فأجابه الكونت: إن إصرارك على خطبتها إلي في مثل هذه الأحوال الحرجة يوجب علي الشكر لك، ولكنني لا أستطيع أن أجيبك إلى طلبك إلا بعد قدوم بوليت؛ لأنها قادمة إلى هنا بعد بضعة أيام، ولها أن ترى رأيها في الجواب، وبعد هنيهة دخل أنيبال غرفة أخته فأنبأها بما فعل، فقالت له: ولكن هذا جنون! قال: وهل قلت لك إنك مجنونة حينما كاشفتني بهواك وشغفك بالكونت دي موري، وقلت لي إنك تدفعين الملايين لتتزوجي به؟
قالت: ولكن ليس بين الحالتين تشابه. قال: أنت أردت الاقتران بالكونت عن هوى وعشق، أما أنا فسوف أتزوج الآنسة بوليت عن تعقل وتبصر؛ لأنني أتمنى أن أفتح بيتا صغيرا بين هؤلاء القوم الذين اختلطنا بهم، ولا يخطر لهم التحري عن ماضينا، وبوليت تلائمني وتصلح لي؛ لأنها فتاة تكاد تكون بلهاء، ولا تعرف شيئا من أحوال الناس وشئونهم، ولا تهوى أحدا، ولا يبعد أن تفتتن بي، وفضلا عن ذلك فإن والدها زوجك ولا يقسم إلا بك، ومن محاسن التوفيق أنه مشرف على الإفلاس، وهو محتاج إلينا ليقضي ديونه ... - هذا صحيح وكنت قد نسيته، فهل ثبت النبأ السيئ الذي نقلته إلي عن منجم الذهب؟ - بلا شك، والمصرف الهندي المرسيلي الذي أودعه أمواله مشرف على الإفلاس الاحتيالي - أو التدليسي. - إذن قد أصبح روجر مفلسا؟ - نعم، إلا إذا لجأ إلى صهره «العبد الفقير» الماثل أمامك، ولعمري إنه لحسن حظه قد وفق إلى التعرف بنا! وضحك سرورا.
وبعد هذه المحادثة بساعة واحدة فقط، دخلت مخدع الكونت دي موري فتاة ممسكة بيد رجل كهل وهي تقول له: تعال إلى هنا يا مسيو دراك، فهذا مخدع والدتي!
وكانت الفتاة بوليت.
الفصل السابع
بقي علينا أن نذكر السبب في وصول الفتاة بوليت إلى منزل أبيها في شارع فارين في باريس، وهو لا يدري إذا كانت قد وصلت إلى مرسيليا بعد ... وكيف دخلت المنزل خفية غير مصحوبة بعمتها باسيليك ولكنها بصحبة رجل نجهله حتى الآن، اسمه المسيو دراك، فلنعد قليلا إلى الوراء.
كانت بوليت في الهند ضعيفة ناقهة من المرض، ولما وقعت حادثة افتراق أمها عن أبيها كتمت عمتها عنها الخبر، وقال الطبيب روبلين لعمتها: ثابري على الكتمان عنها لئلا تؤثر هذه المصيبة في صحتها، وربما قتلتها؛ لأن جسمها لا يزال إلى الآن ضعيفا. فلما تم لها الشفاء أمر الطبيب بسفرها برغم إرادة المسيو جاستون دي فاليير نائب الحاكم، وكان هذا مغرما بالفتاة من قبل، لكنه لم يكاشفها بهواه، وكان الطبيب روبلين مطلع على سر ذلك الهوى، وقد أنبأ به العمة باسيليك، فعزمت أن تخبر به والدي الفتاة حين وصولها إلى باريس، فقالت لجاستون: كنت مطمئن البال أيها العزيز، فسوف أسعى لك السعي الذي نوده. ثم سافرت العمة باسيليك وابنة أخيها، وظلت العمة تؤجل إطلاع الفتاة على ما كان بين والديها خشية تأثير الخبر فيها، لكنها أشفقت أن يتكلم أمامها أحد ركاب الباخرة فتعلم الفتاة ما كتم عنها، فاحتاطت بطريقة أخرى هي التي نذكرها الآن.
كان في جملة القادمين إلى أوروبا على تلك الباخرة رجل إنكليزي أقام ثلاثين عاما في الهند، ثم عاد إلى أوروبا لينفق فيها بقية عمره ويستريح من الأعمال، وكان ذلك أمرا ميسورا عنده؛ لأنه غني، ولا علاقة له بأحد من الناس، ولا أقارب له، ولا يهمه غير نفسه، هكذا كان هو يقول، واسمه إيليا دراك، زاول التجارة في كلكتا وكان معتمدا قنصليا فيها، تعرفت به العمة باسيليك على يد ربان الباخرة، ثم آنست فيه طيبة القلب فأطلعته على ما توجسه من خوف بشأن بوليت، فوعدها بالمساعدة لأنه يعرف جميع ركاب الباخرة، فحذرهم من التكلم عن حاكم بوندشيري، أي والد بوليت، وما جرى له مع زوجته؛ لأن خبر تطليقه إياها كان شائعا ذائعا، ولكن إيليا دراك كان قد امتنع في بادئ الأمر عن قضاء هذه المهمة، لكنه ما لبث أن أذعن وأجاب بالقبول، واستشعر ميلا إلى الفتاة بوليت، مع أنه كان لا يريد أن يكترث لأحد من الناس بسبب تقدمه في العمر.
وفيما كانت الباخرة تدنو من مرسيليا حدث حادث مزعج؛ لأن البحر هاج هياجا شديدا، وأخذ يتلاعب بالباخرة تلاعب العاصفة بريشة طائر، فلم يبق على ظهرها أحد من المسافرين؛ لأنهم أمروا بملازمة غرفهم، أما بوليت فلما علمت بقرب الوصول إلى مرسيليا أصابها انفعال شديد لاعتقادها أن والديها ينتظرانها على الشاطئ وهما متعرضان للعاصفة الهابة ليرقبا دخول السفينة في الميناء، ويشاهدا ابنتهما من بعيد، فطلبت إلى العمة باسيليك أن تأذن لها بالصعود إلى ظهر السفينة، وأدركت هذه العمة ما يجول في ذهن الفتاة، ولم تحاول منعها ذلك؛ لأنها قالت في نفسها: سوف تكون خيبة بوليت لعدم رؤية والديها على رصيف المينا عند رسو السفينة مقدمة لمكاشفتي إياها بتنافرهما الذي أدى إلى الطلاق، وهكذا تكون الخيبة الصغيرة تمهيدا للخيبة الكبرى التي أخشى من تأثيرها على الفتاة.
فصعدت العمة وابنة أخيها إلى ظهر السفينة وهي داخلة في الخليج، فنادت بوليت المسيو دراك وقالت له: ألا تأتي معنا؟
صفحة غير معروفة