والخطأ الأساسي عند مي هو أنها لا تتمهل لتقيد كلمة المساواة بمعانيها التي لابستها في التاريخ والحركات التاريخية، كما أنها لا تتمهل أيضا لتقيد كلمات كثيرة بمعانيها في مختلف العصور والأجيال. وهذا جدير بأن يؤدي إلى شطط في التقديرات والأحكام.
إن الآنسة مي لم تجب عن السؤال الذي سمعناه تطرحه على نفسها: «ما هي المساواة؟» بل راحت تتساءل مثلا: «أي قوة أقامت دولة المماليك في مصر إن لم يكن التطلع إلى المساواة؟» وهنا لا يتمالك القارئ من أن يسائلها: أي مساواة تعنين؟ ولكنها تستمر فتقول: «لأجلها (أي لأجل المساواة) شبت الثورة الفرنساوية ...» وبديهي أن جعل المساواة هدف المماليك في حركتهم في مصر، وهدف الفرنسيين في ثورتهم السنة 1789، إنما هو حكم يعبث به تخليط تاريخي عجيب؛ فالمماليك آنسوا قوة وفرصة فاستولوا على الإمارة في بلاد حكموها حكما استبداديا مطلقا، بينما ثار الفرنسيون فأقاموا نظام حكم مصدره سلطة الأمة والناس فيه أمام القانون سواء. ولعل مي قصدت أن المماليك أرادوا أن تكون لهم إمارة يحكمون فيها ويستبدون كغيرهم، فكانوا بذلك متطلعين إلى «المساواة». غير أن هذا عنت وإخلال باستعمال الكلمات، وإلا لجاز أن نقول مثلا: إن خروج «فلان» ليصبح لصا ك «فلان»، فيه أيضا «تطلع إلى المساواة!»
يقرأ القارئ كتاب مي فيجدها تبدأ بمسألة «الطبقات الاجتماعية»، وتذكر شيئا تسميه «التنوع بين الطبقات»، تريد بذلك أن تهرب «تمايز الطبقات» في تعبير لا ينفر. وتذكر أيضا «التنوع بين الأفراد»، وتعرض لروسو الذي «طال تأمله في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أن الهمجي مستعبد بجهله الفادح، وأن له من الخرافات سجنا لعقله، ومن الأوهام حجابا لروحه؛ فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها، وإن يكن حرا حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله، وبقناعته التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمان ما. وهيهات الرجوع إلى الماضي!»
على أن الثورة الفرنسية لم تقصد بشعار المساواة إلغاء التنوع أو التمايز بين الطبقات إلا فيما يتعلق بسريان القانون على الجميع، كما أن أحدا من أعلام الثورة لم يفكر بإلغاء التنوع بين الأفراد. وقد قفزت مي في تعرضها لروسو من موضوع إلى موضوع؛ فالحرية غير المساواة وإن تكن بينهما قرابة. وروسو لم يطالب بإلغاء الطبقات أو التمايز بين الأفراد، بل إن الثورة الفرنسية لم تنشب، وروسو لم يكتب، إلا في سبيل تغيير نظام يحصر الامتيازات حصرا صريحا في طبقة معينة. أما حالة البداوة الأولى - أو الحالة الطبيعية على الأصح كما يسميها روسو نفسه - فقد أصابت مي زيادة في نقدها. على أننا لا نظن أن روسو أراد الرجوع إليها فعلا، بل هو تصورها تصورا واتخذها مهبط وحي يستلهمه.
ثم تتقدم مي إلى مسألة الأرستقراطية، فإذا مر القارئ بفصلها هذا وتسامح بكثير مما فيه، وجدها تقرر ما يلي: «ستظل الأرستقراطية، أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد، ما دامت الطبيعة، ولو تحولت منها الأنواع وتغيرت المظاهر وتعددت الأسماء!» ولكن السر - كل السر - هو في تحول هذه الأنواع، وأنواع الأرستقراطية، إذا شئنا الإصرار على الاسم؛ فإن الثورة الفرنسية مثلا أزالت سيطرة أرستقراطية الإقطاع وشرف المولد، وفسحت في السبيل لأرستقراطية الصناعة والتجارة والمال. هذا صحيح، على أن الأرستقراطية الجديدة وثبت بفرنسا وثبة عظيمة إلى أمام؛ فلا يصح إطلاق الحكم الواحد على الأرستقراطيين. وتستأنف مي كلامها فتقول: «سيظل التفوق موجودا ما بقي بين البشر جماعات وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلون على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين.» وفي هذا رائحة نيتشه، بل ألفاظه ظاهرة، ولكن مي هنا تنتقل، بكل يسر وسهولة، من الأرستقراطية إلى التفوق، والمعنيان، بحسب المتعارف، متباعدان جدا؛ فالمفهوم بالأرستقراطية أنها تشمل طبقة من المجتمع تنسب إلى نفسها شرف الدم والمولد، وتتغطى بألقاب خاصة، وتكون ثروتها عقارية في الأغلب، كأمراء الإقطاع في القرون الوسطى مثلا، فإذا كانت ثروتها نقدية أجيز تسميتها بأرستقراطية المال، إلا أن هذه في الغالب لا تنسب إلى شرف المولد ولا تسبغ عليها الألقاب الخاصة. ولسنا ندري ما علاقة هذا بالتفوق، والسير بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود، والتجلي على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين؟ لعل مي تقصد الفاتحين العسكريين، لعلها تقصد العباقرة المفكرين والمخترعين وأصحاب المواهب والكفاءات، لسنا ندري بالضبط. إلا أن مي تتابع طريقها فتقول لنا: «سيوجد أبدا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية مهما تتقلب الثورات والنظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح»، وهو الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا.»
فما هي هذه الأرستقراطية التي هي من الطراز «الأصلح»؟ وما هو هذا الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا؟ إن مي لا تجيب بكلمة. وبمثل هذه الغوامض كان يتحدث نيتشه، ولا يزال الباحثون إلى اليوم مختلفين في معنى الأرستقراطية التي قصدها ومعنى «السوبرمان».
غير أن هذا كله لا يمس حقيقة موضوع المساواة؛ فالمساواة التي سارت تحت لوائها الثورة الفرنسية حاربت الأرستقراطية التي تتربع على ظهر المجتمع وتسيج نفسها بالامتيازات تجاه القانون، وفي احتلال الوظائف وأداء الضرائب وغير ذلك. ولا شك أن الثورة الفرنسية لما أزاحت تلك الأرستقراطية وأعلنت المساواة، وسعت المجال لكفاءات ومواهب كثيرة جديدة، فلم تعن المساواة التي أعلنتها كبحا لطفرة العبقريات والحيويات الدفينة في أعماق الأمة، بل هي التي شجعتها وأطلقتها من مكامنها وعقالاتها.
وما مقصدنا هنا أن نرافق مي في كتابها كله؛ فهي أحيانا ترجع، في نقد الثورة الفرنسية والمساواة التي أعلنتها، إلى ما ذكرناه سابقا من أن هذه الثورة لم تعزز الحقوق السياسية والاجتماعية بكفالة الحقوق والوسائل الاقتصادية. وقد كان هدفنا أن ندل على شيء من النيتشية علق بتفكير أديبتنا أو كاد.
ومن نيتشه وموقفه من الثورة الفرنسية، يخرج الباحث إلى النازية والفاشستية وموقفهما من هذه الثورة؛ فنيتشه هو الكاتب الذي اتخذه النازي والفاشست أبا روحيا. وفي غير مكان من هذا الكتاب يجد القارئ كيف أن موسوليني وغوبلز يشددان الهجوم على الثورة الفرنسية ومبادئها وأعلام مفكريها. «إن التعاليم الفاشستية هي التعاليم المعاكسة لجميع نظريات سنة 1789 الخالدة» (يستعمل هذا النعت متهكما). «إن الفاشستية رد فعل لحركة مجانين القرن الثامن عشر ومعتوهي الإنسيكلوبيديا.»
54 «إن العام 1789 سيلغى من التاريخ.»
صفحة غير معروفة