فيما كان الأميرال وزوجته وابنته مسترسلين إلى الفرح باللقاء بعد طول الفراق، دخل خادم ينبئ بقدوم الآنسة دي موري قائلا إنها في البهو، فصاحت لورانس وجعلت يدها على فؤادها الواجف، وكاد يغيب رشدها لما رأت ابنتها التي تركتها مريضة متألمة قد عادت إليها ممتعة بالعافية بارزة في أبهى حلة من الجمال، فتمتمت الكلام قائلة: بوليت، ولم تزد لأن الفتاة وثبت إلى أمها وتعانقتا، ودوى صوت القبلات والزفرات معا، ولما أخذت الابنة تحدث أمها بما جرى بينها وبين أبيها، انقشعت سحابة عن ذهن لورانس وصاحت تقول: ذلك لأنه يحسبني مجرمة. فقال لها والداها: ما معنى هذا الكلام؟
فكادت تتكلم، إلا أنها تذكرت قسوة أبيها، فنظرت إلى أمها وخفضت رأسها كأنها تقر بذنبها.
وبعد هنيهة، خلت لورانس ببوليت فقالت لها: لقد رميت يا ابنتي بتهم لم أشأ أن أدفعها عني، أما الآن فلا أرضى بأن ترتاب بي ابنتي أيضا، فاصغي إلي واذكري تربيتي إياك على الفضائل السامية، أجابت: إني أذكر ذلك. قالت: فهل تصدقين أن أمك كانت زوجة خائنة؟
فصاحت: لو اتهمت نفسك لكذبتك، فهل تريدين أن أوضح لك فكري تماما؟ إنك ولا شك كنت فدية لإخلاص شريف حتى أقررت بأنك مذنبة.
فاغرورقت عينا لورانس بالدموع وقالت: لله در فؤادك الطاهر يا بنية، وحسبي مكافأة على ما لقيت هذه الكلمة التي نطقت بها بعدما أملاها عليك قلبك السليم. نعم، يوجد واجب سام عظيم أكرهني على الكتمان، وكنت كاذبة حين اتهمت نفسي. قالت: ولم ذلك الكذب؟ أجابت: كذبت منعا لوقوع مصيبة هي أكبر من مصيبتي! قالت: وكيف تتحملين وحدك تبعة إثم أنت بريئة منه؟! أجابت: لم أتحملها وحدي، ولكن تحمل تلك التبعة أيضا شخص آخر. قالت: فماذا حدث لذلك الشخص الآخر؟ أجابت: إنه جاد بروحه، أما أنا فجدت بشرفي. فاصفر وجه بوليت وقالت: ومن ذاك الذي قتل؟ أجابت: إن اسمه سر لا يطلع عليه أحد، وأبوك نفسه يجهله، وهو الذي قتله! وكان الواجب يقضي علي بأن أطلع الكونت على هذا السر، فلما عزمت على القيام بذلك الواجب ثار سخط زوجي، ولعنني والدي، وفقدت صبري وشجاعتي ورشدي ... نعم، كنت مجنونة، ولم يذهب جنوني إلا حين لقيتك، أما الآن ففي طاقتي أن أبرر نفسي؛ أي أن أحمل الكونت دي موري على التندم؛ لأنه قتل رجلا بريئا، وطردني من بيته ظلما، وأحل غيري محلي، ولكن تلك زلات لا يمكن إصلاحها وتداركها ... أما أنت يا ابنتي فلا بد لك من تناسي ما كاشفتك به؛ إذ لا بد من أن أبقى الزوجة الخائنة الساقطة.
قالت: ومع ذلك فإنك ... قالت: دعي عنك هذا ولا تدعيني أندم على بث سري لك، ولا تهدمي ما شيدته، بل اكتمي السر، فهل تعدينني بالكتمان؟ أجابت: سأكتم سرك يا أماه دون أن أفهم ما تريدينه مني سوى أنك كنت «فدية الشرف».
ورأت لورانس اصفرار ابنتها، فحاولت تغيير الموضوع وابتسمت وقالت: لنتكلم عنك الآن: حدثيني بكل ما جرى لك منذ ما فارقتك إلى حين لقيتك، فقد علمت بما أصاب العمة باسيليك رحمها الله، وقد كانت تحبك، وبكيتها كأنها لا تزال شقيقتي، ولكن كلميني عن تلك البلاد الجميلة التي كنا سعداء فيها ... كلميني عن الأحباب الذين تركناهم.
فعلا الاحمرار وجه الفتاة، وبدأت تحدث والدتها عن هوى طاهر نشأ بينها وبين شاب كان يعطف عليها في غياب أهلها، وهو جاستون دي فاليير، إلى أن قالت: اعلمي يا أماه أنني أموت ولا أتزوج غير ذلك الحبيب.
فضمتها لورانس إلى صدرها وقالت: ثقي يا بنية أن جاستون دي فاليير سيغدو زوجك، ولست أعرف مثله كفؤا لك، ويسرني أن يكون الوصي على هنائك، وبعد هنيهة تفارقتا، فرجعت بوليت إلى بيت أبيها.
أما الكونت دي موري فلم يتلق خطبة أنيبال لابنته إلا بعد جدال كما يذكر القراء، وقد تمثل لذهنه قبح هذا المشروع، إلا أن الإفلاس قضى عليه بقبوله؛ لأن شرفه وحياته كانا رهن ذلك القبول، ولو درى أن بوليت قد وهبت فؤادها لخطيب آخر لعد عمله جريمة، وكان ارتباكه عظيما حين أتى أنيبال يذكره وعده، فأجابه: بحقك لا تكلمني عن هذا الأمر اليوم، بل أمهلني بضعة أيام أيضا.
صفحة غير معروفة