بقلم عمر فاخوري «يا عدو التاريخ!» بهذه الصيحة تلقيت ، ذات مساء، صديقنا رئيف خوري، لست أذكر لأي مناسبة، لكن أكبر الظن أني رأيته يومذاك يشن إحدى غاراته العنيفة، الموفقة، على جزء من التاريخ، أو على بعض أنواعه؛ فرد علي بابتسامته الطلقة الصريحة التي لا يعوزها من القهقهة غير الصوت ... إن ابتسامة رئيف خوري هي «عنوان» الصحة التي يتمتع بها في جسمه وروحه على السواء، تلك العافية السابغة التي لا تفتأ تنعكس متضاعفة متزايدة، من أحدهما على الآخر، حتى ليس يعلم أيهما الأوفر ربحا أو الأكثر غنيمة. على أني لم أعرف فتى أعظم من رئيف خوري إنفاقا مما رزقه الله ...
ومن قبيل العافية أيضا ما راض عليه رئيف خوري نفسه من ألا يقبل شيئا «على علاته». أعني أنه «يصحح» كل ما يسمع ويشهد من أقوال ووقائع؛ فهو يترجمها رأسا، دون تقاعس أو التواء، في لغة الحقيقة التي يجيدها قراءة وكتابة، فكرا وعملا. وليس لهذه الحقيقة عنده إلا خصمان لا ثالث لهما (لكن لله، ما أضخم جيشيهما!): سوء النية وسوء الفهم. الحقيقة الأخيرة، لا النهاية «الخيرة»؛ بمعنى المحصل الحسابي لوجوه المسألة المتعددة، ولظروفها الملازمة لها، ولأطوارها المتعاقبة التي لا تتغاير تماما، كما أنها لا تتشابه تماما، أما «النهائي» فليس له، مع الحياة والصيرورة، وجود. «يا عدو التاريخ!» لقد صحت بها حقا، لكن لو أتاني الآن من يزعم أني إذ قلتها أسمعت أيضا كرجع الصدى: «يا عدو نفسه!» لم أتهم أذنه ولا ذهنه. إن أكبر شطري التاريخ أسماء تود لو تنسى، وأحداث تريد أن تضيع، بقدر ما يحتمل «الكون» ضياعا أو يصبر على خسارة؛ فلا جرم أن رئيف خوري يخال نفسه موكلا بصديقه التاريخ، يساعده على طرح بعض أعبائه، لإنقاذ السفينة من الغرق. إن صداقة رئيف خوري والتاريخ لمن ذلك النوع الجيد الذي أرسلت في مدحه الأمثال: «صديقك من صدقك، لا من صدقك.»
لقد أولع رئيف خوري زمنا بنظم السلسلة الذهبية التي تجمع بين طرفيها «تقليدنا الثوري التحرري» منذ المحاولات الأولى، فطفق يبحث جادا في كتب التاريخ والأدب العربية عن الحلقات الضائعة من ذلك «التراث الإنساني النفيس»، وكان كل مرة يرجع مثقلا ، كالنحلة، مما اختاره من كلام مأثور وصنيع مشكور. وفي النادر ما كان يقف من التاريخ على إطلالة حيث تطن النحلة كما يطن الذباب، إنما لا يجني ما يجنيه النحل.
ولعل أطول وقفة لرئيف خوري على أطلال التاريخ هذه الفصول التي عقدها حول «الفكر العربي الحديث»، وكيف تم لقاحه بمبادئ «الثورة الفرنسية». سوى أننا نظلم المؤلف إذا نحن لم نسلم، عن طيب خاطر، بأن أكثر تمهله وتأمله هو في الأمكنة الطيبة بين رسوم دوارس: زهرة هنا لا تزال متألقة تضوع، وبقية أرج هناك من جنينة مفقودة. وكأي من أسماء منسية يذكرها، وصحائف مطوية ينشرها؛ تلك هي خطته في «الإنقاذ التاريخي» التي لم يحد عنها، لكنه اليوم يجري عليها عكسا لا طردا؛ إذ يعمل على أن يستنقذ «من» السفينة بعض حمولتها الثمينة، ثم يترك المركب لمصيره.
ونضرب لك مثلا لتنظر كيف «يعامل» رئيف خوري طائفة من الأخبار التي يكفي أن تتواتر حتى تصير «تاريخا»؛ يقص المؤلف فيما يقصه علينا نبأ المفاوضة بين العرب والفرس قبل القادسية الحاسمة؛ ففي رواية أن المفاوض العربي كان المغيرة بن شعبة؛ من معارف التاريخ، وفي رواية أخرى أن المفاوض كان إنسانا يدعى زهرة؛ من نكراته. ليس بمستبعد أن يكون ثمة مفاوضان، أو مفاوض وترجمانه، لكن هذا يهم التحقيق التاريخي (أو الاصطلاحي) وحده، أما «الحقيقة الإنسانية» فهي في كلتا الروايتين على السواء: في أولاهما يسمع رستم، قائد الفرس، كلاما من زهرة: «إن الدين الجديد (أي الإسلام) يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.» وهي عبارة تحمل على الظن بأنها مترجمة عن الفارسية، فيحتج رستم بأن «أهل فارس، منذ ولي أردشير، لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، وكانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم.» أما في الرواية الأخرى فيسمع أشراف الفرس كلاما من المغيرة بن شعبة: «إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا ... كان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ... اليوم علمت أنكم مغلوبون؛ إن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا هذه العقول.» فيتهامس الأشراف قائلين: «والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون - أي يميلون - إليه.» ويقول رئيف خوري: «إن معنى هذا في لغة علم الاجتماع الحديث أن النظام الاجتماعي الفارسي كان نظاما يقسم السفلة (أي جماهير الشعب) إلى طوائف، يلتزم كل فرد طائفته التي ولد فيها ووضعه الاجتماعي؛ لا حق له أن يتزحزح عنه؛ فهو فلاح قن مثلا، يكون ابنه فلاحا قنا أيضا، وهو محترف عمل الأحذية مثلا، يكون ابنه محترفا عمل الأحذية أيضا ... إن هذا الدين الجديد لن يقبل بنظام اجتماعي إقطاعي متحجر كالنظام الفارسي، ولن يقر الأوتوقراطية الفارسية ويلقي الحبل على الغارب للأشراف والدهاقين.» وهكذا نرى رئيف خوري، الذي يسمي «الأخبار» عن المفاوضة بين العرب والفرس «محاضر»، توكيدا لصحتها رغم كل الظواهر، يرسل على الناحية «الثورية التقدمية» في الإسلام نورا كاشفا. إن المفاوض العربي - كيفما تسمى - كان، في الحقيقة التي تهم التاريخ الإنساني، واحدا، كما أن المفاوض الفارسي كان واحدا في تلك الحقيقة أيضا؛ لأن الحوار الذي استؤنف عهد ذاك بينهما إنما هو الحوار المستمر بين عالمين: قديم وجديد؛ حوار واحد لم يتعدد.
وذلك وأمثاله، في رأي رئيف خوري، ما كان يقرؤه أعلام نهضتنا الحديثة في أثناء التراث العربي القديم، ويتدبرونه «فيخلق فيهم استعدادا نفسيا كبيرا للإعجاب بالثورة الفرنسية.» فالحادث التاريخي الذي أراد المؤلف إثباته و«تحقيقه» ليس «خبر» المفاوضة بين العرب والفرس، بل «خبر» الاستعداد النفسي عند مفكري العرب الإصلاحيين في القرن الماضي لتقبل المبادئ الجديدة، الأجنبية في صيغها أو أشكالها، الأصيلة في جوهرها أو فحواها، «تبعا لتقارب الأشواق الإنسانية واتجاهها في الحياة الاجتماعية نحو الخير والتجديد والعدل والرفق والحرية وسائر المثل والقيم العليا ... على أن الإسلام وثبة تقدمية جبارة، والوثبات التقدمية الجبارة، في كل العصور، لا يخلو بعضها من مضمون بعض.» وإذا كان غوته قد هتف مساء اليوم الذي نشبت فيه معركة فالمي: «من هذا المكان، منذ اليوم، تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الدنيا»، فإن نقولا الترك لم يبعد عنه كثيرا، إذ ذكر «الثورة الكبرى وقيام المشيخة الفرنساوية» في جملة «الحادثات الكونية، والحركات الكلية». على أن في الكتاب نماذج شتى وطريفة من هذا «التقارب الإنساني» الذي يعد المؤلف بين خيرة ممثليه في الجيل الحاضر.
إن رئيف خوري، الأديب في سويدائه، والشاعر الذي يحرص على صياغة قصائده وصقلها كما كانوا يحرصون على تجويد السيوف والألطاف، يعرف أيضا كيف يترسل في نثره الكتابي والخطابي ترسلا لا أثر للصنعة فيه، بل لا ضابط له غير المنطق الخفي حينا، الظاهر أحيانا. وهو في مواقفه، الغنية السخية، هذه لا يخشى تهمة ابتذال يقذفه بها متأنق أو متظرف من أولئك الذين يرتمون في أحضان تفكيرهم «الذاتي» كمن يتمتع بجسد خيالي ... حرية، مساواة، إخاء! ما ذنبنا إن تكن «الألفاظ» غزيرة الإصدار في السوق، كالنقد المتضخم الذي لا يني ينحط قيمة وثمنا؟ وما ذنبنا إن تكن «المبادئ» أبعد شيء عن الابتذال لأنها ما زالت أبعد شيء عن التحقيق العملي؟ يقول رئيف خوري في معرض كلامه على روسو: «... إن غيره ظل يفكر في نطاق مكتبة صغيرة أو حلقة ضيقة من النخبة المختارة، بينما استطاع روسو أن يحرك أعماق الشعب ويجعل من مذهبه دستورا للعمل. إنه من الكتاب القلائل الذين ترن كلماتهم برنة الصدق، ويشعر القارئ لدى مطالعتهم أنهم، إذ يدعونه إلى التفكير، يدعونه إلى العمل أيضا» كأن الكلمة مقولة في رئيف خوري نفسه!
وبالجملة، إن رئيف خوري، حتى في كتابته التاريخ، لا يقف على أطلال الماضي مقدار ما يقف على تصاميم المستقبل. ولقد ولد كتابه هذا تحت طالع مزدوج من «العقل الذي يبدد سحب الجهالة»، ومن العاطفة التي تمنح القلوب حرارتها. فبورك في ذلك القران السعيد!
إعلان حقوق الإنسان1
(1)
صفحة غير معروفة