أجاب: لأنني سمعت محادثة بين سيدي ورجل آخر علمت منها أن الكونت وعد الرجل بأن يعقد له على ابنته.
قال: هذا ما كان ينقص المسكينة، ومن ذلك الرجل؟
أجاب: إنه المسيو بلميري شقيق الزوجة الجديدة.
قال الإنكليزي: بلميري؟ إني أتذكر هذا الاسم، ولكن ما لنا وله. هيا بنا لنرى الكونتة دي موري.
فتناول ملطار طرف سترة الإنكليزي، وأخذ يلثمه علامة الشكر والامتنان، ثم ركب الرجلان مركبة، وقد أراد ملطار القعود قرب الحوذي إلا أن دراك قال له: هل نسيت أنك من أمراء الهنود؟
فلما وصلا إلى بيت لورانس، قال دراك: تصعد أنت أولا وتنبئ بقدومي.
قال: بل اصعد معي وانتظرني في إيوان الدار فأدعوك عند الحاجة، ولما مثل ملطار بحضرة الكونتة قال لها: لدي أنباء جديدة عن سيدتي الصغيرة، فنهضت وجعلت يدها على فؤادها، ثم ارتمت على مقعد وقالت: الحمد لله، فأين هي الآن؟ ومتى تصل؟ قل لئلا تميتني بسكوتك. قال: وصلت السفينة إلى مرسيليا. قالت: هل وصلت اليوم؟ أجاب: لا، ولكن منذ يومين. قالت: إذن ابنتي تصل اليوم إلى باريس، أو هي قد وصلت اليوم فعلا؟ ولعلها تنتظرني وراء هذا الباب، فتعال معي، وأنت يا ابنتي ادخلي لأضمك إلى صدري فإنه ما خفق إلا لك وبك.
وهجمت على الباب ففتحته قبل أن يتمكن ملطار من إيقافها، إلا أنها لم تلق إلا الرجل الإنكليزي دراك، ولم تكن تعرفه فارتدت خائبة، فتلقاها ملطار بقوله: اطمئني يا سيدتي، فالرجل الذي ترينه صديق أتى ليكلمك عن سيدتي الصغيرة؛ لأنه صديقها أيضا ، بل صديقها الوحيد معي.
قالت الأم بلطف: أأنت صديق ابنتي؟ وأتيت لتكلمني عنها أو لتوصلني إليها؟ ألا بارك الله فيك، وجزاك خيرا.
وهنا لا يمكننا وصف ما جال في سريرة دراك، ولكننا نقول إن الغضب كان أشد ما تسلط عليه، غضب لأنه أحس بالانفعال الشديد، ولأنه استشعر ضعفا يخالف ما يريد أن يتصف به من عدم المبالاة؛ لأنه بلغ الخامسة والخمسين وهو مجتنب كل ما يقال له تأثر وانفعال، وهو فيما مضى من عمره أبى الاقتران بإحدى الأوانس؛ لأنه شعر بتعلقه بها، وأشفق أن يعاني من دلالها عليه ما لا طاقة له به، وهو لم يدخل ناديا إلا ليطالع فيه جريدة التيمس أو ينام على أحد المقاعد، وكان عنده مرة كلب، فاتفق أن داسته مركبة، فحلف على أن لا يقتني كلبا لئلا يفجع به، وآلى على نفسه أن لا يحب إنسانا ولا حيوانا حرصا على عواطفه الذاتية، واليوم قضي عليه أن يهتم بشئون الناس وهمومهم وأسرارهم، وذلك ليس في طبعه ولا خلقه ولا إرادته، فحنق على نفسه حنقا شديدا، إلا أنه لم يستطع رجوع القهقرى؛ لأنه كان طيب القلب رغم أنفه، فإنه أحس بفؤاده يتفطر لما رأى تلك الأم الحزينة باكية، فأجلسها على مقعد، وكفكف عبراتها بمنديله وقال لها: صبرا أيتها السيدة العزيزة، فتجلدي فابنتك حية ترزق وسوف ترينها.
صفحة غير معروفة