساء العشائر في البلاد، ويقوم «حزب الأمة» عوانا بين الحزب الوطني وحزب القصر في تلك الأيام. وكان الشيخ الجليل محمود باشا سليمان رئيس هذا الحزب، وكان الأستاذ الأكبر لطفي السيد على ترجمانه «الجريدة»، وتألفت إدارته من مشيخة من أهل الرأي والعلم والغنى والحسب في البلاد، وكان لمحمد محمود فيه، من وراء الستار، رأي كبير.
ويضطرب بعض الأمر على اللورد كرومر بشيوع الدعوة الوطنية واطراد قوتها واستفحالها يوما بعد يوم. فيختط له نهجا جديدا، ذلك بأن يستألف رؤساء العشائر و«أصحاب المصالح الحقيقية» ويقيم على المرافق العامة أهل الكفايات من أولادهم اصطناعا لهم من ناحية، واستصلاحا لأسباب الحكم من ناحية أخرى، فقد كاد الأمر يفسد باستخذاء
2
رجال الإدارة لصغار المفتشين الإنجليز واستنامتهم في جميع الأمر لهم، إذ تشب في الوقت نفسه حركة وطنية عنيفة تطالب بجلاء الإنجليز جملة، وتسليم مرافق البلاد لأهل الكفايات من أبناء البلاد، فأقام محمد محمود مديرا للفيوم وسرعان ما جمع بين احترام الإنجليز ورضاء المصريين، وكان «لأرنبة أنفه» فضل عظيم في مدافعة يد المفتش عن معالجة الأمور، إلى قوة عزم، وحسن إرادة، وصلابة في موطن الرأي. ولعلها كانت في ذلك العصر، أول تجربة أجدت على الطرفين جميعا.
ثم عين محافظا للقنال، فمديرا للبحيرة يستقل بالأمر حيثما كان، «ويأنف» من أن يظهر على رأيه رأي إنسان، ولو كان المفتش ولو كان المستشار، وتتحرج من هذه الحال صدور وتضطغن على محمد باشا محمود قلوب، فيتربص به المكروه، حتى كانت حادثة في البحيرة أرادوا أن يجلجلوا فيها المدير، فما استطاعوا إلا أن يستقيل أو يقال من المنصب، وهو لم يزل بعد في ميعة
3
الصبا، ضحية للاستقلال بالرأي، أو ضحية «أرنبة الأنف» لا تنزل على المهانة في أي حال.
ويلبث حتى أعقاب سنة 1918 إذ تقف رحى الحرب فيتقدم في أصحابه الغطاريف
4
للمطالبة بحق مصر في حريتها واستقلالها، ويؤلفون الوفد المصري ويهيبون بالبلاد فتنهض في آثارهم، فتقبض السلطة القوية عليه مع دولة رئيس الوفد واثنين من أعضائه وتنفيهم إلى مالطة، فيمضون إليها بارزي الصدور، مرفوعي الأنوف، هاتفين ملء أشداقهم: ألا في سبيل مصر، فلتحي مصر! ثم كان من شأن الوفد وعظيم جهاده ما تعرف، ولا محل لمعاودة القول فيه، إلا أن ألمع إلى ما كان لمحمد باشا محمود فيه من كريم المنزلة بشدة عقله، وصحة رأيه، وقوة عصبيته في كبد الصعيد.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ندل على سعيه في أمريكا إذ شخص عن الوفد لبث الدعوة المصرية هناك، فتم له كل ما أراد من الفوز والنجاح.
وهو من أوائل من استراحوا إلى فكرة الائتلاف السعيدة إن لم يكن أولهم جميعا، كما كان من أعظم العاملين على تحقيقها. •••
وإذا كان محمد باشا محمود مدينا بماضيه الشريف القوي «لأرنبة أنفه»، فهو كذلك مدين لها بكل ما يحقد عليه الناس. واسمح لي في هذا المقام يا معالي الوزير أن أضغط على «أرنبة أنفي» أنا الآخر فأرفعها بمقدار 2 سنتيمتر حتى أستطيع أن أصارحك القول وأخاطبك خطاب الأكفاء للأكفاء: إن خلقا من خلق الله، وأنا مع الأسف منهم، شديدو الموجدة عليك بما يظنون فيك من جنف
5
وكبر وتهاون للناس. وإنك لتقتضيهم أن يتوافوا لدعوتك للشئون العامة بكل ما ملكوا من رأي وجاه ومال، حتى لو دعا الأمر إلى ابتذال المهج، والتضحية بالأهل والولد، إذ أنت لا تحتفل لحاضر، ولا تتفقد غائبا، ولا تعود مريضا، ولا تشيع جنازة ميت، ولا تأبه لأصحابك مهما كرثهم من الأمر ونزل بهم من المكروه، حتى في الوقت الذي يحتاج فيه الداعية إلى مصانعة جميع الناس!
وإني لأصارحك بهذا «ورزقي على الله» فإن كنت آخذي على هذه المعتبة بقطع «التليفون» عني، فلا أحوجني الله إليه، أو مجازي بمنعي من السفر في سكة الحديد، فإني «أدق كعب» إذا لم تتهيأ لي الجمال ولا البراذين، أو معاقبي بعدم التخاطب بالبريد، فليست كتبي مما يسر القلب، وتفضل من اليوم بتحويلها إليك فلن ترى فيها إلا مطالبة «بذمامات» متأخرة، وتذكيرا بديون منساة. وعلى كل حال «فالله يغنيها» عن وزارة المواصلات كلها.
والعجب أن محمد باشا محمود، مع هذا التجني كله على خلق الله، رجل شديد الأدب، لطيف المحاضرة، إذا أذن الله وكشف لك عن ليلة القدر فأصبته في داره يجلس مجلسا للناس! ولعل ذلك يفسر ما أقنعني به رجلان فاضلان من أن محمد باشا محمود لا كبر فيه ولا برم
6
بالناس، إنما هو المرض الملح المتدارك يجتازه عن كثير مما يرجو من مصانعة الناس وتفقدهم والتجمل لهم. وإني لأقبل هذا التعليل «تحت الحساب»، وأسأل الله أن يمن على معالي الوزير بالعافية كلها لينعم هو بها، وينعم بها الناس، وينعم الوطن.
مختار «التمثال»
بيضة كبيرة ينتهي سنها بلحية دقيقة مرسلة على شكل مثلث متساوي الساقين. فإذا حسر الطربوش أو القبعة عن رأس «البيضة»، رأيت غديرا في صفاء المرآة وهدوئها، يقوم على حفافيه نبت غزير، وتلك أيضا رأس مختار المثال. وهو كذلك من الرجال الذين تعرفهم بصلعتهم إذا ولوا. وهو أبيض اللون، له تانك الحدقتان المتحيرتان في عيون أكثر نوابغ العالم. أما أنفه فبائن الطول والانتفاخ في غير كبر ولا تيه، يتدلى على فم لولا غلظ في شفتيه ما بان ولا انكشف. ثم هو بعد هذه «الزحمة» منتظم الجسم، متسق الجوارح، والحمد لله!
ومختار ضخم الصوت، فإذا ارتفع صوته تسلخت بعض شعبه، وإذا تحدث، سواء بالعربية أو الفرنسية، سمعت لفظ مجاور متحذلق في «تطجينة» عامل من سكان الخارطة بجوار سيدي أبو السعود!
والعجب أنه مع هذا كله رجل
Moderne
مطبوع في تفكيره، وذوقه، وأناقته أيضا على آخر طراز، وهو ثائر عنيف الصولة على كل قديم، متعصب شديد الهوى إلى كل جديد. لا يعبأ في طلب هذا لنفسه ولقومه بعادة ولا بتقليد، ولا بما هو أشد من العادة والتقليد. وهو إذ نضا عنه الطربوش واتخذ القبعة، لم يكن مفتاتا على عيشه الذي يكاد يكون أوروبيا خالصا، ومن العجب أيضا أنك تراه مع ذلك يستريح إلى الحياة «البلدية» كلما تهيأت له، فيأكل بكل كفه، ويعلق أسنانه فلا يتعبها بمضغ ولا قضم. فإذا اتصل الحديث في المجلس بألوان المنادرات والمفاكهات، سمعت من مختار المطرب والمعجب من كل نادرة طريفة، «ونكتة» رائعة، حتى ليخيل لك أن سنه تكنز ستين سنة، قضى نهارها في «التربيعة»، وليلها في غشيان الأعراس «الوطنية»، وحضور مجالس «الشعراء» على حواشي القهوات «البلدية» واستماع ما يتطارح به جماعات المتظرفين من فنون النكات!
وهو صافي النفس، عظيم الشجاعة، وافر الذكاء، لا يعنيه شيء في الدنيا قدر عنايته بفنه الجليل.
خلدت «نهضة مصر» فخلدني تمثالها.
وفي الحق، إن مختارا مجموعة
Assortimant
تضم ألوانا من الغرائب والمتناقضات. ولعل ذلك هو الذي هيأ له كل هذا النبوغ العظيم. وإن مثالا - يتروى فنه في بلاد الغرب عن أكبر رجاله، ويظل السنين الطوال في ملابستهم ومحاكاتهم والتفطن إلى مداخل صنعتهم حتى يحذقه ويبرع فيه، ثم ينقلب إلى بلاده فإذا هو بصير بكل عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم ومحاضراتهم، وما جل ودق من شئونهم على تفرق طوائفهم واختلاف بيئاتهم - لهو جدير بأن يكون في فنه الحسان كل الحسان. •••
وقد نجم مختار من أسرة كريمة، فلما يفع أخرجته على العادة، للتعليم في المدارس الابتدائية، فمضى في درسه غير وان ولا متخلف، على أنه لم يكد يطوي في الطلب بضع سنين، حتى بدا ميله واضحا للرسم والتصوير، فلا يرى مكبا على درس إكبابه عليه في «حصة» الرسم، ولا يكاد يرى هو نقشا باديا أو صورة معلقة إلا وقف يتصفح ويتأمل ويشيع كل حسه في تقاسيمها ومتخالف خطوطها وتعاريجها، ثم استل ريشته وأدوات رسمه الصغيرة وراح يحكيها بكل ما تهيأ للموهبة الناشئة في ذلك الجرم الصغير، وظل كذلك عدة سنين لا يعدو منه الاجتهاد في طلب العلم على الاجتهاد في تربية تلك الملكة ما استطاع إليها السبيل.
وكانت مدرسة الفنون الجميلة التي أنشأها سمو الأمير البار يوسف كمال، فنزعت إليها نفس مختار، ولعله لقي من أهله في دخولها عنتا، وكيف لا تعنت إليها الأسر الطيبة، في مثل تلك الأيام، إذا رأت ولدها يميل عن طريق الحقوق أو الطب أو الهندسة، إلى طريق لا تنتهي بسالكها إلا أن يكون «مصوراتي» أو حفارا أو نقاشا؟! ...
وعلى كل حال فقد تم لمحمود مختار ما أراد من دخول مدرسة الفنون الجميلة، أو بعبارة أحكم: لقد تم ما أراد الله لمصر من أن ترى نابغة من أبنائها يخلد نهضتها على تطاول الأعصار!
وفي هذه المدرسة جعلت موهبة مختار تتجلى، وجعل أساتيذه يخصونه بعنايتهم لما أنسوا فيه من مخايل تدل على مستقبل عظيم، وبقي هو، طول مدة الطلب، مجليا لا يلحق: إكبابا على الدرس، واجتهادا في التمرين، وتوافيا لكل دقيق من ملاحظات الأساتيذ، حتى إذا برع بقدر ما يمكن أن يبرع طالب في مدرسة الفنون الجميلة في مصر، رأى أن ظمأه للفن لا ينقعه إلا أن يغترفه من أصفى ينابيعه، فشخص من فوره إلى باريس وانتظم في أعظم معاهدها، أشخصه إليها كذلك سمو الأمير يوسف كمال، وظل يتعلم على أكبر أساتيذها عشر سنين متواليات ما أحسبه انحدر في خلالها إلى مصر مرة واحدة، واجتمعت شهادة أقطاب الفن هناك على أن هذا الفتى «المصري» ولا فخر ينبغي أن يكتب في جريدة كبار المثالين. ويعهد إليه في «معهد جريفان» بمنصب كبير، وما كان هذا ليسوغ لأجنبي قط لولا نبوغ مختار الذي أوفى على كل تقدير.
ويشاء الله لمصر أن تنبعث، ويشاء لها نهضة قوية يلتفت لها العالم كله، فتثور موهبة مختار هناك وتأبى ثورتها أن تهدأ إلا إذا كشف سر أبي الهول الذي ظل محقونا في أطواء صدره المقبوض آلاف السنين، وإذا أبو الهول ناكس الرأس من وجد وأسى على مصر الأسيرة العالية ، وإذا أبو الهول يرفع رأسه وينبعث؛ لأن مصر نهضت تفك أغلالها لتسعى في أرض الله سعي الأحرار.
وكذلك خرج تمثال «نهضة مصر» فتاة فلاحة تبعث أبا الهول فيتحفز للوثاب، ويتهيأ للغلاب.
وما كاد مختار يعرض تمثاله في «صالون باريس» حتى هرع إليه كبار رجال الفن، وأقبلوا على «المثال» المصري بأتم الهناء والإعجاب، وتطايرت الأخبار إلى مصر، فسرعان ما اجتمع من شبابها كل ندب وطني نجيد، وسرعان ما ندوا بالأموال واستندوا أبناء الوطن ليسجلوا «نهضة مصر» ويرفعوا تمثال مختار، ويرفعوا معه اسم مواطنهم النابغة مختار، فجمعوا آلافا من الدنانير إذا لم تغن في العمل الجسيم، فقد مهدت السبيل لأن تتولاه حكومة الشعب، ومن حق حكومة الشعب أن تتولاه.
وقد مضى العمل في تمثال «نهضة مصر» جدا بمعونة الحكومة وعطف الأمة، وهو الآن يستشرف بفضل الله للتمام.
وإذا كان مختار قد لقي بادئ الرأي تجنيا وعنتا من الدهماء وأشباه الدهماء، فتلكم سنة الكون في هؤلاء، وهل قام في الدنيا مصلح إلا قاوموه واعترضوا سبيله؟ وهل نبغ فيهم نابغ إلا ملكهم الحسد من كل جانب فمضوا يتنقصونه بكل ما أحرزوا من جهل وتضليل؟
ولقد تظاهر الجهل والحسد جميعا على تمثال مختار. أما الجهل فمن أولئك «العلماء الأقطاب» الذين تراهم يقضون بياض نهارهم وسواد ليلهم على متون القهوات العامة، أكفاء لأن يفهموا كل نظرية، ويبتوا في كل قضية، بحيث لا تخفى عليهم خافية من دقائق الفلك والطب والهندسة والسياسة وعلوم القانون وفن تعبئة الجيوش - التكتيك، وكل ما تنقطع دونه جهود فحول العلماء في جميع العالم! وأما الحسد فمن أولئك الذين يصابون بضعف الهمة وقوة الشهوة، وهم يأبون إلا أن يكونوا عظاما، إذ لم تعدهم مداركهم ولا مساعيهم في الحياة لعظيم.
تظاهر هؤلاء وأولئك على مختار وعلى تمثال مختار، فانطلقوا بكل ما فيهم من «ذكاء» و«إخلاص» ينتقصونه ويتحيفون من قدره، ومن الجهة «الفنية» ما شاء الله أيها «الجدعان»!
وسار هذا الروح الخبيث في البلد تعضده دسائس ممن أدلى إليهم الزمن «الخائر» بمناصب لها شأن في بعض الحكم، ولها جميع الشأن في أمر التمثال. فما زالوا يدافعونه ويعترضونه بألوان العواثير، ومختار ساكن سكون الواثق بأن عبقريته وحدها كفء لما أعد الحسدة وتفيهق الجهال!
وشاء الله أن تقدر هذه العبقرية قدرها، وأن يقرر مجلس النواب، بين التهليل والتصفيق، فرض المال الضخم لإتمام تمثال «نهضة مصر»، وكذلك تم الانتصار لمختار، وإن شئت قلت تم الانتصار للعبقرية الفخمة على حسد الحسدة وعلى جهل الجهال.
وتظفر مصر أخيرا بمثال نابغة من بنيها، وأولئك الذين لا يطيقون أن يسمعوا مقالة الخير في أحد من مواطنيهم، قد أمست أنوفهم في الرغام.
وفي الوقت الذي كان ينكر فيه عبقريو «القهوات» على مختار خطر فنه وخطر أثره، كانت تترادف عليه الدعوات من أكبر معاهد الفن في أوروبا لتستثمر موهبته في عملها الجليل، إذ يأبى مختار أن ينصرف عن تمثال «نهضة مصر» في سبيل المال، وما هو أعز من المال.
وحسبه من الجزاء على هذا التمثال، أنه مخلد نهضة مصر على تطاول الأعصار والأجيال. فهناء ثم هناء «يا سي مخطار»!
الشيخ1 ...
وما لي لا أمزح وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمزح، ولكن لا يقول إلا حقا، وسأمزح الليلة، وسأحاول إن شاء الله ألا أقول إلا حقا. سأمزح هذه الليلة لأني أجد في نفسي غبطة ومراحا ونزوعا إلى المزح، وسأفعل في غير تطرف ولا عبث.
على أنني لا أجتث الكلام اجتثاثا، ولا أطلق موضوع حديثي افتلاتا، وإنما ألتمس له شخصية أو شخصيات جليلة عظيمة أخطأها الكتاب وتجاوزها المؤرخون، وأخشى أن يتمادى الزمن فتطوي الأيام خبرها، ولا تقدر نواشئ الأجيال خطرها، وهذا ظلم لها وللتاريخ معا.
صديقي أو غير صديقي أو هما معا، الأستاذ الشاب أو الكهل أو الشيخ أو كل أولئك في وقت واحد، الشيخ أو السيد فلان!
وأنا أشهد أنه ما اطلع على مجلسي إلا حللت له الحبوة، ولا جلس إلي إلا آثرته بتكرمتي، ولا أرسل يده إلي إلا أسرعت بتقبيلها ؛ لأني أرى في الشيخ عظيما وإن لم ير غيري أن فيه عظيما.
هو شيخ طريقة، وهو على صداقته وملازمته لشيخ مشايخ الطرق لا ترى - على ما يزعم شانئوه - لطريقته في سجلات مشيخة الطرق الصوفية عينا ولا أثرا.
ثم هو رجل جمع بين أقصى مطالب الدنيا وأقصى مطالب الدين، فتراه كما يظهر الأصيل في حلقة الذكر يظهر العشاء في بار «أرستومين».
ثم هو سعدي، وعدلي، وحر دستوري، وحزب وطني، واتحادي، ومحايد، ومستقل، وغير هؤلاء جميعا!
ثم هو لا يفتر عن أداء حقوق القصر، ولا يني عن التوافي في كل موسم لدار الوكالة الإنجليزية، ولا يترك جريدة السياسة إلا إلى «بيت الأمة!»
ثم هو يحسن العربية ويحكم الإنجليزية فلا تعرف إن كان غربيا مستشرقا أو كان شرقيا مستغربا!
ثم هو مصري، وهو في الوقت نفسه مطاف الجالية الفارسية في مصر يتحدث على أمورها ويدلي بمهمها في هذه البلاد، فلا تعرف إن كان عربيا مستعجما أو عجميا مستعربا!
ثم هو إذا تقفيت أصله وقصصت منشأه ومنجمه رأيته من المنوفية، ومن الشرقية، ومن البحيرة، ومن الدقهلية، ومن القليوبية، ومن الجيزة، ومن المنيا، ومن أسيوط، ومن جرجا، ومن قنا؛ هو من هؤلاء جميعا، وهو يلاغي بلغاهم جميعا، فترى في لسانه لين حديث أهل البحيرة، وجشوبة منطق أهل الصعيد، فتسمعه إذا نادى «محمدا» قال «يا محم» وإذا عبر عن الفم، قال «الخشم».
هو ولا شك عصبة أمم تجول في قفطان وجبة!
لا أعرف رجلا يحصي من أسماء الناس وألقابهم وكناهم ومعرفة من يلابس كل إنسان من أصدقائه وأصهاره وأحمائه مثل ما يحصي ذهن الشيخ.
وأقسم لو استعانت به مصلحة الإحصاء إذ تقبل على إحصاء أهل هذه البلاد لتغنت بعلمه وذاكرته عن خمسة آلاف شيخ حارة وعمدة بلد وسجل قديم في الدفترخانة، وموظف طواف في القرى والدساكر لجمع المعلومات، وإثبات الأسماء والصفات.
وإذا حضرك في هذا المقام أن الشياطين تتشكل فلا يذهب عنك أن الملائكة كذلك تتشكل، وأن أولياء الله يتشكلون، وللأقطاب والأبدال في التشكل أحاديث طوال .
وإذا كنا نحتفل في هذه الدنيا بشخصية واحدة ونتخذها موضع الحديث والتحليل والتمثيل فكيف بسبع وثمانين شخصية قوية قد اتسقت كلها لرجل واحد!
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وأقسم ثانيا لو أن صاحبنا قد نجم في عهد الجاحظ أو اطلع عليه علم كارليل لخصت به الرسائل وأفردت له الأسفار، ولكن أنى لنا جزالة قلم الجاحظ أو دقة ذهن كارليل لنقول في الشيخ كل ما ينبغي أن يقال فيه، وإذا كنا عاجزين عن تقصي جميع عبقرياته الحسان، فلا أقل من أن نلم بفضائله في ليلة من «ليالي رمضان!»
شيخ السوق
لقد دهي هذا البلد بشيخ رومي التبعة، ألماني الطلعة، إنجليزي النزعة؛ له وجه كسنام البعير، ووجنتان كأنما استعيرتا من نار السعير، يفرق بينهما منخران غليظان يقذفان بالحمم، ويروحان على جليسه بأخبث من ريح الرمم. ودونهما فم قد افتن الشيخ في إحكام دباغه، وتجويد أصباغه، فإذا راعتك منه حمرة الشفاه، فاعلم أن ذلك من صنعة «دلمار» لا من صنعة الله. وله عينان دقتا عن الأنظار، فلا تستكشفهما العيون إلا بمنظار؛ على أنهما أبصر من زرقاء اليمامة، وهيهات أن يخطئهما موقع الدرهم من هنا إلى يوم القيامة. وله عنق قد رهلت جلده السنون الطوال، ولولا «البودرة» تمسكه لسال.
ولقد اطلع الشيخ على السبعين، ولكنه لا يرى شيئا من العاب، في أن يبرز في دل الناهد الكعاب؛ فلا تراه إلا مرجل اللمة، «مهندم» العمة؛ يجول في قفطان كأنما قد من فرند سيف، أو نسج من خيوط الطيف، فترى أحمره يسيل في أخضره، وأزرقه يموج في أصفره، يترقرق فيه مثل العسجد المذاب، أو شعاع الشمس إذا تهيأت للاغتراب، وقد أمعنت «الخياطة» في تقوير أعلاه، فانحسر من صدر الشيخ على مثل المرآة، وقد أطل على حفافيه نهدان كأنما قاما على حراسة هذا الغدير الرقراق، من أعين الحساد وشفاه العشاق، ومن دونهما منطقة - حزام - قد شجرت بالأفنان والأوراق، وحلقت على جداولها كل سجوع من ذوات الأطواق، وقد تأنق الشيخ به في تكوير أردافه ، وتدوير أعطافه، فما تدري - إذا ما رأيته - أأنت في «حضرة» شيخ عظيم، أم في مجلس غانية في «الألدرادو» القديم؟!
أما الجبة - وقاك الله الخبيث، وعصمك من فتنة التخنيث - فهي من «الموسلين»، أو «الكريب جورجيت» أو «الكريب دي شين»، وأما ألوانها فالوردي، أو البنفسجي أو «التانجو» أو «البلوكانار». ولقد اختلط رداء الشيخ على العيون، واستعصى علمه على متناول الظنون؛ فما تدري أيخب في عباءة، أم يجلى على الناس في ملاءة؛ أما هذا الذي غاب علمه عن النفوس، فتفصيله عند مدام روا أو مدام كلموس.
1
صفحة غير معروفة