الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
فدية الشرف
فدية الشرف
تأليف
ألفونس دنري
ترجمة
نقولا رزق الله
يا ابنة الماجد صوني مجده
إن جرح العرض لا يلتئم
وهم الكندي فيما قاله
رب عار ليس يمحوه الدم
الفصل الأول
كان في مدينة نابولي فتى اسمه بيبو، وفتاة تدعى جرجونة، وهما أخوان أمهما امرأة رقاصة، توفيت حين كان عمر بيبو عشرة أعوام وعمر شقيقته خمسة، فأدخل الغلامان مدرسة الأيتام الفقراء، ثم خرجا منها إلى أزقة المدينة يتجولان فيها، فزاول الفتى كل الحرف ولم يفلح في واحدة منها، وإنما بقيت له مزية واحدة هي حسن الخط، ولا يدري أحد كيف حذق الخط وأتقنه!
أما الفتاة فكانت تبيع الأزهار، ولا بد من أن نقول إنها بهية الطلعة لطيفة الشكل. ثم كبر الغلامان، فلما بلغت جرجونة الخامسة عشرة عمدت إلى حرفة أمها - الرقص - تزاولها في أحد الملاهي، لكنها ما لبثت أن تركت حرفة الرقص خيفة السقوط، لا لعفاف؛ ولكنها أبت أن تزل بها القدم دون نفع كبير يذكر أو غنيمة جسيمة تدخر. فاضطر أخوها بيبو إلى الجد والكد؛ لتحصيل رزقه ورزقها معا.
وقد ذكر أنه كان حسن الحظ؛ فاتفق أن كان في المجلس البلدي منصب خال في قلم التسجيل، وقدر الوظيفة - الماهية - أربعون فرنكا في الشهر، فرفع بيبو عريضة بطلب المنصب الخالي، كتبها بخطه الجميل، فحازت القبول.
ولم يلتفت رؤساؤه إلى كسله، وإنما أعجبوا بمحكم تصويره واستواء سطوره، فارتقى إلى منصب رئيس القلم، وصارت وظيفته ستين فرنكا في الشهر.
وكان بيبو كسلان قاعد الهمة يطمئن إلى الخمول، ولا ينهض من فراشه إلا إذا نبهته أخته، وفضلا عن ذلك فقد كان عمله في المجلس البلدي قليلا فزاده كسلا وقعودا، وفي ذات يوم أيقظته شقيقته من نومه وقالت له بغضب: قم فقد أزف الظهر وأنت نائم!
فنهض مستمهلا يتثاءب ويتمطى، ويقول: لماذا أيقظتني؟ وماذا جرى؟ فهل احترق البيت؟! قالت: ليته يحترق وأنت فيه إلى يوم القيامة، ألا تخجل من قعودك وتخلفك عن مكتبك حتى الساعة؟
قال: ما كنت لأبالي بمكتب أكسب من عملي فيه ستين فرنكا، ولئن تخلفت عنه فالمكتب البلدي لا يصاب بالإفلاس. قالت: ليست الستون فرنكا قدرا كبيرا ولكنه كاف لنا، وإلا فماذا يحل بنا إذا طردوك؟ قال: الأمر يسير، تعودين إلى الرقص، فجوقة «سان كارلو» لا تمتنع عن قبولك. قالت: ولكنني أنا أمتنع.
ولبس بيبو ثيابه غير ملتفت إلى شقيقته، إلى أن قال لها: هل عزمت عزما حقيقا على ترك الملاعب؟ أجابت: نعم. قال: إن فتاة حسناء مثلك لا ينبغي أن تتشبث بالفضيلة هذا التشبث.
قالت: ليس امتناعي عن الرقص في الملاعب فضيلة، وما أرى المتاجرة بجمالي عيبا؛ ولكني لا أجد في الملاعب من يصلح لشرائه، فأنا أوثر ما نحن فيه من الفاقة على ذاك الارتزاق القليل، ولما نزل بيبو من البيت التقى بشيخ فقير ضعيف طاعن في السن اسمه الدوق دي لوقا، فحياه وقال له: ادخل لعلك تجد بقية طعام عند جرجونة.
ثم مضى إلى عمله تاركا ذلك الشيخ في موضعه، وكان هذا الرجل دوقا حقيقيا قد تولى أعلى المناصب في بلاط سيسيليا على عهد الملك فردينان الثاني وفرنسوا الثاني ابنه، فلما دخل غالباردي
Joseph Garibaldi
مدينة نابولي في يوم 7 سبتمبر سنة 1860 كان الدوق في خدمة الملك وقد صحبه في فراره، ولما سلمت «جايت» يوم 13 فبراير سنة 1861 بعد حصار أبدى فيه الملك والملكة شجاعة تساويا فيها؛ كان الدوق آخر من خرج من القلعة، وكان سقوط آل بوربون الضربة القاضية على الدوق دي لوقا. أما فرانسوا الثاني الآنف ذكره فكان آخر من استوى على عرش نابولي وسيسيليا؛ لأنهما ضمتا بعده إلى إيطاليا عام 1860 بعدما كانتا مملكة مستقلة منذ نحو عشرة قرون، وكان في وسع الدوق أن يحذو حذو كثيرين من أنسابه، وينضم إلى المملكة الجديدة، إلا أنه كان عنيدا باسلا، فآثر الإفلاس والضنك، وقال: إن الانقلاب صيرني شحاذا، وسأبقى شحاذا حتى أموت.
ومد يده للسؤال أول مرة وهو لا يزال مرتديا بملابس حسنة، فكان الناس يعجبون منه ويتصدقون عليه. فإذا اجتمع له فرنك واحد اكتفى به وترك التسول، وقصد إلى غرفة له حقيرة مجاورة لغرفة الفتيين بيبو وجرجونة، ولكن ما لبث أن ذاق طعم البؤس لما انقطع الناس عن التصدق عليه، وصار معدودا في عامة المتسولين، ولولا أن العناية سخرت له ذينك الفتيين لهلك جوعا؛ وذلك لأن جرجونة وأخاها تعلقا به فكانا يعطفان عليه، ويشاطرانه قوتهما القليل على ما بهما من فقر، وكان هذا الدوق المفلس قد بلغ الثمانين من عمره.
وكان يسمع شكاة الفتاة الحسناء من سوء الحال ويرق لها. قالت في ذلك اليوم: لقد سئمت عيشتي هذه، ومن كانت مثلي يشق عليها احتمال الفاقة. قال: أصبت والله، فأنت لم تخلقي لهذا الشقاء، ويعز علي أن يعبث بهاتين العينين الساحرتين، او بهذا الشعر الفاحم، وبهذه القامة الهيفاء، ممثل لا يرى السعادة إلا من وراء ستار، إنما أنت ربة تستحقين ما هو أسمى وأشهى. قالت: فما عسى أن أفعل؟ فأطرق الشيخ، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: وايم الحق إذا تم ذلك كان عجبا!
وسمعته فقالت: ما معنى هذا الكلام؟ أجاب: هو خاطر خطر لي. قالت: تكلم. قال: لا يروعني خوفا عليك إلا ضعة نسبك، فهو يحول دون ارتقائك بسهولة. قالت: إني أدعى جرجونة، وحسبي بهذا الاسم نسبا. قال: نعم؛ أي إنك «لا شيء»، فلو كنت ذات اسم يدل على محتد كريم لكان لك شأن آخر. قالت: وما فائدة هذا التمني؟ فنهض الشيخ وانحنى أمامها وقال لها: إن أنا إلا متسول مثلك يا جرجونة، وقد بلغت الثمانين من عمري ... غير أنني مركيز دي كوريولو، وكونت دي كاستلو، ودوق دي لوقا، وهذه ألقاب شريفة ورثتها عن آبائي، فهل يعجبك أن تكوني كونتة، ودوقة، ومركيزة؟ هل تريدين أن تكوني زوجتي؟
فظنت أولا أنه يمزح، لكنها عرفت من لهجته أنه يقول الجد، فصاحت تقول: أتدري ما أفعل باسمك لو دعيت به؟ لو دعيت به لاستخدمته ليرفعني لا ليخفضني، وربما اتخذته سلاحا أضرب به، ولكني لا أريد أن تناله مني غضاضة أو يمسه خزي وعار. فأبق اسمك لنفسك يا سمو الدوق، فهو لا يصلح لي، ولئن صرت امرأة ساقطة فاسم جرجونة لا يعاب بل يبقى اسمي وأعتذر به، ومهما أفعل فإنني أرجع إلى حيث كنت وكانت أمي من قبل! ولكنني إذا حملت اسم دوقة دي لوقا عددت امرأة سافلة، وآذيت كل شريف في شرفه!
فأثر هذا الكلام في الشيخ وقابل بينه وبينها، فرأى أنه أحط قدرا من تلك الابنة المتشردة، وفهم أن العظمة قد تكون في النفوس الخاملة، فخجل من نفسه وطرأ انقلاب على فكره، فضم الفتاة إلى صدره سرورا بنزاهة ضميرها وسمو خلقها، ثم تركها ومضى إلى غرفته المجاورة فانطرح على فراشه، وقد خارت قواه عقيب ذلك الانفعال، فأحس بأنه مشرف على الموت، ولم تمض بضع دقائق على هذا الحادث حتى دخل بيبو البيت، فصاحت شقيقته تقول له: ما بالك رجعت؟! إنك تسرق مال الحكومة! فلم يجب بل أوصد الباب وراءه وأقبل عليها، فقالت له: لعلك خائف من اللصوص؟
أجابها: ربما ...
وجاء فوضع محفظته على خوان وقال: هنا عشرون مليونا؟ فبهتت ثم جعلت تكرر قوله: هنا عشرون مليونا! أرني إياها.
فأمسك ساعدها، وقال: اصمتي واخفضي صوتك لئلا يسمعنا سامع، فالعشرون مليونا ها هنا إنما هي مدفونة، ولا بد من الحفر لاستخراجها، قالت: لم أفهم مرادك!
فبدأ يشرح لها الخبر ومؤداه أنه وردت مراسلة خطيرة إلى رئيس مكتب السجلات البلدية في نابولي، أي إلى بيبو، وأجاب عليها بما عن له أن يجيب، وذلك أن رجلا من باريس كان وكيل أشغال معينا رئيس محكمة السين في باريس ومديرا قضائيا، وكان قد كتب إلى بلدية نابولي يخبرها بأنه عهد إليه بتصفية شركة رجل توفي عن مال كثير، واسم هذا الرجل «جياكومو بلميري»، وقد ترك وصية يذكر فيها أصله ونسبه، ويقول: إنه ينتمي إلى قوم فقراء من نابولي لم يبق منهم إلا هو وشقيق له أصغر منه سنا اسمه أنطونيو بلميري، وكابد الأخوان نكد الأيام دهرا ثم عزما على المهاجرة لعلهما يصيبان ثروة، وكانا قد تعاهدا على السفر معا غير أن الأحوال قضت بافتراقهما، فسافر جياكومو إلى أوروبا وارتحل أنطونيو إلى آسيا، فأقام الأول في باريس ومكث الثاني في كلكتا، وتراسلا بضعة أعوام تراسلا غير منقطع، ثم بدأ التواني في المراسلة وأدى أخيرا إلى الانقطاع التام.
ويقول جياكومو في وصيته إن آخر نبأ تلقاه من أخيه أنه تزوج امرأة إيطالية اسمها نينا ألسندرى، ورزق منها غلاما دعاه أنيبال، وابنة دعاها كلوديا. ثم كتب جياكومو إلى أخيه مرتين وثلاثا فلما لم يرد عليه جواب، وأخيرا مل المكاتبة وتوقف عنها، ثم شغلته الشواغل فخدم مصرفا فأظهر نشاطا في الخدمة وكفاءة وأمانة في العمل فاكتسب ثقة رؤسائه، ثم صار شريكا لهم إلى أن ابتاع منهم حصصهم واستأثر بالمصرف وحده، وفي أقل من خمسة عشر عاما أصاب ثروة جسيمة، إلا أن دأبه في العمل أثر في جسمه، فاعتل واشتدت عليه العلة، فذكر حبه لأخيه وأنه رزق ولدين، غلاما وابنة، فكتب وصيته وبها يأمر بالتفتيش عن أخيه أنطونيو بلميري الذي سافر إلى الهند الإنكليزية في وقت كذا، ثم أقام في كلكتا، فأوصى بثروته من بعده لأخيه إذا كان حيا أو لأرملته وولديها إذا كان ميتا، أما إذا لم يوجد منهم أحد في قيد الحياة فثروته تنفق على الأعمال الخيرية.
ولما طالع وكيل الأشغال تلك الوصية رأى أن يفتش أولا في مدينة نابولي؛ لأنها الوطن الأصلي لأنطونيو بالميري.
ووصلت هذه المراسلة إلى بيبو فكتب إلى وكيل الأشغال ينبئه بوصولها، ثم عمد إلى الاستعلام رأسا فكتب إلى قنصل إيطاليا في كلكتا طالبا إليه أن يبعث إليه بالإيضاحات والأوراق التي تتعلق بهذه الشركة. ثم لم يعد يفكر في هذه المسألة. فلما وصل بيبو إلى هذا الموضع من خبره صاحت به أخته تقول له: وأين العشرون مليونا؟! فقال لها: صبرا حتى أستوفي كلامي. قالت: فامض فيه عاجلا.
وقال: في هذا اليوم تلقيت جوابا من قنصل إيطاليا في كلكتا وفيه هذه الأوراق التي ترينها أمامك، وهنا يجب أن تعلمي أن قنصل إيطاليا في كلكتا رجل إنكليزي، وهذا أمر يحدث كثيرا في البلاد النائية، إلا أن الأوراق مكتوبة باللغة الإيطالية وعليها توقيع ذلك القنصل، وفي رسالته أن أنطونيو بلميري وزوجته نينا ألسندرى أقاما في كلكتا معا بعد أن تزوجا على يد القنصل، ثم رزقا ولدين هما أنيبال وكلوديا إلا أنهما توفيا إلى رحمة الله. قالت جرجونة: من الذي توفي؟ أجاب بيبو: كل العيلة، أي: الوالدان والولدان بالوباء الذي تفشى في الهند منذ خمسة عشر عاما.
قالت: هذا فظيع. قال: بل هذا بديع؛ انظري هذا الغلاف الكبير المعنون باسم: «حضرة رئيس قلم السجلات في بلدية نابولي» فهو يحوي أوراقا، وهي:
أولا:
عقد اقتران أنطونيو بلميري بنينا ألسندرى.
ثانيا:
شهادة بمولد أنيبا بلميري وكلوديا بلميري.
ثالثا:
شهادة بوفاة الوالد والوالدة.
رابعا:
شهادة بوفاة كل من الولدين.
فهذه سبع أوراق.
قالت: إذن لم يبق إلا إيداع العشرين مليونا أحد المستشفيات الخيرية؛ لأن الوارثين الشرعيين أموات، أجاب: نعم، إلا إذا اعترضنا ضياع العشرين مليونا على هذا الوجه، قالت: أوضح، أجاب: الأمر يسير، فاسمعي وافترضي أولا: أن ولدي أنطونيو بلميري ونينا ألسندرى لم يموتا، وأن لا وجود لشهادتي وفاتهما بين هذه الأوراق، وافترضي أيضا أنهما أقبلا على المجلس البلدي ليثبتا حقيقة نسبهما ووفاة والديهما، وافترضي كذلك أنهما بالشهادتين اللتين معهما أثبتا حقهما في إرث جياكومو بلميري، فماذا يحدث إذ ذاك؟
أجابت: يحدث أن الحكومة تعطيهما العشرين مليونا ولا شك في ذلك ولا ريب، ولكن لسوء حظهما أنهما ماتا، وأن الافتراض لا يغني ولا يجدي فتيلا!
قال: بقي عليك أن تفترضي أيضا أنني أنا بيبو أدعى أنيبال بلميري، وأنك جرجونة تدعين كلوديا بلميري أختي، فمن يستطيع أن يقول عكس ذلك؟ أجابت: كل نابولي تعرفنا. قال: نعم، كل نابولي ولكن كل باريس تجهلنا، وإنما يكون تسليم الإرث في باريس لا في نابولي. قالت: إذا كنت قد فهمت كلامك فخطتك تقضي بأن تحل محل ولدي بلميري الميتين وتقبض إرثهما. أجاب: هو ذاك. قالت: ولكن هذه سرقة. قال: هبي أنها سرقة فهي لا تضر أحدا، ولو لم يوجد الوارثان لآل الإرث إلى الحكومة، وأنت تعلمين أن سرقة الحكومة لا تحسب سرقة؛ لأنها لا تضر أحدا ...
فأطرقت جرجونة تفكر. فقال لها أخوها: ما بالك؟ أجابت: افترض أنت كذلك أننا فعلنا كل ما قلته وأخذنا جميع هذه الأوراق بدلا من أن نحبسها في محافظ المجلس البلدي، وسافرنا إلى فرنسا ولقينا وكيل الأشغال، وقلنا له نحن أنيبال وكلوديا، وأبرزنا له هذه الأوراق، فهل يقتنع أنها أوراقنا، أو لا يقول لنا ربما تكونان سارقين إياها؟ وإذ ذاك يبدأ التحري والتحقيق ولا يكون نصيبنا من تلك الملايين إلا الخيبة فالسجن بضع سنين!
فتبسم بيبو وقال: يا لك من فتاة ساذجة، لماذا لا تثقين بأخيك؟ انظري إلى هاتين الورقتين، فما هما؟ أجابت: هما جوازان إذا امتلأ الفراغ الذي فيهما ووقع في ذيلهما، أما في هذه الحالة فلا فائدة منهما. قال: أصبت، ولذلك عزمت على إملاء الفراغ فيهما.
وجلس إلى الخوان لساعته، وأخذ يكتب الجوازين وفيهما وصف بيبو وأخته وصفا تاما، وقد ذكر اسميهما أنيبال وكلوديا، ثم قلد التواقيع التي يجب تذييل الجوازين بهما، فدهشت جرجونة وقالت: لله درك يا أخي! ما أقدرك على الإتقان! والآن فما عسى أن نفعل؟ أجاب: لا شيء سوى حمل هذه الأوراق ما عدا شهادتي وفاة الولدين، فإنهما تحترقان على مذبح ثروتنا الجديدة.
قال هذا القول وتناول الشهادتين فأحرقهما في الحال، ثم قال: بقي علي أن أكتب إلى وكيل الأشغال في باريس بتوقيعي الحقيقي، وصفتي الرسمية، فأخبره بقرب قدوم أنيبال وشقيقته كلوديا بلميري إلى باريس، وهما الوارثان اللذين يبحث عنهما، ويحضران معهما جميع الأوراق الدالة على صحة نسبهما، وبعد ثمانية أيام نسافر أنا وأنت، وإذ ذاك نقبض العشرين مليونا ونتسمى باسمي بلميري.
قالت: لا بأس بالثروة أما الاسم فلا يعجبني، فنظر إليها وهو حائر، فقالت: ألا تراني أستحق تاج دوقة؟ أجاب: بلا شك، بل تستحقين تاج إمبراطورة، ولكن يهمنا أن نجد دوقا أو إمبراطورا يقدم لك تاجه. قالت: ولكن الدوق دي لوقا نفسه يقدم لي تاجه. قال: لله دره ما أكرمه! فهل عانقته مكافأة له على هذه العطية؟ أجابت: بل رفضتها، أما الآن بعد حدوث ما حدث فلست أرفض، وها أنا ذا ذاهبة لأخبره بقبولي عطيته، وسوف ترى.
وهنا حدثت بيبو بما دار بينها وبين الشيخ الضعيف، فهز رأسه وقال: عسى أن لا يكون المسكين قد عدل عن رأيه، فتبسمت الفتاة وقالت: تعال معي إذن، ودخلا في الغرفة المجاورة، وكان الشيخ دي لوقا مضطجعا مغمض العينين، فألقت جرجونة يدها على كتفه، ففتح عينيه وقال لها: لقد سرني أن أراك أيتها الحبيبة، وأن أرى أخاك أيضا؛ لأن ساعاتي معدودة، وقد اقترحت عليك منذ هنيهة أن تكوني زوجتي فلو رضيت لصرت أرملة بعد وقت قصير جدا. فأجابته: إنني أتيت راضية بالاقتراح، فأنا أريد أن أصير زوجتك.
فنظر إليها مستفهما، فقالت: لقد انكشف لي سر عظيم، وظهرت لي أسرة غنية. قال: لست أريد أن أسألك، ولكن رجلا مثلي ينتسب إلى آل لوقا لا يرجع عن كلامه، إذن ثقي بأنك ستدعين الدوقة دي لوقا، وفي اعتقادي أنك تحرصين على شرف هذا الاسم حرص أصحابه عليه من قبل، ولكن لا بد من التعجيل، والذي أراه أن للحكام الحق في عقد مثل هذا الزواج غير العادي ... فليأت بيبو بواحد منهم ويقل له إنه يوجد رجل مشرف على الموت وهو يدعوه، ثم فليدع لي قسيسا بعد ذلك.
فمضى بيبو والحمى تفترس الشيخ، وجرجونة تعطف عليه، وتبلل شفتيه بالماء البارد، إلى أن عاد بيبو ومعه موظف كبير وأربعة شهود وقسيس، فكتب العقد وتمكن الدوق المحتضر من التوقيع عليه بيد مرتجفة، أما جرجونة فوقعت عليه باسم كلوديا بلميري، ولما سألها الموظف عما يثبت نسبها أرته عقد مولد كلوديا بلميري المصدق عليه من قنصل إيطاليا في كلكتا، فلم يخامر الرجل شك في صدقها، وشهد مع الشهود الذين جمعوا من قارعة الطريق، ثم خرج الكل وبقي القسيس عند الدوق الشيخ فسمع اعترافه.
وبعد يومين قضى الرجل وعيناه محدقتان إلى وجه تلك الفتاة الحسناء التي ترك لها لقبه، وهو كل ما يمتلك من دنياه.
أما بيبو وجرجونة فلم يقيما في نابولي إلا أياما، فركبا القطار إلى باريس، وجرجونة تقول: أما الآن فإنني دوقة عظيمة؛ لأنني أمتلك الملايين! •••
فلندع الأخوين سائرين في طريق الغنى ولننتقل والقارئ إلى مدينة بوندشيري في الهند؛ وهي عاصمة الأملاك الفرنساوية، فندخل قصر حاكم المستعمرة وهو الكونت دي موري، نجد في إحدى غرفه فتاة في الخامسة عشرة من العمر هي ابنة حاكم المستعمرة، واسمها الآنسة بوليت دي موري، وكانت مضطجعة على مقعد، متشحة بثوب من الموصلينا البيضاء، صفراء اصفرارا رائعا كأنها مائتة، ويؤكد الطبيب روبلين أنها نجت من خطر الموت، ولا يتم لها الشفاء إلا بالحمية الطويلة الأمد والوقاية الشديدة، وكان والدها قرب فراشها وقد داخل نفسيهما شيء من الاطمئنان بعد طول القلق والانزعاج.
وكانت على مقربة منهما شقيقة الكونت دي موري، وقد تعودا أن يدعوها: «العمة باسيليك»، وهي فتاة عانس رغبت عن الزواج، وبقيت في بيت أخيها فصحبته إلى تلك البلاد النائية، وقبل أن يخرج الطبيب من غرفة الفتاة المريضة قالت الكونتة: يجدر بنا الحصول على إجازة بضعة شهور نسافر فيها إلى فرنسا، فهواؤها ينفع ابنتي نفعا جزيلا، فقال لها الطبيب: حاذروا أن تفعلوا؛ فالخطر كل الخطر على المصابين بالحميات الهندية في الارتحال عن هذه البلاد قبل أن يتم لهم الشفاء؛ لأن الداء يعود إلى بدء اشتداده ثم يتعذر شفاؤه. فلا بد من معالجته في موضع ظهوره، وإتمام المعالجة عندما يتفق للمصاب به الشفاء وهو أمر نادر جدا! والرأي السديد أن تمكثوا ها هنا ستة شهور أيضا بل سنة، ثم لا أعترض على سفركم.
ولقد شغل مرض الفتاة والدها الكونت عن الاعتناء بأعماله فأحل محله نائبه وهو المسيو جاستون دي فاليير، وكان فتى شهما كريما كثير التردد إلى بيت الكونت، فلما اطمأن فؤاد الكونت من نحو ابنته أراد انتهاز الفرصة ومشاهدة حفلة تقام في ضاحية المدينة، ونعني بها الحفلة الزراعية التي تقام مرة في كل عام، ولوجود الحاكم الفرنسي فيها وقع حسن العائدة على النفوذ الفرنسي، فأمر باستعداد حاشيته لمرافقته، ثم مضى يتبعه «ملطار» خادمه المخصوص بخدمته أو حاجبه، وكان هنديا جامعا لفضائل الهنود، خاليا من عيوبهم، مخلصا لسيده ولآل بيته إخلاصا نادرا. فوصل الكونت إلى مكان الاحتفال، وأراد تأدية الاحترام الواجب لديانة الهنود ومراسيمها؛ فظل متعرضا لحرارة الشمس المحرقة حتى قلق رجال حاشيته، لكنهم لم يجترئوا عليه بإبداء ملاحظة، وقال له ملطار: ليس من الحكمة يا سيدي أن تطيل وقوفك ها هنا، فأجابه الكونت إلى ما أراد وأشار إشارة الانصراف، ولما رجع رأى ابنته أحسن حالا، ولما انقضى قسم من الليل أحس الكونت ببرد شديد، ومن العجب أنه شعر أيضا بأن ألسنة من نار تمر في عروقه كل هنيهة، فنام مضطربا، وأصابه بحران، ولما كان الصباح دخل عليه ملطار، فتراجع عنه مذعورا؛ لأنه رأى وجهه متغيرا وسمعه يشكو من آلام مجهولة، وطالما رأى ذلك الخادم أوروبيين يصابون بذلك الداء الخبيث، وتبدو عليهم أعراضه ثم يهلكون به، وهو قد شاهد منذ ثلاثة شهور تلك الأمراض التي ظهرت على ابنة الكونت، فسارع إلى الطبيب فأقبل من فوره، ولما شاهد الكونت علم أنه أصيب بالحمى الهندية الخبيثة، لكنها لم تظهر بعد، فلا بد من مهاجمتها بالعلاج قبل ظهورها الذي يعقبه استفحالها فاستعصاؤها.
فخطر للطبيب أن يستدرك الخطر بالفرار منه، فطلب مقابلة الكونتة، فقالت له: لقد أبكرت في الزيارة أيها الطبيب، فأجابها: ما أتيت هذه المرة لأعود الآنسة بوليت، فاصفر وجهها وقالت: إذن لأجل من أتيت؟ أجاب: لأجل زوجك، فقد أصبح مريضا، ولا مرض حتى الآن باد، ولكن يبدو بعد حين قصير، ويظهر الخطر إذا نحن لم نستدركه في الحال، قالت: فما عسى أن يكون مرضه؟ أجاب: إنه الذي أصاب ابنتك، قالت: وا حرباه وامصيبتاه!
قال: مهلا ولا تيأسي، وما دامت أعراض الحمى غير ظاهرة فالرجاء باق، ولكن لا بد من ارتحال زوجك في الحال حتى يخلص من تأثيرات جو البلد، ولا بد من سفره بعد ساعة واحدة، وفي هذا اليوم؛ بل بعد ساعة تقلع باخرة مسافرة إلى أوروبا، فلا ينبغي أن يفوته السفر عليها، لئلا يضطر إلى الانتظار أسبوعين حتى يحل موعد سفر باخرة أخرى.
قالت: ولكن زوجي يمتنع عن السفر اليوم، قال لها: لا ينبغي الالتفات إلى إراداته، قالت: وكيف ذلك؟ أجاب: لا بد من تلافي الخطر سريعا. قالت: هيهات، فإنك لا تستطيع التغلب عليه. قال: بل أرى تنويمه، ولا تنكري علي اقتراحي، فهو غريب والعمل به يلقي علينا تبعة ثقيلة، أما أنا فإنني راض بتحملها لأنقذ الكونت، قالت: وأنا أرضى لأنقذ زوجي. قال: إذن أنا أسقيه مخدرا فتأهبي للسفر، واعلمي أن حياة زوجك تصبح غدا في خطر إذا لم يسافر في هذا النهار، وأن حياة ابنتك تصبح كذلك إذا هي سافرت أيضا فتدبري. قالت: ويلاه! لست أستطيع ترك زوجي يسافر بدوني وهو في هذه الحال، ولا مفارقة ابنتي وهي في دور النقاهة. قال: أما ابنتك فلا خوف عليها ما دامت مقيمة ها هنا، والرأي عندي أن تتركي عمتها عندها وتسافري مع زوجك، والوقت لا يتسع للجدال فأسرعي.
وإذ ذاك دخلت العمة باسيليك فأطلعها الطبيب على ما جرى فوافقته على رأيه، وقالت: سافري يا لورانس مطمئنة القلب مع من يهمك شفاؤه، وأما أنا فأبقى قرب ابنتك، وهي الآن نائمة فلا توقظيها ولا تدعيها تعرف بسفرك الآن، بل أنا أمهد السبيل لإخبارها؛ لئلا تزعجها معرفة الحقيقة.
قالت: بل أدخل مخدعها وأقبلها وهي نائمة ثم أمضي، قالت: لا بأس، إنما حاذري أن تستيقظ.
فدخلت الوالدة مخدع ابنتها ولثمت جبينها بطرف شفتيها، ثم اجتذبتها العمة باسيليك، وبعد أقل من ساعة كان الكونت دي فوري وزوجته مسافرين على باخرة قاصدين إلى فرنسا.
وفي ذلك الوقت كان بيبو وشقيقته جرجونة مسافرين على مركبة السكة الحديدية إلى فرنسا أيضا.
الفصل الثاني
كان حمى الكونت دي موري رجلا تتيه به البحرية الفرنساوية؛ لأنه مثال الشرف والإقدام، واسمه الأميرال فيرمن دي لامارش، بلغ الثمانية والستين من عمره، وعمل أعمالا كانت بحار الدنيا ميادينها، فما مر به عام منذ حداثته إلا وشن فيه حربا على الرجال أو على العناصر، فكان السابق إلى أهوال القتال، وكان السابق إلى الخطر والمجد، فلا ترد صفحة من تاريخ البحرية الفرنساوية إلا واسمه مدون فيها بأحرف من ذهب، وزد على ذلك أنه كان طيب القلب، سخي الكف، عادلا، وديعا، محبوبا ومن الضباط التابعين له.
أما زوجته فكانت أصغر منه سنا، ولا تزال عليها لمحة من الحسن الباهر، وكأنها متوجة من شعرها بتاج ناصع البياض، ولم يرزق هذان الزوجان إلا ابنتهما لورانس، زوجة الكونت دي موري، ولا تسل عن شدة حزن تلك الوالدة لما علمت بأن صهرها سيرتحل إلى الهند ليتقلد منصبه فيها، لكنها لم يسعها إلا الامتثال بحكم القدر، ولما وردت رسالة برقية على زوجها الأميرال عن قدوم صهرهما الكونت مع ابنتهما قال الأميرال لزوجته: هل تعلمين من أين جاءت هذه البرقية؟ فأجابته: نعم، فسؤالك يدل على أنها واردة من بوندشيري.
قال: نعم، فهي من ابنتك، ولكنها لم ترد من بوندشيري، أما بوليت، وكانت مريضة كما تعلمين، فهي أحسن حالا، بيد أنها باقية في الهند مع عمتها، أما مصدر الرسالة التلغرافية فمدينة عدن، فاختطفت الرسالة البرقية من يدها وقرأتها وهذه صورتها:
إننا سافرنا فجأة من بوندشيري؛ لأن زوجي روجر أصيب بمرض هائل وقد زال عنه الخطر، وبقيت بوليت مع عمتها في بوندشيري، وهي تتماثل إلى العافية، وسيكون وصولنا إلى مرسيليا يوم 20 يونيو، ونراكم بخير.
لورانس
فعزمت مدام دي لامارش على السفر إلى مرسيليا لتستقبل ابنتهما وصهرهما، أما الأميرال فإن عمله في باريس قضى عليه بالبقاء فيها، فسمح لزوجته بالسفر وحدها.
وبعد تبادل القبلات والتحيات رأت لورانس أن تشاور الطبيب في أمر مرض زوجها خيفة أن يضر به سرعة السفر إلى باريس، فأشار عليه بأن لا يسافر إليها ولكن يقصد إلى هيار، أو نيس، أو مانتون، أو كان، وآثر له المدينة الأخيرة وقال له: أقم في رأس أنتيب؛ فهناك فندق الكاب، وهو يجمع بين الراحة وجودة الخدمة والزخرفة وجمال الموقع والإتقان في كل شيء؛ ولهذا يقصد إليه السياح من كل فج، فأعجبوا بهذا الرأي، ولما انصرف الطبيب كان قد تقرر السفر، وفي اليوم التالي سافروا إلى رأس أنتيب فاكتروا لهم جناحا في هذا الفندق المتسع، وكانت نوافذه تشرف على الخليج وجزر سنت مرغريت ومدينة «كان» وبيوتها البيضاء والوردية اللون، وجبال الألب يتوج الثلج قممها فتتألق تحت نور الشمس كأنها تيجان هائلة الحجم، مرصعة بكتل ضخمة من ألماس، وهو مشهد ساحر لا تمله الأبصار، وكان حول الفندق بستان، فحقول خضراء زبرجدية، ورائحة زهر الليمون والبرتقان تتضوع في أرجاء الفضاء، وحاصل القول: إن ذلك الموضع جنة من جنات عدن، يزيدها رونقا وبهاء كثرة المتنزهين فيها من نساء وأولاد يملئونها بهجة وسرورا.
وكانوا يجتمعون عند المساء فيجلسون إلى موائد الفندق في شرفاته، وينفقون قسما من الليل في أبهاء متألقة بالأنوار، حافلة بالأزهار، غناء بالألحان الموسيقية، والمراقص تتوالى، والحفلات تقام، وبالاختصار كانت أسباب السرور كثيرة، ولا عجب، فالنازلون في رأس أنتيب من كبار السياح وأشراف الناس، وهم سواء في كرم المحتد وسلامة الذوق وسعة الثروة.
وفي أول يوم من وصولهما اتفق أن جلس الكونت دي موري وأسرته قرب امرأة حسناء، لفت جمالها الأبصار ومعها رجل، ظن روجر وزوجته لأول وهلة أنه زوجها، غير أن خدم الفندق كانوا يدعونه عند الخدمة بيا سيدي، ويدعون المرأة بيا سيدتي الدوقة، وبعد العشاء استفهم الكونت دي موري فقيل له: إنهما إيطاليان وإنهما أخوان، واسم الرجل أنيبال بلميري، وأما المرأة فهي أرملة غنية واسمها: الدوقة دي لوقا.
وهنا يجدر بنا أن نخبر القراء كيف وصل بيبو وشقيقته جرجونة إلى هذا الفندق، واختلطا بكبراء الناس، فنقول بالاختصار: إنهما ورثا جياكومو بلميري وقبضا الأموال بعد وصولهما إلى باريس، فاستأجرا قصرا مفروشا، وبدآ يعيشان عيشة أهل الترف والثروة. فلما وافى فصل الشتاء سلكا سبيل الأغنياء والسياح فقدما إلى فندق كاب أنتيب، وطابت لهما الإقامة فيه بين أولئك الأقوام إلى أن انقضت شهور وأشرف الموسم على الانتهاء، وأخذت الدوقة دي لوقا تتأهب للرحيل، وأنبأت أخاها بعزمها، وكان كارها للسفر يقول: حرام مفارقة هذا المكان، فقالت له شقيقته: لا بد من رحيلنا بعد ثلاثة أيام، وكان هذا الحديث ليلة وصول الكونت دي موري وزوجته ووالدتها التي هي زوجة الأميرال دي لامارش.
وقد اتصل بمسامع الدوقة شيء من شهرة الأميرال، فودت لو تعرفت بصهره، وفيما كانت تتنزه في حديقة الفندق في اليوم التالي، تلاقت بالكونت دي موري، فأعجبها حسن منظره وهيبة طلعته، ولم تكن تعرفه، فوقفت، ووقف هو كذلك عند عطفة من عطفات مماشي الحديقة ينظر إليها ويعجب بمفاتنها؛ لأنه لم يتفق له أن رأى من تحاكيها في محاسنها الفتانة. نعم، كانت زوجته ذات حسن وكمال، وكان يحبها حبا شديدا ويحترمها، إلا أن تلاقيه بهذه المرأة أثر فيه تأثيرا لم يستشعره في نفسه قبلا. ذلك لأن الدوقة ذكرت وقتئذ أنها «جرجونة»، فاتقدت عيناها ورنت إليه فكأنها رشقته بسهم نافذ، فلم يتمالك أن مد يده إلى قبعته للتحية، ورفعها إجلالا لما وقع عليه بصره من جمال رائع.
فانحنت أمامه الدوقة، ومرت به وهو واقف مبهوت، إلى أن جلست على شرفة الفندق، وإذا بامرأة اسمها اللادي هلتون، وهي أرملة ضابط في البحرية الإنكليزية، جاءت فجالست الدوقة وحادثتها، وهذه متململة تود أن تخلو إلى نفسها، وفيما كانت تهم بالنهوض رأتها تضع منظارها أمام عينيها وسمعتها تقول: هذه صديقتي زوجة الأميرال دي لامارش.
فانثنت الدوقة فأبصرت امرأتين مقبلتين، وبعد هنيهة عرفتها السيدة الإنكليزية بزوجة الكونت دي موري وأمها، ثم أقبل زوجها الكونت، فتم لهما التعرف بالدوقة دي لوقا على يد حماته.
وبعد حديث دار بين المتنزهين قالت الكونتة لزوجها: ألا تصعد معي يا روجر؟ فقال: إني أفضل أن أبقى هنا، إن الجو رائق، وسألحق بك قريبا.
فانصرفت الكونتة وأمها ومعهما اللادي هيلتون، وبقي الكونت دي موري مع الدوقة دي لوقا منفردين، فلبثا صامتين والهوى يتكلم، إلى أن قالت جرجونة: لماذا لبثت ها هنا؟ وكان مطرقا ينكت الأرض بعصاه فلم يرفع بصره إليها، وأجابها: بقيت لأشكرك ... قالت: وأي صنيع صنعت حتى تقابله بالشكر؟ أجاب: إن جمالك زاد حسن هذه الخليقة البديعة.
ورفع بصره إليها في هذه المرة، فأطرقت هي، فقال أيضا: انظري إلى هاتيك الجبال والغابات والبحار، وكل ما تتجلى فيه عظمة الخالق ويعجب به المخلوق، إنني لم أر شيئا من ذلك قبل أن أراك، أما الآن فيلوح لي أن الأمواج الزرقاء، والأشجار الخضراء، والصخور البيضاء، آيات ناطقة بفضلك، وكأنها تقول لك: أنت أجمل وأبدع. أما أنا الرجل الذي وصل بالأمس، بل الضعيف الصغير بالقياس إلى هذه الأشياء العظيمة؛ فإن فؤادي تعصف به عاصفات الأمواج، وتهب فيه أهوية الجبال التي تطأطئ لها رءوس السنديان فأثني على جمالك الباهر؛ لأن بصري يتمتع به ويثمل.
ولو سمعت الدوقة دي لوقا هذه الكلمات من عاشق آخر لما اكترثت لها، إلا أن عاطفة الهوى أثرت فيها أيضا، فوقعت كل كلمة وقعا شائقا في نفسها، فنسيت أنها الدوقة دي لوقا، ولم يخطر لها ما يجب على من تدعى بهذا الاسم، فاسترسلت إلى اضطراب لذيذ لم تعرفه قبلا وهي لم تعرف الحب الحقيقي، ولم تعجب من ذلك الإقرار المفاجئ، فدار بينها وبين الكونت حديث هوى ومغازلة إلى أن نهضت جرجونة، فأبقى يده في يدها كأنه يعاهدها على دوام ذلك الهوى الجديد. ثم افترقا وقد فهم كل منهما أن تلك الساعة التي أنفقاها معا ستعد من ساعات العمر النادرة، وكل منهما مقتنع أن ذلك الشرر لا ينطفئ دون إحداث حريقة هائلة.
وهكذا أقامت الدوقة دي لوقا في الفندق مدة شهرين أيضا، وقد توطدت بينها وبين القوم أركان صداقة ثابتة متينة، وولاء دائم ... فرجع الكل إلى باريس في قطار معا، ثم اكترت الدوقة مسكنا في شارع فارين، هو ملك الكونت دي موري، وفوق منزله، وكان سروره بذلك الجوار لا يوصف.
الفصل الثالث
أما جرجونة فإنها نزلت في ذلك المسكن القديم وهي لا تسعها الدنيا من فرحها بذلك الفوز العظيم، ولا بد من القول أن الكونت دي موري أجفل من ميل فؤاده إلى الدوقة دي لوقا، وحرص على ما بينه وبين زوجته من الحب الذي أتى عليه ثمانية عشر عاما وهو ثابت على السراء والضراء، ورأت جرجونة منه العفاف والفضيلة، فثار ثائرها وانجرحت كبرياؤها، إلا أنها وثقت من نفسها بالفوز لا سيما وأن من تستوهيه قد غدا على مقربة منها لا يحول دونهما حائل كما كان الأمر في فندق أنتيب، فأخذت تهاجم العلاقة التي بين الزوجين بما لديها من أسباب الفتنة والاختلاب، والحق يقال: إنها كابدت عناء شديدا في الهجوم والنضال؛ لأن تلك الأسرة كانت تتصف بالصدق والفضيلة فلم تضعف عزيمة الكونت دي موري.
أما أخوها فقد عاش بين القوم عيشة الفلاسفة، وكان يجالس الأميرال حمو الكونت، ويتبسط معه في التحدث عن سلك الأبحر والأساطيل البحرية ومقاومة الزوابع والأعاصير ومقاتلة الأعداء، إلى غير ذلك مما يتوق إليه الأميرال، وكان الكل يصغي إلى مثل هذه المحادثة.
وفي ذات يوم كان الأميرال يتكلم، فخرجت زوجته إلى غرفة لتنفرد فيها، وكانت تلك عادتها في كثير من الأحيان، فقال الأميرال: إن زوجتي تحب الوحدة والاعتزال أحيانا، وقد وقع لها ذلك من زمن طويل حتى أشفقت في بدء الأمر على صحتها، ولكنني تعودت ذلك منها وإن لم يذهب قلقي تماما.
فقالت زوجة الكونت في نفسها: لا شك في أن لوالدتي شأنا آخر يجهله والدي وهي تكتمه عنه وعني إيضا ... فلماذا لا تثق بي وتبوح لي بسرها؟
ولقد سنحت لها الفرصة فأمكنها الاطلاع على سر والدتها؛ وذلك لأنها لزمتها منذ وصولها إلى باريس، وأرادت أن تخفف عنها وطأة الشجن، فما لبثت أن غدت سكرتيرتها تراسل عنها الجمعيات الخيرية العديدة، وتفتح الرسائل التي ترد باسم والدتها دون أن تشاورها، وتجيب عنها.
وفي ذلك اليوم بعد المحداثة التي أشرنا إليها في عرض الحديث، تلقت نحو عشر رسائل من البريد واردة باسم والدتها، فلما افتضت ختم الرسالة الثالثة وطالعتها، أخذها انفعال واضطراب وامتقع لونها.
ولقد قرأت لورانس تلك الرسالة مرارا، وها نحن نوردها للقراء بنصها وعنوانها:
إلى السيدة زوجة الأميرال غيرمين دي لامارش
سيدتي
كاتب هذه الرسالة رجل لا تعرفينه، ولكنه يستحق منك الرأفة ويروم مقابلتك.
اسمي يا سيدتي روبر بوريل، وأنت لم تسمعي بهذا الاسم، ومع ذلك فأنا ابن البارون دي كورديو.
ومن ذكر أمامك هذا الاسم كان مذكرا إياك بأمور وأمور!
والذي أراه أنك لا تودين أن أزور منزلك؛ لئلا أنبه فيك تلك الذكرى.
إذن تفضلي إلى بيتي فهو في ناحية دراجون رقم 20 على بعض خطى من شارع فاين.
نعم، أرى الأفضل أن تأتي إلي، فذلك خير من أن أزورك في منزلك؛ إذ يصعب عليك ولا شك أن توضحي لزوجك الأميرال السبب في حضوري.
ومهما يكن من ذلك، يوجد أمر لا بد من إقناعك به؛ هو أن صيتك وهناءك يتعلقان بكيفية تلقيك لهذه الرسالة من المطيع الخاضع.
روبر بوريل
فلما فرغت من قراءة هذه الرسالة قالت في نفسها: «الظاهر أن كاتبها نذل تكفي معاقبته بالسكوت والاحتقار، والأحسن تمزيقها وطرحها في النار. إلا أنها رجعت في الحال عن هذا العزم، وتذكرت ما اشتملت عليه الرسالة من وعيد خفي، وكانت تجهل من هو البارون دي كورديو الذي تعرفه والدتها، فخطر لها خاطر، قالت: إن الله أراد أن أكون المطلعة على هذه الرسالة دون أمي، فلماذا لا أجلو الغامض دون أن أدعها تفهم شيئا؟ فأنا أحل محلها في الزيارة التي تشير الرسالة إليها، والناحية قريبة.
ونهضت لساعتها فخرجت من المنزل قاصدة إلى شارع فارين، ومنه إلى ناحية دراجون، ووصلت إلى البيت الذي عليه رقم 20 وهو بيت حقير جدا، فترددت لما شاهدت من حقارته، لكنها ما لبثت أن طرقت الباب، فسمعت قائلا يقول لها: افتحي.
فدفعت الباب فانفتح، ودخلت بجرأة، فإذا بها ترى أمامها شابا ينظر إليها وهو مدهوش حائر، وبعد ارتباك ظاهر قال لها: من تكونين يا سيدتي؟
فلم تجبه على سؤاله، ولكنها قالت له: أأنت المسيو روبر بوريل؟ فأجابها: نعم، فاجلسي، وأدنى لها كرسيا وحيدا في غرفته، فقالت له: إنك تنتظر زوجة الأميرال فيرمن دي لامارش؟
أجاب: نعم، وإن سرني أن ألقاك، لكنني أعيد سؤالي عليك فإنك لم تجاوبيني عليه حتى الآن، ولا أدري لماذا عهدت إليك زوجة الأميرال بالحلول محلها في المهمة التي استقدمتها لأجلها، ومن مصلحتها أن لا يعلم شخص ثالث بما بيني وبينها، قالت: إنها تجهل زورتي هذه، وستظل جاهلة إياها كما أرجو، وأنا التي فتحت رسالتك، أنا الكونتة دي موري ابنتها.
قال الشاب: عجبا! إذن أنت أختي؟
فظنت لورانس أنه مجنون، ولم تخف بل سرت سرورا كبيرا لانجلاء الغامض، وأيقنت أن كاتب الرسالة المزعجة كان ضائع الرشد، فلطفت صوتها وجاملت من حسبته مجنونا؛ لتعلم ما صوره له ذهاب عقله، فقالت: لم أكن أدري أنني أختك يا مسيو بوريل، فأوضح لي هذه المسألة؛ لأن أبي وأمي نسيا أن يخبراني أن لي أخا ...
فنظر إليها متعجبا من سكينتها، وتوهم في أول الأمر أنها تسخر به، لكنه آنس شفقة في بصرها فأدرك الحقيقة، فقال لها: أنت تحسبينني مجنونا ... أم سكران! ولكنك واهمة، فإن هذه الغرفة الحقيرة لم تدخلها زجاجة خمر من عهد بعيد ... ومع ذلك فإن الفقر والشقاء لم يذهبا برشدي حتى الآن، فأنا لم أقل إلا الحق، وأنا أخوك حقا.
ثم أبرز لها رسائل مكتوبة بخط والدتها، فقرأتها وهي مرعوبة، فلم يبق في نفسها أثر للشك، وإليك تلخيص الخبر: إن زوجة الأميرال فارقها زوجها فيما مضى من صباها ثلاثة أعوام؛ إذ كان في مداغسكر يقوم بمهام منصبه، فارتحلت في تلك الأثناء إلى مسكن قديم لأسرتها في قرية من قرى لورين، فأقامت فيه وحيدة منفردة، ورآها ذات يوم جار لها اسمه دي كورديو، فافتتن بها، وفي ذات ليلة فاجأها وهي في مضجعها فاغتصبها وفر هاربا خجولا من فعلته. إلا أن ذلك الذنب لم ينقض بسفره؛ لأن زوجة الأميرال حملت من دي كورديو وولدت غلاما وسلمته إلى أحد القرويين يربيه، ثم عادت إلى باريس، وفيها علمت بأن والد الغلام رجع إلى القرية وأخذ على عاتقه تربيته ثم ألحقه بنسبه، وما غنم الوالد أن قضى حزينا نادما على ذنبه. وقبل أن يموت أطلعه على سر مولده، وقال له: إذا وقعت في ضنك شديد فالق أمك زوجة الأميرال دي لامارش، فيحق لها أن تسعفك عند الضيق، أما أنا فلم يبق من ثروتي إلا القليل الذي لا يغنيك عن جوع.
هذا ما ذكره روبر لزوجة الكونت دي موري إلى أن قال لها: أنت ترين أنني كاشفتك بما في نفسي، وما تنبأ أبي منه قد تحقق؛ لأنني أضعت ما أورثني إياه من مال قليل، وحاولت كسب رزقي بوسائل عديدة فلم أفلح، وكدت ألجأ إلى الانتحار، لكنني ذكرت ما أوصاني به أبي، فكتبت إلى والدتي الرسالة التي وقعت في يدك بعد أن كدت أنسى أن لي أما ...
قالت: كدت تنسى أن لك أما! ومع ذلك فقد لبثت أعواما دون أن تحاول التعرف بها، ولو كنت في مكانك لسعيت إليها سعي المجد حتى أراها كل يوم عند مرورها، ولرفعت يدي إلى السماء شاكرا لها أنها منحتني أما مثلها.
قال: فهمت كلامك فأنت تشيرين إلى الحب البنوي، وتعتقدين أن المرء يكفيه أن تكون له والدة! ألا فاعلمي أن هذا الوتر لا يهتز في سريرتي، ولئن نظرنا إلى الحب البنوي واختلافه عندي وعندك فذلك لأن لكل منا أما تختلف عن الأخرى، أما أنت فوالدتك تستحق منك كل انعطاف؛ لأنها في نظرك وعطفها عليك وعنايتها بك وتضحيتها راحتها لأجل هناءك، ملك كريم، أما أنا فوالدتي لا تستحق مني إلا عدم الاكتراث، إن لم أقل الكره والمقت، فصاحت تقول: وهل يوجد في الدنيا من لا يحب أمه؟
قال: لك أن تحبي أمك ما شئت، ولكن هل كنت تحبينها لو لم تعرفيها؟ أو لو لقيت منها الإهمال مثلما لقيت؟ نعم، كان يمكن أن أطرح في الأزقة وأنشأ شريدا طريدا، ولا ذنب لي إلا أنها ولدتني، والمحبة البنوية ليست من الحشائش التي تنبت بفعل الصدفة أو الطبيعة، ولكنها غرسة لا تنمو ولا تكبر إلا إذا لفحتها حرارة المحبة الوالدية.
قالت: ولكنك نسيت أن أمك متزوجة، فما عسى أن تفعل لأجلك؟
أجاب: إنها أعطتني الحياة، فيجب عليها أن ترفق بي لأنني مولودها، ولم أقترف إثما لتنتقم مني! ولكن لا نفع من هذا الجدال، ولا أقنعك كما أنك لا تقنعينني؛ لأن كلا منا على صواب فيما يدعي. إنما أريد أن أعلمك أنني لا صبر لي على ما أنا فيه من عسر وضنك، ولا أمنية لي إلا الرحيل عن هذه الديار التي تعودت أن أبغض ما فيها ومن فيها، ولكنني لا أسافر وأنا صفر اليد، بل أريد أن أتزود شيئا من المال لأسعى في الأرض لعلني أغدو من المفلحين.
قالت: فماذا تطلب؟
قال: ما قدر البائنة التي تناولتها من والدتك حينما زوجتك؟
أجابت: لست أدري تماما، ولكن ربما كانت ثمانمائة ألف فرنك. قال: أما أنا فلا أطلب من أمك إلا عشر ذلك المال، ثم أعفيها من كل طلب في الحال وفي الاستقبال، فارتعدت وقالت: مائة ألف فرنك! من أين لي هذا القدر الجسيم؟ أجاب: لست أطلبه منك ولكن من والدتك.
قالت: وهل تظن أنها أقدر مني على التصرف بمثل هذا القدر فيما لو أعلمتها بطلبك؟ - ليس ذا بطلب، ولكنها صفقة أو مساومة على رحيلي وسكوتي؟ - ولكنك تطلب أمرا مستحيلا، وأنت تدري أن النساء المتزوجات لا يتصرفن بأموالهن إلا بموافقة أزواجهن، بمقتضى شريعتنا. - على زوجة الأميرال دي لامارش أن تجد الوسيلة الصالحة للوصول إلى تسوية عادلة لذلك الدين، فهي منذ ما ولدتني قد أصبحت مديونة لي، أما إذا حاولت التخلص من هذا الدين فإنني أعلن خبره على رءوس الملأ.
فصاحت: كلا! ذلك لا تفعله أبدا، وما كنت لتفشو سر والدة أنت تعرف أنها مثلك ضحية تلك الأنظمة الاجتماعية التي لم يسمح لها بالتطور والتقدم ومواكبة سير العلم والاختراع.
قال وعيناه من هذه الأقوال الفلسفية الآن: وإني أقسم بالله على أنني سأفعل ما ذكرته لك. فبهتت المسكينة رعبا وقالت: لو عرفت وسيلة للحصول على الملايين لدفعتها لك، إذن سأبحث لأجد القدر الذي تطلبه ...
قال: لا يهمني أن تبحثي أنت أو تبحث هي، وشرطي الحصول على المال في كل حال، ويوجد وسيلة هينة إن شئت كتمان خبري عن أمك، هي أن تكلمي زوجك الكونت دي موري، فلا يبخل عليك بكل ما تطلبينه منه، فصاحت: حاشا لله أن أخبر أحدا ولا سيما زوجي، والموت أحب إلي من أن أفضح والدتي المحبوبة.
قال روبر: افعلي ما يروق لك شرطا أن تفلحي ... وإني أمهلك يومين، قالت: ولكن هذا مستحيل. - تدبري، فأنا أنتظرك بعد غد ها هنا في مثل هذه الساعة. - لست أريد أن أجيء مرة ثانية إلى هذه الغرفة التي تلقيت فيها ذلك النبأ الفظيع. - فاختاري مكانا غير هذا المكان. - لست أدري! وإنما أنا أذهب إلى كنيسة سن جرمين كل يوم. - لا بأس، أنتظرك في الكنيسة في مثل هذا الوقت بعد غد. - نعم، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - أي شيء يؤكد لي زوال الخطر من نحوك بعد أن أدفع لك المال؟ ألا يمكن أن تعود إلى طلب المال ثانية؟ - لو أقسمت لك لخفت أن لا تصدقيني، ولا يسعني إلا أن أعطيك رسائل والدتك فهي كافية ... فنهضت لورانس وقالت: بعد غد نلتقي في كنيسة سن جرمين في الساعة الرابعة، وانصرفت وهي في أسوأ حال من الاضطراب.
وفي اليوم التالي قصدت إلى حانوت أكبر جوهري في باريس، وهو المسيو سميث المشهور بصدقه، ومن عنده كانت ابتاعت كل جواهرها، فلقيته في الحانوت وأنبأته بأنها تحتاج إلى مائة ألف فرنك دون أن يعلم بها زوجها، وأنها حملت إليه أنفس جواهرها، وطلبت منه أنن يبدلها بجواهر كاذبة حتى لا يرتاب أحد بإبدالها.
فتعجب المسيو سميث من طلبها، وأجابها أن جواهرها تقدر بأزيد من مائة ألف فرنك، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك القدر من المال في الحال، وطلب إليها أن تمهله بضعة أيام بعد أن دفع لها ما عنده من النقود. فلم يسعها إلا إجابته إلى طلبه، وقالت له: والباقي بعد أربعة أيام.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى الموعد المضروب في الكنيسة، فلقيها روبر وقال لها: جئت بالمال؟ أجابت: لا. قال: ومع ذلك فقد وعدتني به، ولعمري إنك أخطأت في إخلاف وعدك لي، ولكن ذلك لا ينفعك، وما لم أفعله منذ يومين سأفعله اليوم، وقبل انقضاء ساعة أكون عند أمك ...
قالت: بحقك لا ترفع صوتك! إنني لم أخلف وعدي إلا مضطرة، وحدثته بما كان من الجوهري، وتوسلت إليه أن يمهلها أربعة أيام، وبعد تردد قال لها: لا بأس، أنتظر ثلاثة أيام أخر، والاجتماع يكون في هذا المكان بعينه، ولكن إذا مضى هذا الموعد فلست أبالي أن أفضحك ووالدتك معا. فابتعدت عنه مسرعة، أما هو فخرج من الكنيسة بعد هنيهة.
الفصل الرابع
وفي ذلك المساء تعشى بعض الأصدقاء في بيت الأميرال دي لامارش، وكانت بينهم الدوقة دي لوقا وأخوها، فلما كانت الساعة الحادية عشرة بعد تناول الشاي، ذهب الضيوف، وكانت الدوقة دي لوقا تقيم في الطبقة الأولى من المنزل، فصعدت إليها وقالت لأخيها: اصعد معي، وكانت عادته أن يلحق بإخوانه من محبي الطرب، فقال لها: يوجد من ينتظرني. قالت: قلت لك اصعد؛ فلي كلام معك!
ومعلوم أن الأخت كانت الآمرة وهو المطيع، فصعد معها، فلما انفردا جعلت تتمشى في المخدع وهو جالس، فقال: الظاهر أن الأمور على غير ما تحبين يا أخية؟ فوقفت أمامه وقالت بغيظ وحنق: قضي الأمر، فما عدت أقيم ها هنا.
أجاب: لم أفهم مرادك.
قالت: إذن فاسمع ما دمت راغبا في معرفة الأسباب. فأنت تدري لماذا انتقلنا من المنزل الأول إلى هنا؟ أجاب: بلا شك؛ لأنني كنت صاحب هذه الفكرة، وكنت أنت عاشقة لحاكم بوندشيري، أي الكونت دي موري.
قالت: بل كنت مفتونة به، ومجنونة، ولا أزال!
قال: إذن فالوقح لا يحفل بهواك! فلم يهن عليها سماع هذا الكلام، وقالت: يا لك من بليد، فإن الكونت دي موري يشعر بمثل كلفي به؛ بل ربما كان أشد عشقا مني.
قال: إذن لم أفهم السبب في عزمك اليوم على الانتقال من هنا وأنت محبة محبوبة، ولم يبق إلا أن تتمتعي بالهناء.
قالت: هيهات! فأنت لا تعرف هؤلاء الأغبياء الذين يدعون شرفاء ونبلاء ! نعم، إن دي موري مفتون بي، وقد أقر لي بهواه منذ أول يوم في ساعة دهش واسترسال، لكنه منذ ذلك اليوم قضى على شفتيه فانطبقتا، وقد يختنق ولا يفتحهما؛ لأنه إذا فتحهما لا بد أن تنطقا بعبارات الهوى والغرام.
قال: لله دره من رجل فاضل إذا صدق ظنك!
قالت: بل كن واثقا بأنه يهواني هوى شغل لبه وقلبه، إلا أن روابط الأنظمة الاجتماعية البالية، وكذلك احترامه لزوجته يبعده عني، وإنني لأبغضها لأنها زوجته، وأرى أنه يحق لها أن تحبه كما أنه يحق له أن يحبها، فكيف العمل؟ فتناول يدها وقال: واحسرتاه عليك يا أخية، فهل تريدين أن أكون لك نصيرا؟
قالت: وما عسى أن تفعل؟
أجاب: لا أقل من أن أزوجك الرجل الذي تحبينه، فحملقت إليه البصر وقالت: ولكن ذلك مستحيل. قال: لماذا؟
أجابت: لأنه متزوج.
قال: ولكن يمكن أن تزول زوجته من طريقك.
قالت: أتقتلها؟ أتقدم على قتلها لأجلي؟
أجاب: على رسلك، فلا تتعجلي، وهل أنا ممن يقتل الناس؟ لا ليس ذلك ما أردته ... ولكن يوجد وسيلة أخرى هي الطلاق.
قالت: الطلاق؟
أجاب: نعم، وأنت تعلمين أن للطلاق شأنا في هذه الديار، وأي شأن، ويزعمون أن نصف ما يسمونه العالم المتمدن راغب في الطلاق للاقتران بالنصف الآخر.
فاضطربت وقالت: صدقت، فلا يسعفني شيء مثل الطلاق، ولكن لا بد له من سبب، وتلك المرأة التي أحتقرها لها سياج منيع من العفاف والصيانة فلا يمكن طلاقها.
قال: وما رأيك في برهان على أنها ليست كما تعتقدين؟
قالت: زدني بيانا. - إن الكونتة دي موري تعشق رجلا غير زوجها. - وكيف ذلك؟ وهل من برهان؟ - لولا وجود برهان دامغ لما كاشفتك بهذا الأمر. فمنذ أربعة أيام كنت خارجا من المنزل فأبصرت امرأة تمشي مستعجلة، وعرفت أنها الكونتة دي موري، فقلت في نفسي إلى أين تمضي؟ فتتبعتها حتى دخلت بيتا حقيرا في زقاق ضيق قذر، فلبثت فيه ساعتين، ثم خرجت وعيناها حمراوان، والظاهر أنها بكت كثيرا في أثناء هذه الزيارة.
قالت: تقول إن ذلك كان منذ أربعة أيام؟ أجاب: نعم.
قالت: إذا لم أكن مخطئة فإن الكونتة زعمت في ذلك اليوم أنها متألمة، ولم تجلس إلى مائدة العشاء.
أجاب: نعم، وفي صباح اليوم التالي خرجت من المنزل وفي يدها كيس صغير، فركبت مركبة إلى شارع «لابيه» ودخلت في حانوت الجوهري سميث، وفي اليوم التالي بعد الظهر، أعني في هذا اليوم، قصدت كنيسة سن جرمين، فهل تعرفينها؟ إنها من أجمل الكنائس. قالت: وماذا يعنيني من أمرها؟
أجاب: وأنا لا يعنيني أمرها أبدا، ولكنني رأيت الكونتة قد ذهبت إليها وانزوت في إحدى زواياها مع شاب يحمل رسائل غرامية، يظهر أنها خطيرة جدا، لأن فيها ما يمس أسرة الكونتة، وقد طلب منها ثمنها؛ مائة ألف فرنك.
قالت: وهل دفعت له الكونتة ذلك القدر الكبير من المال؟ ... أجاب: لا، ولكنها كانت قد وعدته ولم تنجز وعدها، فسخط وتوعدها، وظهر لي أنها رعبت من وعيده رعبا شديدا.
قالت: ولكن لا بد أن يكون ذلك الشاب وغدا ذميما.
أجاب: لا شك! ولكن لذلك الوغد الذميم فضل عليك، وقد كانت الكونتة تتوسل أن يمهلها يومين لتعود حاملة إليه ذلك المال ثم انصرفت، فما رأيك في هذه القصة؟ فارتعدت جرجونة وقالت: إذا صح ما تقوله فإني أستبدل تاج الدوقة بتاج الكونتة قبل انقضاء ثلاثة شهور من تاريخ اليوم، وسوف أدعى الكونتة دي موري.
وقد اختصرنا هذه المحادثة التي دامت هزيعا من الليل، ولما فارق الرجل شقيقته عاهدته على أن تجيبه إلى أول طلب يطلبه منها مكافأة له على هذه اليد التي أسداها إليها، وحاولت أن تفهم غرضه، فقال لها: عندي مشروع لم يتم بعد، وسوف أطلعك عليه فتساعدينني كما أساعدك، وبعد ظهر اليوم التالي بعثت تطلب مقابلة الكونت دي موري، فقالت له: إني دعوتك للنظر في حالة لا تلائم منزلتي، فلا بد من افتراقنا. فلم يتمالك برغم وفائه لزوجته من أن يرتجف هوى وصبابة، وخيل له أنه مصاب بالدوار، ولكنه تجلد وقال لها: إن هذا الفراق الذي تكلمينني عنه يورثني شجنا عظيما، وثقي أن زوجتي الكونتة تشاركني في ذلك الشجن.
ونهض يريد الانصراف، فقالت له: لا تكلمني عن الكونتة دي موري، ولا تدعني أفتكر في هذه المرأة التي تكرهني لأنني أحبك ... والتي أكرهها أنا كذلك، ولا أدري لماذا؟ ولكن يسوءني منك سكوتك عند انكساري وذلي، فلماذا لا تريد أن تقر لي بالهوى؟ أولست حرة الفؤاد؟
أجاب: بلى، ولكنني أنا لست بحر الفؤاد، وإقراري لك بالهوى يجب أن يسوءك، كما يعد خيانة مني للتي لا تريدين أن أكلمك عنها!
قالت: إذن لماذا تنم حركاتك وسكناتك عن ذلك الإقرار؟ إني لأشعر به في عينيك إذ تتقدان، ويديك إذ ترتعدان ونفسك إذ يحترق، ولا شيء فيك صامت إلا فمك، على أن شفتيك تكذبان بصمتهما وهو أفصح من كل كلام.
فأجابها: لئن كذبت شفتاي فإنهما تأتمران بأمر نفس لا تخون زوجة بريئة من كل عيب، وفية كل الوفاء.
قالت: كفى، فلا تكلمني عن وفائها ... فصاح: هل تدرين أن في جملتك هذه التي نطقت بها وشاية كاذبة فظيعة؟
أجابت: ليس ما أقوله بوشاية؛ بل هي تهمة صادقة عرفتها من أخي.
قال: لا بد لك الآن من إيضاح ما تعرفينه أو ما تظنين أنك تعرفينه، وقبض على يد جرجونة بعنف وقال لها: تكلمي.
فتخلصت منه وصاحت: كلا، لست أتكلم؛ لأنك ستقتلها إذا أنا تكلمت بما عرفت، فتراجع عنها مرعوبا ساخطا، وصاح: تقولين إنني أقتلها؟ إذن هي تخدعني حقا! كلا، لا أصدق هذه التهمة.
قالت: لا بأس فقد كذبت لأمتحن حبك، ووشيت بامرأة بريئة لأعرف ما تفعله بمجرمة. أردت أن أسبر غور فؤادك لأعلم منزلتي منه إذا قضى الزمان بأن أحتل موضع زوجتك، والآن عرفت ما كنت أروم معرفته، فيمكنك أن تذهب ولن نلتقي بعد اليوم.
فقال الكونت في نفسه: لا تخلو هذه الوشاية من شيء، وللحال عمد إلى وسيلة أخرى، فقال: إنك إن أردت أن تعرفي ماذا يحدث إذا خلا موضع الكونتة من فؤادي، فاسمعي! إني من الرجال الذين لا يحتملون أن يخونوا أو يخانوا، وأنت أدرى الناس بوفائي لزوجتي، ولكن إذا قضي عليها ذات يوم بأن تزل بها القدم فلا يبقى لها في قلبي شيء من الأسف أو التذكر، ولأقطعن الرابطة التي تجمع بيني وبينها! وكانت هذه المحادثة العنيفة دائرة بينهما وهما يقتربان إلى النافذة اتفاقا دون قصد، وهي مشرفة على إيوان المنزل، وقد ضرب الباب ودخل الجوهري سميث، فلم تتردد جرجونة، بل قالت: إن أردت معرفة الحقيقة فعليك بمقابلة هذا الرجل فإنه قادر على إيضاحها لك. فأطل الكونت من النافذة وقال: إنه الجوهري سميث، ورفع الجوهري رأسه فعرف الكونت وحياه من بعد، فأشار إليه أن اصعد فلي كلام معك.
ثم اطبق النافذة واستدعى خادما فأمره بأن يوصل إليه الجوهري، ثم انثنى إلى الدوقة فقال لها، أرجو منك أن توضحي الآن كيف وصل السر الهائل الذي ترفضين أن تبوحي لي به إلى هذا الجوهري؟
فأجابته قائلة: إن المسيو سميث يحمل مائة ألف فرنك إلى زوجتك التي رهنت عنده حليها؛ لتبتاع بثمنها رسائل كتبتها فيما مضى.
فانحنى أمامها وقال لها: إذا كان ما ذكرته لي صدقا فإنك حكمت على الكونتة، وإن كان كذبا فإنك حكمت على أخيك، ولئن سلم شرف الكونتة دي موري من التهمة فاعلمي أنني سأقتل أخاك أنيبال بلميري غدا، والآن أطلب منك أن تدعيني أفعل ولا تخالفيني فيما أقوله لهذا الشاهد توصلا إلى معرفة الحقيقة.
ثم اتجه إلى البهو ففتح الباب ودعا إليه الجوهري، فجلس، فقال له: لا بد أنك تلاحظ انفعالي، وما ذلك إلا لاطلاعي على سر خطير لك دخل فيه ...
قال: وكيف ذلك؟
أجاب: نعم ... لكنني نسيت أن أعرفك بالدوقة دي لوقا. قال: لقد تشرفت بمعرفتها حين زارت حانوتي مرارا، وابتاعت بعض الحلي.
قال: إذن بقي علي أن أقول لك إن الدوقة التي هي صديقة الزوجين وصاحبة سرها في الأعمال الخيرية، أنبأتني الآن أن الكونتة قد أودعتك بعض حليها للحصول على مائة ألف فرنك تعيرها إياها، فظنت الدوقة أنها تحسن صنعا إلى صديقتها إذا أطلعتني على ما كان؛ لأن زوجتي تكتم مبراتها وحسناتها.
فأجابه الجوهري: ما دمت قد تكرمت أيها الكونت فاتخذتني شريكا لك في هذا العمل فلا بد لي من أن أقر لك بأمر: إن الدوقة قد أنبأتك بالحقيقة؛ لأن زوجتك طلبت مني مائة ألف فرنك كان ينبغي أن أسلمها إياها غدا، إلا أن الذي وعدني بالمال لم ينجز وعده، فجئت الآن لأطلب إليها أن تمهلني بضعة أيام.
وهكذا جاء كلام الجوهري مطابقا لما ذكرته الدوقة عن القرض، فلم يشك الكونت في أن السبب هو ما أشارت إليه الدوقة، فشعر بطعنة خنجر أصابت فؤاده، لكنه تجلد وابتسم وقال: ذلك لا يغير شيئا من هذه المسألة، وقد خطر لي تسهيل المهمة الخيرية حتى لا تحبط مساعي الكونتة، وسوف ترى أن ذلك من أيسر الأمور، لا شك أن حلي الكونتة باقية في حانوتك، فتكرم بإحضارها.
قال: عفوا أيها الكونت فتلك الحلي معي، وقد جئت بها لئلا ترجع الكونتة عن رأيها عند علمها بأنني غير قادر على إحضار المائة ألف فرنك لها في الموعد الذي ضربته؛ إذ ربما تروم أن تفاوض غيري. قال الكونت: إذن قد تيسر الأمر وربحنا الوقت، فأعد إلي الحلي فأعطيك ذلك المال تسلمه إلى زوجتي دون أن تنبئها بمصدره، وهكذا يتم لها ما أرادته من عمل الخير ومواصلة الإحسان والبر، ولا تنتقل حلي الأسرة وجواهرها من مكانها.
فأجابه: الأمر إليك إيها الكونت، وقد سرني هذا الاتفاق؛ لأنني - ولا أكتم عنك - كاره لمثل هذه الأعمال ... فإليك الحلي ...
قال: أما أنا فبعد هنيهة أوافيك بالمال المطلوب، فانزل إلى الطبقة الثانية من هذا المنزل والحق بي إلى غرفتي، وإياك أن تتلفظ بكلمة عما جرى بيننا. فحياه الجوهري ومضى. فانثنى الكونت إلى الدوقة وقال وصوته يتهدج وكلماته تتقطع: إذن كان ذلك حقا ... لقد خانتني الكونتة وأهانتني وكستني عارا، فويل لها من شقية، خدعتني وأنا أحاول التغلب على هوى ملك حواسي وأنكرته على نفسي، وكل ذلك تشبثا بالفضيلة وحرصا على فؤادها الكاذب!
فرثت له جرجونة وقالت له: خفض عنك ولا تحزن! فأثر فيه صوتها، وفكر في وجوب الانتقام لنفسه وشرفه، فقال لها: نعم، قد هدأ جأشي، ولكن اذكري لي اسم شريك المجرمة، أجابت: لست أعرفه.
قال: حاذري من الكذب، ولا فائدة من الرأفة بعد اطلاعي على ما كنت أجهل، فاذكري لي ذلك الاسم.
قالت: أقسم لك على أنني أجهله.
قال: إذن سوف أعرفه أنا ... فإلى أين تنوي حمل ذلك المال؟
أجابت: ذلك يمكنني أن أقوله، فغدا عند الساعة الرابعة تلتقي بالرجل في كنيسة سن جرمن، وهو يسلمها الرسائل هناك، كما تسلمه هي المال.
قال: ويل لهما! أفي كنيسة يقدمان على مثل تلك الصفقة الفظيعة! ويل للشقيين! وخبأ وجهه براحتيه، ثم سكن ثائره رويدا رويدا وقال: إلى الغد. ففيه أرقب تلك المرأة الساقطة وأتتبع خطاها حتى أراها تجتاز عتبة الكنيسة، وأشهد تبادل الرسائل والنقود وأنا مختبئ صامت ... لأنني سأكون في معبد مقدس، ولكن حين خروجهما منه سأستخدم حقوقي!
قالت جرجونة: لا تنس أنك حلفت لي على أن تبقي على حياتها.
أجاب: حقا إنني حلفت أن لا أقتلها، ولكني لم أحلف على عشيقها، إذن سأقصي المرأة وأقتل الرجل.
فارتجفت فرحا وقالت: وماذا تفعل بعد ذلك؟ هل تذكر أنني أهواك؟
وبعد هنيهة نزل الكونت، ولقي الجوهري سميث في غرفة مكتبه، وأعطاه تحويلا على المصرف بمائة ألف فرنك. فقال الجوهري: إني ذاهب لأقبض المال في هذه الساعة وأعود إلى هنا.
قال: أحسنت أيها العزيز، فإن امرأتي يسرها الحصول على المال قبل الموعد، فمضى سميث بعد أن وعد الكونت مرة ثانية بالكتمان. •••
وفي ذلك الوقت بعينه، كان الخادم الهندي «ملطار» يحمل إلى الكونتة بطاقة عليها اسم زائر هو روبر بوريل، فارتعدت فرائصها من هذه الزيارة، وأوجست منها شرا، لكنها قالت: ليدخل يا ملطار، إنما لا تدع أحدا يأتي إلى هنا قبل ذهابه.
الفصل الخامس
وكانت الغرفة التي أدخل إليها روبير بوريل في الطبقة الثانية من المنزل، وقد اتخذتها الكونتة ووالدتها مكتبا، فكانتا تصرفان فيها كثيرا من الوقت، ولحسن الحظ أن زوجة الأميرال لم تكن فيها حينئذ. فلما وصل روبر قالت له الكونتة : كيف تجرأت على المجيء إلى هنا؟ ألم يكن موعد اللقاء بيننا غدا في الساعة الرابعة لأسلمك المال؟ ألم تقسم على أن لا تدخل بيت زوجي فقد يجيء إلى هنا ...
قال: وماذا يهمني زوجك؟ فلسنا نخشاه، وما أنا بعاشق لك! ... - ولكن لو سألني عنك، فبماذا أجيب؟ - عليك أن تقولي له إن زيارتي لا تعنيه، وأن تبرهني له على ذلك. - وكيف أبرهن له؟ ألا أضطر إلى إطلاعه على الحقيقة؟ - بلا شك. - وهل يهون علي أن أهين أفضل النساء لدي فألقي على أمي تلك التهمة الثقيلة فأفشي سرها وأمزق فؤاد زوجها؟ ألا فاعلم أنني أوثر على ذلك اتهام نفسي دونها وحسبانك عشيقا لي لا شقيقا!
فتبسم روبر وقال: هذا إخلاص حميد، ولكن عليك أن تختصري مدة زيارتي ما دمت تخشين خطرا.
قالت: تكلم، فماذا تريد؟
أجاب: إن تأخرت عن إنجاز وعدك أحبطت تدابيري، وإذا لم أدفع المال إلى مصرف أميركي غدا قبل الظهر فإن العقد الذي أعتمد عليه في الإثراء قد يلغى ويغدو معدوما. - ولكنك تدري أن ذلك المال ليس في يدي الآن، ولا يسلم إلي إلا غدا. - نعم، غدا صباحا، ولذلك أتيت لأقول لك أن لا تؤجلي دفعه حتى بعد الظهر، ولكن أوصليه إلي حين قبضه. - لا بأس، غدا صباحا أحمله إليك ...
ولم تتم جملتها؛ لأن الباب انفتح وقتئذ، ودخل ملطار، فقال: شخصا يدعى المستر سميث أتى ليسلم سيدتي شيئا، ولكنه لم يشأ أن يضايقها فعهد إلي بتسليمها ذلك الشيء الذي كان يجب أن يسلمه الجوهري إليها غدا صباحا.
فتناولت الكونتة منه رزمة أوراق مالية، فتهلل وجهها، وأدرك روبر السبب فاهتز انفعالا؛ لأنه رأى الثروة واصلة إليه، وكاد يثب إلى رزمة الأوراق ويختطفها وينطلق بها، إلا أن وجود الخادم الهندي حال دون ما أراد، وقد بقي هذا الخادم واقفا، فقالت له الكونتة: قل للمسيو سميث إنني شاكرة له صنيعه وغدا أقابله، فلم يتحرك الخادم، فقالت الكونتة: ماذا تنتظر؟
أجاب: إن والدتك تروم الدخول، وهي الآن في الحجرة المجاورة، وها هي قد أتت ... فألقت لورانس رزمة الأوراق المالية على خوان.
أما روبر فقال في نفسه: الظاهر أنني سأرى والدتي، ولا يسوءني أن أراها لأعرف كيف تكون الأم! ولكنه لم يستشعر إلا فضولا ذهل به عن الأوراق المالية عندما دخلت والدة الكونتة وقالت: لقد أتيت قبل الوقت الذي عينته لنفسي ...
وإذ ذاك لاحظت وجود رجل غريب، فقالت لابنتها: ما أنت وحدك؟ إذن أتركك وبعد هنيهة أرجع إليك.
إلا أن روبر حياها بإجلال، فحيته بإيماءة، وتفرست في وجهه وهي صامتة، فقالت الكونتة تعرفها به: «إنه المسيو روبير بوريل يا أماه.»
فقالت: ألم أر الرجل عندك قبل الآن؟
فأجابها روبر قائلا: كلا يا سيدتي، لم أكن أرجو المثول بحضرتك والوصول إلى هذه السعادة، وكان صوت روبر يرتجف لشدة تأثره عند رؤية أمه، فقد أورثه ذلك التلاقي اضطرابا جديدا، فلاحظته أمه زوجة الأميرال، فقالت وهي تبتسم لتشجيعه في موقفه: لم هذا الانفعال؟
فأجابها: إنه ناجم عن عظيم تقديري لأعمالك الخيرية وصيتك البعيد المدى. - ألا تغال يا سيدي، والمرء لا يفعل خيرا بمقدار ما يجب عليه.
فقال بلهجة التهكم: إن ابنتك قد شذت عن هذه القاعدة شذوذا لا مثيل له في النبالة، فهي الكريمة المحسنة التي تأتي الأعمال الصالحة بالنيابة عن غيرها.
قالت: لست أعجب من لورانس إذا صنعت ذلك، فحدثني به؛ لأن ابنتي تكتم عني حسناتها. فهم بالكلام، إلا أن الكونتة اعترضته قائلة: لا فائدة من ذلك، فلا تقل لأمي ... إني أتوسل إليك! ... فانحنى روبر وقال: لا تخافي أيتها السيدة، فإنني لا أتكلم عن إحسانك إلا بما ينبغي الإشادة بذكره. ثم التفت إلى زوجة الأميرال وقال: إن المسألة تتعلق بوالدة تركت ولدها ...
فاصفر وجه مدام دي لامارش، وقالت: تركت ولدها؟!
قال: نعم، أعني ابنتها ... وأراد أن يحول ظنون مدام دي لامارش بقوله ابنتها حتى لا تظن أنها هي المقصودة بالكلام، ثم قال: إن ابنة المرأة التي تركتها والدتها كبرت محرومة حنوها، وعاشت منفردة خالية إلى أشجانها، وأتاح لي القدر أن أعرف الكونتة دي موري لتأخذ بناصر تلك الابنة المنحوسة، وتحل عندها في التعزية وجبر القلب محل تلك الوالدة الشاذة عن كل الأمهات ...
فلم تدعه زوجة الأميرال يتم كلامه، بل قالت: إن هذه الكلمة التي تلفظت بها عن والدة؛ قاسية جدا، وربما كانت تهمة باطلة، فصدقني يا سيدي، وارث للأمهات اللواتي قضى عليهن واجبهن الاجتماعي العتيق الصارم بأن يفارقن أولادهن، إنهن أحق من كل إنسان بالرأفة؛ إذ لا يوجد ما هو أمر ولا أفظع من لوعة أم تضطرها هذه الواجبات التي أملتها أنانية البشر على عقول الطبقات المحكومة من الناس وأسمتها شرائع وقوانين، إلى ترك حشاشة كبدها وحرمانها تلك العاطفة الوالدية التي تكفكف بها عبرات ولدها وترصد ابتسامته الأولى! ألا فكر في شقائها، فإنها لا تسمع صوته ولا تتلقى قبلة من شفتيه ولا تراه أبدا، وزد على ذلك ما هو أدهى وأنكى؛ فإنها لا ترجو أن تراه ذات يوم، ولا تدري إذا كان يقاسي البؤس والشقاء بعيدا عنها، ذلك لا يطاق يا سيدي، وحرام عليك أن تتهم والدة ثكلى، فخير لها أن تعلم بموت ولدها من أن تحرم لقاءه إلى الأبد.
فصاحت الكونتة: ما هذا الكلام يا أماه؟! وهل تؤثر والدة موت ولدها على حرمانها لقاءه؟!
أجابت: نعم، فإنها تعلم إذ ذاك أنها إنما ترثي لنفسها وتبكي على نفسها، وأن الله قد أنقذ ولدها من نكد الدهر وشقاء الحياة، ذلك خير لها من اليأس والبكاء سرا، وتصور ولدها يناديها في جوف الليل متألما ويطلبها ويستنجد بها، وهي عاجزة عن إسعافه. فمن الظلم الفادح أن نقسو على أم منكوبة، وإنما يحسن أن نسأل الله أن يقصر أيامها ويصرم أجلها!
فلبث روبر جامدا مبهوتا وقد تبدد ما كان يضمره من حقد على والدته، وبردت نار ضغينته، وعلم أنه كان مخطئا في اعتقاده، جائرا في حكمه إذ ظن أن والدته تركته غير مكترثة له، أما الآن فعلم أن جرحها دام لا يندمل، وأن عبراتها لا تجف لوعة وتحسرا، فقال: ولكن كيف تفعل الأمهات لاحتمال شقائهن بعد فقدهن لأولادهن؟
فرفعت العجوز رأسها وقالت: لقد عرفت منهن من قتلها الأسى، وأعرف واحدة منهن لو ظهر عارها لقتلت نفسها.
فأشرف نور على ذهن روبر، وأمسك عن الإفصاح، وخاطب والدته بقوله: لئن كان الأمر كما تقولين، فقد جرت في الحكم وكنت من المخطئين، ولو عرفت تلك الامرأة التي حدثتك عنها منذ هنيهة، أو لو قدرت على مخاطبتها كما أخاطبك الآن لقلت لها: إنني نادم على جوري في الحكم فاصفحي عني.
ثم لم يتمالك أن ثنى ركبته أمام والدته، فأشارت إليه بالنهوض، وقالت: تكرم فأعد كل ما سمعته مني على مسامع تلك الابنة التي تركتها أمها، وكنت تدافع عنها منذ هنيهة، فلعلها تعدل عن أن تتهم والدتها بالإعراض عنها كما كنت تتهمها أنت.
وبعد أن تلفظت بهذه الكلمات خرجت من الغرفة، فمدت الكونتة يدها إلى روبر وقالت له: كيف رأيت يا أخي؟
فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: من لي بأن أرتمي على صدرها وأن أناديها «بيا أمي!» فويحي لقد كنت ابنا عقوقا شقيا، وويل لي أنني لبثت ألعنها سنين!
قالت: والآن لا نضيع الوقت يا روبر، فالمال الذي وعدتك به حاضر ... فخذه، وعسى أن يأتيك بالثروة الكبرى التي ترجو الحصول عليها. خذ هذه الأوراق المالية، بارك الله لك فيها، ورأته يتردد، فقالت له: إليك المال!
فاخرج من جيبه غلافا فيه رسائل بخط زوجة الأميرال إلى المرضع التي أرضعت روبر، وفيها تقر بما كان من حملها به؛ أي إن فيها سر مولده، فدفعه إلى شقيقته وقال لها: إليك الرسائل. ثم أبى استلام الأوراق المالية قائلا: لقد كانت الصفقة التي عقدتها معيبة يا لورانس، وما كنت لأبيع رسائل والدتي بعدما رأيتها وشاهدت آلامها ...
فتأثرت الكونتة من إبائه وصاحت: بل خذ المال يا روبر، فما هو بثمن رسائل أمك، ولكنه من أختك التي غدت تحبك الآن.
فصاح قائلا: وأنا غدوت أحبك يا لورانس من صميم فؤادي.
واجتذبها إليه وأخذ يقبلها بلهفة وحنان أخوي حقيقي، وإذ ذاك فتح الباب، ودخل الكونت دي موري، ولما سمعت الكونتة صوت الباب يفتح تخلصت من يدي أخيها ورأت زوجها، فقالت وهي مضعضعة الحواس: هذا زوجي!
أما الكونت دي موري فتقدم إليها وهو ممتقع اللون، ودفع لها صندوقة حليها وقال لها: هل تعرفين هذه العلبة؟
أجابت: أظن أن جواهري فيها.
قال: نعم، وهي التي رهنتها لتدفعي إلى هذا الرجل ثمن رسائل، وما دمت قد دفعت المال وفككت الرهن عن الجواهر، فمن العدل أن تئول إلي تلك الرسائل، فسلميني إياها!
فوثب روبر إلى غلاف الرسائل وصاح: كلا! فإنك لا تحصل عليها لأنها لي وحدي، ولا يحق لأحد أن يأخذها مني، فنظر كل من الرجلين إلى الآخر، وارتمت لورانس بينهما، وقالت: أي شك خامر نفسك يا روجر؟
قال: أتجسرين على هذا السؤال بعدما لقيتك بين ساعدي الرجل يضمك إلى صدره؟ إني أطلب منك رسائل تفتدينها بمال كثير وترفضين، ثم تتجرئين بعد رفضك على أن تسألي عما يريبني منك؟ إنك لمجنونة، فأعطيني الرسائل!
فصاحت الكونتة، احرص عليها يا روبر، فلبث روبر في مكانه جامدا عازما على الدفاع عن سر والدته ولو هلك. فتعاظم حنق الكونت وقال: لئن كانت هذه الرسائل السلاح الوحيد الذي يعجبني أن أشهره على زوجتي، فيوجد سلاح آخر أشهره عليك أنت، فحاذر! وأخرج من جيبه مسدسا، فاكتفى روبر بأن ابتسم، فحاولت لورانس إطفاء ذلك الغضب، وترامت على قدمي زوجها تقول له: وبحق ابنتنا اصغ إلي، فما تطلبه أمر فظيع لو أطعتك فيه لكانت طاعتي نذالة بل جريمة.
فهدر وزمجر، وقال لروبر: هات الرسائل يا رجل وإلا فأنت مقتول! ورفع يده بالمسدس، فصاحت وهي طائرة الفؤاد هلعا ورعبا: لا ترتكب جريمة يا روجر، ولا تقتل بريئا، بل اسمع أنبئك بكل شيء.
قال: علي بالرسائل أولا لأقرأها ثم أسمع.
قالت: نعم ستقرؤها وتعلم أن الذي تحسبه عشيقا لي إنما هو ... ولكن الباب انفتح وقتئذ، ودخل الأميرال وزوجته وقد سمعا اللجب، فقال معا: ماذا حدث؟
أما الكونتة فإنها لما رأت والدتها توقفت عن الاعتراف بحقيقة الأمر، فقال الكونت: حدث أن زوجتي خانتني، وإنني فاجأت ابنتها وهي على صدر عشيقها هذا.
قال الأميرال: عشيقها! وقالت زوجته: ذلك مستحيل! ذلك غير صحيح!
فقال الكونت أيضا: لم أشأ الانتقام، الذي يحق لي، إلا بعد أن أطلع على المراسلات التي تثبت الجريمة ... فرفض الاثنان تسليم الرسائل، ولكننا الآن قادرون على أخذها منهما، وسوف تقرؤها أيها الأميرال وتحكم على ابنتك وشريكها في الإثم. فقال روبر: أيقرؤها هو؟
أما لورانس، فصرخت رعبا وتراجعت خطوة إلى الوراء، فاقتربت من روبر، وقالت: كلا، ذلك لا يكون أبدا!
فقال روبر أيضا: ذلك لا يكون أبدا! وكان محدقا في وجه والدته، وقد استشعر عاطفة عليها وود لو يبذل الروح فداء عنها، وإذا بالكونت قد صاح به يقول: لا بد من الحصول على الرسائل أيها النذل، وهم بالهجوم عليه.
فأتى روبير بحركة سريعة، وطرح الرسائل في الموقدة، وقال: خذها من النار إذا استطعت. فزمجر الكونت دي موري ووثب إلى النار، إلا أن روبر كان إليها أسرع فقذف فيها الرسائل، وفي أقل من لحظة صارت رمادا، فاستشاط الكونت غضبا، وأطلق عليه رصاصة، فخر صريعا وهو يقول: إنك قتلتني ولا سلاح معي لأدافع به عن نفسي، فأنت قاتل أثيم!
ثم سكنت حركته، ولم يتلفظ بكلمة أخرى؛ لأن فمه امتلأ دما وفارقته الروح، فصرخت لورانس: إنه مات!
فقال الكونت دون اكتراث: بقي عليك أن تتلفظي بما هو خير من الرسائل، فبرئي نفسك إن استطعت!
وقالت أمها: نعم، تكلمي بالحقيقة.
وقال الأميرال: أنا أبوك آمرك بالتكلم!
قالت: اسكتي يا أماه فأنت لا تعرفين ما تطلبين مني، ولا تعرفين أي عذاب أكابد!
فقال لها الكونت: ألا تتكلمين؟
وقالت لها والدتها وهي تنتحب: دافعي عن نفسك يا ابنتي، وأزيلي عنك وصمة الشك يا حبيبتي! فنظرت إلى والدتها مليا تتفرس في وجهها، ثم انثنت إلى زوجها وقالت بعزيمة: لك أن تفعل بي ما تشاء يا روجر، وأن تقتلني إذا شئت؛ لأن هذا حقك الذي تواضع الناس عليه، ولكنني لا أقول كلمة.
فأجابها بصوت يتهدج غضبا: ذاك لأنك مذنبة، ولأن هذا الرجل كان عشيقك، فاخرجي من بيتي، فإني أطردك منه الآن.
وقال أبوها: أما أنا فإنني أستنزل عليك لعنة الله!
ومد الشيخ يديه ورفع رأسه حين تلفظ بهذه الكلمات، فكان خصما وقاضيا وجلادا في وقت معا.
فصرخت المسكينة يأسا، وجعلت يديها على جبينها، ولبثت كذلك حينا، فلما رفعتهما كانت تتبسم ابتسامة غريبة، وقالت بسكينة تامة: إنه كان حبيبي فعلا، وظهرت عليها أمارات الجنون، فقد اضطرب عقلها لشدة جزعها حينئذ وظنت نفسها مجرمة حقا، إلا أن جنونها كان محصورا في موضع واحد، فكانت صامتة تقول بين فترات الوقت: «إنه كان حبيبي وعشيقي!»
ولما دعي قاضي التحقيق للتحري عن أسباب مقتل روبر وقفت بحضرته كشاهد وكانت خافضة الرأس، فقال لها قاضي التحقيق: هل تعترفين بعلاقات غرامية نشأت بينك وبين الرجل الذي قتله الكونت دي موري؟
أجابت: نعم، أعترف بذلك.
فأشار إليها بالانصراف، فمضت واضطجعت على فراشها، ولبثت وحيدة؛ لأن والديها خرجا من المنزل دون أن ينظرا إليها، حتى إن والدها أبى أن يسمح لزوجته بتقبيل ابنتها قبل خروجهما، وكانت إحدى الوصائف تعتني بلورانس، إلا أن هذه الوصيفة كانت جديدة في المنزل ولا تسعفها إلا قليلا، ولم يبق لها إلا صديق واحد هو الخادم الهندي ملطار.
وكان هذا الخادم - كما قلنا - مخلصا للكونت وزوجته كل الإخلاص، لا سيما وأنه ربى الفتاة بوليت ابنتهما، وكان صديقا للعائلة في زي خادمها الأمين. •••
ولنعد الآن إلى جرجونة وأخيها؛ فإنهما لزما العزلة حتى يوم المرافعة في القضية التي أقامها الكونت على زوجته، ولم يلتق الكونت بالدوقة دي لوقا إلا مرة واحدة، فكان تلاقيهما خاليا من ظواهر الهوى الذي اضطرمت نيرانه في فؤاديهما حينا ما، لكنها تحققت من وراء ذلك أن المستقبل لها.
وقد أسفرت القضية عن تبرئة القاتل بعد إقرار زوجته بأن القتيل كان عشيقها!
وبعد صدور الحكم بيوم أقام الكونت قضية طلاق على زوجته، وبعد ثلاثة شهور صدر الحكم بفسخ زواجه دون أن تحاول لورانس دفاعا عن نفسها، وبعد أربع وعشرين ساعة من صدور الحكم تلقت أمرا بخروجها من المنزل، فطأطأت الرأس في هذه المرة أيضا، وفارقت ذلك البيت الذي ذاقت فيه طعم الهناء، وولدت فيه ابنتها الوحيدة!
وهكذا بات الكونت روجر دي موري حرا، وغدت الشهيدة المسكينة مطلقة تجرع كأس لوعتها وعذابها دون ذنب جنته سوى حرصها على سر أمها.
الفصل السادس
مضى خمسة شهور، فنحن الآن في عام 1885، وقد انفصلت لورانس عن زوجها وأقامت في منزل صغير في شارع فرنسوا الأول، وأدى الطلاق إلى حصول كل من الزوجين على ماله الخاص، فأرجع إليها الكونت مالها وهو يكاد يبلغ مليون فرنك، فعزمت على أن تسعف به الفقراء.
ومما زادها غما وشجنا أن والديها بقيا مصرين على الامتناع عن مقابلتها، فقالت في نفسها: هذا ما لا أطيقه، فلا بد لي من أن أراهما ولو طرداني.
وفي ذات يوم استجمعت شجاعتها وذهبت إلى بيت والديها وطرقت الباب، وقالت للخادم: أبلغ السيدة دي لامارش أن ابنتها تروم مقابلتها، فقال لها الخادم: تعذرني سيدتي، فإنني لا أستطيع إجابتها إلى هذا الطلب.
فقعدت على درج السلم نحو ساعة إلى أن قال لها الخادم وصوته يرتجف انفعالا: لا بد من ذهابك يا سيدتي، فإنني أنبأت الأميرال بحضورك وكانت والدتك جالسة بقربه، فقال لي: لست أعرف المرأة التي تتكلم عنها، وهو ينتظر انصرافك ليخرج من البيت؛ لأنه لا يريد أن يراك.
فبكت لورانس، فقال الخادم: أما والدتك فنظرت إلى زوجها نظرة ترقق قلب الصخر وأشارت إشارة إليه، إلا أنه لم يحفل بها؛ بل أمرني أن أفعل كما قال.
فنهضت لورانس وعادت إلى بيتها، فلما فتحت لها خادمتها الباب، وكانت جديدة عندها، قالت لها: في البهو رجل ينتظر سيدتي منذ ساعة، وعليه ملابس غريبة، ويقول: إن سيدتي تعرفه، فأدخلته ينتظرك هناك.
فلما وقع بصرها على ذلك الرجل عرفت أنه ملطار، الخادم الهندي، فصاحت دهشا، فقال لها: إنني أتيت إلى هنا دون أن يعلم أحد بقدومي، فأجابته: شكرا لك يا ملطار، فقد بقي في الناس من لا يزال يعطف علي.
ثم قالت له: تكلم وقل لي لماذا أتيت اليوم ولم تأت قبلا ؟ فلا جرم أن وراءك خبرا جديدا هاما.
قال: لسيدتي فضل على ملطار لا ينساه، وهو يعرف أنها محزونة، ويظن أنها لا تستوجب ما هي فيه، وقد جرت حوادث تقضي على سيدتي بأن تتكلم ...
قالت: فما عسى أن أقول، وأنت تدري بإقراري؟ أجاب: نعم أدري، إلا أنني لا أصدق ذلك الإقرار. - إنني اعترفت بالحقيقة. فقل لي، ما تلك الحوادث التي تشير إليها؟ - سيدتي، إن سيدي سيقدم على عمل هو الجنون بعينه، ولعل الحزن حمله عليه، أفلا تذهب سيدتي لتمنعه من ذلك العمل؟ - أوضح يا ملطار! - إن سيدي يحب امرأة أخرى يظن أنها تحبه، فهو عازم على الاقتران بها!
فصاحت: ولكن ذلك مستحيل! ثم خطرت في بالها الدوقة دي جرجونة، فقالت: أيريد أن يتزوج من تلك المرأة؟ أليس الأمر كذلك يا ملطار؟
فأدرك مرادها وأجاب: نعم، تلك المرأة.
فوقفت وقالت: ولكن هذا عمل سافل! وإنما كان يجب علي أن أتوقعه؛ لأنني محكوم علي، وقد شحذت بيدي السكين التي تمزق فؤادي، ويحي، إنهما متحابان من زمان، وقد لاحظتهما ولكنني كنت أكذب بصري، وألوم نفسي على الشك فيهما، أما الآن فقد فهمت لماذا سارع إلى الاعتقاد باجترامي؛ ذلك أنه شعر بخيانته لي سلفا فلم يكن قادرا على الوثوق بأمانة زوجته التي يشهد لها سبعة عشر عاما مضت على هوى صادق، وعلمت كذلك لماذا بادر إلى قتل من حسبه مغتال شرفه؛ إنما قتله ليخلو المكان لعشيقته وقد كانت تنتظره ... ولم يقتلني أنا لئلا تأنف الزوجة الثانية من الاضطجاع على فراش ملطخ بدماء الأولى. رباه، هذا كثير!
ولما رأى ملطار اضطرابها قال لها: ولكن إذا لم يكن اتهامك نفسك حقا فإن سيدي يندم ولا يتزوج تلك المرأة! فهدأ ثائر حنقها، وبعد تردد قالت: هذا صحيح.
وعادت تقول كما كانت تقول في ساعات جنونها السابق: «إنه كان عشيقي!» وخرت على الأرض مغمى عليها. •••
إن الكونت دي موري لبث مقيما في منزله بعد ذهاب لورانس، إلا أن المنزل بات كأنه في حداد، ولاحظ ذلك أنيبال فقال لشقيقته: خير لنا أن نعود إلى منزلنا السابق، فإنني أستشعر الموت حائما على هذا البيت منذ ما قتل فيه رجل.
قالت له: أوضح فكرك. قال: إنني والحق يقال قد ندمت على ما كان مني، فلو لم أقل لك شيئا عن ذلك الرجل الذي قتله الكونت لما قتل، وذلك القتيل المسكين لم يسئ إلينا قط، وما من سبب كان يحملنا على الإساءة إليه.
قالت: وهل يوجد عداوة بين الجنود الذين يطلق النار بعضهم على بعض في المعارك؟ إن الحياة نضال دائم يختلف أشكالا، فويل للمغلوبين، وحبذا الغالبون!
قال: ولكنا لسنا بغالبين كما تزعمين.
قالت: اصبر ثمانية أيام فقط وسوف ترى. •••
وفي ذات يوم زار الكونت دي موري الدوقة، وكان كأنه يمشي ويتكلم في نومه، فلما رأته جرجونة ملئ فؤادها سرورا، غير أنها تجلدت فلم يبد عليها شيء من الفرح، فخطبها إلى نفسها، وأجابته إلى طلبه، فأظهر رغبته في تعجيل الأهبة للزفاف، وهو في الحقيقة يحاول الانتقام من لورانس بإحلال امرأة أخرى محلها في بيتها وتسميتها باسمه دونها. ففي ثلاثة أسابيع تم كل تأهب، إلا أن الكنيسة
1
لم تعقد الزواج، فاضطرت الدوقة إلى الاكتفاء بالعقد المدني، وكانت مستاءة من أن الحفلة لم تكن دينية، فقالت لأخيها: لو شئت لأخذت عشرة وأكثر من العشاق دون حاجة إلى استئذان رجال الدين، غير أن الزوج وهو واحد يخيفني ولا أدري لماذا! وهكذا صارت جرجونة تلقب بالكونتة دي موري، وقد مر ذلك كله بسرعة البرق.
أما لورانس فارتعدت إذ وصل إليها نبأ الزواج على يد الخادم الهندي ملطار، وأصيبت بمرض لزمها أياما ويئس منها الطبيب، لكنها تماثلت إلى الشفاء بعد أن زفت جرجونة إلى الكونت بأسبوع واحد. •••
تغير منزل الكونت دي موري بعد زواجه الثاني تغيرا كبيرا، فصار قصرا حقيقيا، وتكاثر فيه الخدم، وتوالت فيه الحفلات، وامتلأت الإصطبلات بالخيول والمركبات، وازدانت السلالم بالرياحين وبالأزهار، وظهرت فيه الحياة والحركة، وكل ذلك بعناية الكونتة دي موري؛ أي الزوجة الجديدة للكونت، وهنا لا بد من القول أنه تردد في الرضى بذلك الانقلاب، إلا أنه ما لبث أن أذعن للإيطالية الحسناء، وكانت راغبة في الظهور للناس بعد أن وثقت بفوزها ورسوخ قدمها في الأرض التي افتتحتها بحسنها ومكرها، ولم يطب عيش الكونت دي موري؛ لأنه كان دائم التفكر في زوجته الأولى، يفر من حفلات السرور والطرب التي تقام في بيته إلى حجرته الخصوصية، ويحدث نفسه عما مر به من الحوادث فتنتابه الأحزان.
وفي ذات مساء دخل عليه الخادم ملطار، وقال له: يعذرني سيدي إذا اجترأت على أن أذكر له أني قد عزمت على ترك هذا البيت. فدهش الكونت وصاح: لماذا؟ أوضح السبب يا ملطار. قال: لقد أدت الحوادث المتوالية إلى طرد الخدم القدماء واستبدالهم بآخرين، فالأفضل أن تسري علي هذه القاعدة أنا أيضا. فأظلم جبين الكونت وقال له: أنت مخطيء يا ملطار؛ لأنك لا تشبه سائر الخدم، وتركك لنا يعد ظلما منك ... فرفع الخادم رأسه وقال: إن سيدي يتكلم عن الظلم، ويعلم الله أنني لا أود تركه إلا لألحق بشخص آخر مظلوم حقيقة.
فصاح الكونت: هذا عجيب منك، أتكون مخلصا لتلك التي ارتكبت الإثم وكست نفسها خزيا وعارا؟!
قال: أما أنا يا سيدي، فلست أعتقد أن سيدتي لورانس أثيمة، ولست أرى ثوب الخزي والعار الذي لبسته بصالح لمثلها.
فارتعد الكونت وقال: أنت مجنون! ومع ذلك فإنك كنت حاضرا حين وقوع الحادث، وشهدت غضبي وانتقامي.
أجاب: نعم يا سيدي، ولكنني لا أصدق ما تصدقه، ولا أثق بما رأت عيناي.
قال: وكنت حاضرا في محكمة الجنايات سامعا الإقرار الذي نطقت به بحضرة الحكام والمحلفين!
أجاب: نعم، وأتذكر كل ما جرى، ولكنني مع كل ذلك لا أصدق كلمة مما سمعت، وعلى سيدي أن يذكر أيضا صوت مدام لورانس إذ كان متغيرا وكأنني لم أسمعه قبل ذلك الحين ... وكان الجنون ظاهرا في عينيها، وقد رأيت بصرها وسمعت صوتها حين نقلت إليها خبر زواجك، فكان الجنون في نطقها والبصر جليا، ومما زادني يقينا؛ أن المسكينة مرضت مرضا ثقيلا كاد يودي بحياتها، ولكن قضى الله بشفائها، فجعلت تتكلم عن ابنتها لتجد رابطة بينها وبين الوجود ... وفكر يا سيدي في أنها لا تستطيع التحدث عن ابنتها إلا معي وحدي؛ لأن جميع الذين تحبهم قد أعرضوا عنها حتى إن والديها طرداها.
وهنا خفت صوت الخادم الأمين وبكى رحمة وشفقة، فتجلد الكونت لئلا يشترك مع خادمه في البكاء، وعطف عليه يكلمه برقة وقال له: إنني بالنيابة عن بوليت أستحلفك على أن لا تترك هذا البيت. قال: بالنيابة عن بوليت؟
أجاب: نعم، وهي قادمة إلى فرنسا، وكنت منتظرا نبأ وصول الباخرة إلى مرسيليا في هذا اليوم، فاضطرب الخادم وقال: سيدتي الصغيرة آتية!
أجاب: نعم، وبعد يومين أو ثلاثة تكون ها هنا، وسوف يبدو لها هذا المنزل خاليا بعدما أنفقت فيه أيام حداثتها مع والدتها، فهي لا تجد أحدا غيري من جميع الذين تحبهم.
فجعل الخادم يقول: مسكينة بوليت، مسكينة بوليت!
قال: أصبت، إنها مسكينة ولا شك! إنها تستحق أن يرثى لها أكثر مما يرثى لابنة يتيمة ... لا سيما وأنها لم تعلم بالمصيبة التي نزلت بها إلا في الآونة الأخيرة.
قال: كيف لم تعلم بها؟
أجاب: لأنها كانت ضعيفة فلم تتجرأ شقيقتي على نقل النبأ السيئ إليها لئلا يؤثر في صحتها، ثم أنبأتها لكيلا تدخل هذا البيت وهي آملة أن تلقى فيه أمها، وربما أنبأتها اليوم.
قال: وارحمتاه لها! وربما علمت اليوم فقط بأن مكان أمها قد احتلته امرأة أخرى، آه يا سيدي ما أشأم تلاقي بوليت مع ... ولم يجسر الهندي على إتمام جملته، فقال الكونت بكآبة: نعم، وكنت أعتمد على مساعدتك في تعزية المسكينة.
ولكن ما دمت عازما على ترك هذا المنزل، وترك ابنتي فريسة للغم والأسى، فامض لست أمنعك.
أجاب: لا سيدي، فإنني أقيم الآن. فمد الكونت يده إلى خادمه فلثمها وبللها بدموعه. •••
هل يذكر القراء كلمة قالها أنيبال بلميري لأخته عندما أبان لها إمكان اقترانها بالكونت دي موري إذا وعدته بالمساعدة عندما يتحقق رجاؤها؟
كان أنيبال شديد الكسل لكنه إذا نوى أمرا أعد له عدته على مهل، وقد طلب مقابلة الكونت بعد يوم سباق جرى في ميدان أوتيل، وقال له: لدي أنباء جديدة عن منجم الذهب الذي في «ريونجرو»، وهو المنجم الذي خطر لك وللمركيز دي ستناي والجنزال دي سنروني أن تتولوا إدارة شركته، ولعمري فقد خدعكم رجال الأموال الذين دفعوكم إلى تولي هذه الإدارة؛ إذ أوهموكم أنه منجم غني بالذهب وهو لا يقدر بأكثر من عشرين ألف فرنك، فلم يحفل الكونت وأجاب: إذن أكون قد خسرت ألف فرنك وينقضي الأمر على هذه الخسارة.
قال: ليس الأمر ينقضي كما تتوهم، ولكن يظهر أن مساهمي الشركة قد حصلوا على براهين دامغة بأن سبائك الذهب التي زعمتم أنتم الثلاثة مديري إدارة الشركة أنها صادرة من منجم ريونجرو لم تصدر في الحقيقة إلا من منجم آخر ... فبهت الكونت في هذه المرة وقال: ذلك كذب مشين.
قال: نعم، وشر من ذلك أن المساهمين أقروا على إلحاق التبعة بكم، وعزموا على إبلاغ الحكومة شكواهم منكم زاعمين أنكم خدعتموهم وغششتموهم، فصاح الكونت غاضبا وهو يقول: ومن ذا يتجرأ على هذا الزعم الكاذب واتهامنا بسرقة؟
قال: ليس يعني المساهمين إلا أن التبعة واقعة عليكم جميعا، وقد أوجبوا عليك دفع مليون من الفرنكات إذا شئت أن تخلص من هذه الورطة المشئومة سالم الشرف.
فانسكب العرق البارد من جبين الكونت وقال: من حسن الحظ أن القدر الذي يطلبونه ليس بجسيم أعجز عن دفعه.
وقال أنيبال: يسرني ما أسمعه منك؛ لأنني غير مطلع على شئونك المالية، وكنت خائفا من أن تكون عاجزا عن تحمل تلك الخسارة.
قال: إنني وفقت إلى استثمار أموالي في الهند، ولما انفسخ زواجي بابنة الأميرال فيرمين دي لامارش بلغ ما لدينا من المال مليونان، ومن أصل هذه القيمة تقدير منزلنا هذا بأربعمائة ألف فرنك، فبقي من المليونين مليون واحد وستمائة ألف فرنك، دفعت منها لابنة الأميرال ثمانمائة ألف فرنك، أما الباقي، أي: ثمانمائة ألف فرنك وهو حصتي، فمودع خزانة المصرف الهندي المرسيلي لحسابي الخاص، وفي أقل من أسبوعين يرد علي هذا المال، ولست أبالي بخسارته إذا بقيت بائنة ابنتي لم تمس ... قال: يمكنك أن تحرز لابنتك ثروة أكبر من التي تضحيها بشرف. قال: فما معنى هذا الكلام؟ أجاب: معناه أنني أمتلك ملايين عديدة، فهل تأذن لي أن أشاطر ابنتك إياها على أن أخطبها إليك؟
فتراجع الكونت دي موري وهو لا يصدق أذنيه، ثم تجلد وقال: أنت تريد أن تغدو زوج بوليت! وأنت شقيق ...
وتوقف، فقال أنيبال متمما كلامه: نعم، شقيق زوجتك، ولا أنكر أن الآنسة بوليت قد تنفر من هذا اللقب، لكن يمكنك الاعتماد علي وعلى أختي في استمالتها إلينا.
قال: ولكنك لا تعرف ابنتي!
فتبسم وقال: ليس ذا بالأمر الخطير عندي، فحسبي ما أراه كل يوم من تعلقك بها، وحب الذين عرفوها، وإخلاص بعض الخدم لها ... وما أعني إلا ملطار، أما حسنها ...
وهنا تناول صورة عن مكتب الكونت لبوليت، وقال: هذه الصورة تدل على حسنها، ولطالما تأملتها معجبا بصاحبتها، إذن فاعلم أيها العزيز أنني مغرم بالآنسة ابنتك، وقد جئتك خاطبا إياها إليك.
فأجابه الكونت: إن إصرارك على خطبتها إلي في مثل هذه الأحوال الحرجة يوجب علي الشكر لك، ولكنني لا أستطيع أن أجيبك إلى طلبك إلا بعد قدوم بوليت؛ لأنها قادمة إلى هنا بعد بضعة أيام، ولها أن ترى رأيها في الجواب، وبعد هنيهة دخل أنيبال غرفة أخته فأنبأها بما فعل، فقالت له: ولكن هذا جنون! قال: وهل قلت لك إنك مجنونة حينما كاشفتني بهواك وشغفك بالكونت دي موري، وقلت لي إنك تدفعين الملايين لتتزوجي به؟
قالت: ولكن ليس بين الحالتين تشابه. قال: أنت أردت الاقتران بالكونت عن هوى وعشق، أما أنا فسوف أتزوج الآنسة بوليت عن تعقل وتبصر؛ لأنني أتمنى أن أفتح بيتا صغيرا بين هؤلاء القوم الذين اختلطنا بهم، ولا يخطر لهم التحري عن ماضينا، وبوليت تلائمني وتصلح لي؛ لأنها فتاة تكاد تكون بلهاء، ولا تعرف شيئا من أحوال الناس وشئونهم، ولا تهوى أحدا، ولا يبعد أن تفتتن بي، وفضلا عن ذلك فإن والدها زوجك ولا يقسم إلا بك، ومن محاسن التوفيق أنه مشرف على الإفلاس، وهو محتاج إلينا ليقضي ديونه ... - هذا صحيح وكنت قد نسيته، فهل ثبت النبأ السيئ الذي نقلته إلي عن منجم الذهب؟ - بلا شك، والمصرف الهندي المرسيلي الذي أودعه أمواله مشرف على الإفلاس الاحتيالي - أو التدليسي. - إذن قد أصبح روجر مفلسا؟ - نعم، إلا إذا لجأ إلى صهره «العبد الفقير» الماثل أمامك، ولعمري إنه لحسن حظه قد وفق إلى التعرف بنا! وضحك سرورا.
وبعد هذه المحادثة بساعة واحدة فقط، دخلت مخدع الكونت دي موري فتاة ممسكة بيد رجل كهل وهي تقول له: تعال إلى هنا يا مسيو دراك، فهذا مخدع والدتي!
وكانت الفتاة بوليت.
الفصل السابع
بقي علينا أن نذكر السبب في وصول الفتاة بوليت إلى منزل أبيها في شارع فارين في باريس، وهو لا يدري إذا كانت قد وصلت إلى مرسيليا بعد ... وكيف دخلت المنزل خفية غير مصحوبة بعمتها باسيليك ولكنها بصحبة رجل نجهله حتى الآن، اسمه المسيو دراك، فلنعد قليلا إلى الوراء.
كانت بوليت في الهند ضعيفة ناقهة من المرض، ولما وقعت حادثة افتراق أمها عن أبيها كتمت عمتها عنها الخبر، وقال الطبيب روبلين لعمتها: ثابري على الكتمان عنها لئلا تؤثر هذه المصيبة في صحتها، وربما قتلتها؛ لأن جسمها لا يزال إلى الآن ضعيفا. فلما تم لها الشفاء أمر الطبيب بسفرها برغم إرادة المسيو جاستون دي فاليير نائب الحاكم، وكان هذا مغرما بالفتاة من قبل، لكنه لم يكاشفها بهواه، وكان الطبيب روبلين مطلع على سر ذلك الهوى، وقد أنبأ به العمة باسيليك، فعزمت أن تخبر به والدي الفتاة حين وصولها إلى باريس، فقالت لجاستون: كنت مطمئن البال أيها العزيز، فسوف أسعى لك السعي الذي نوده. ثم سافرت العمة باسيليك وابنة أخيها، وظلت العمة تؤجل إطلاع الفتاة على ما كان بين والديها خشية تأثير الخبر فيها، لكنها أشفقت أن يتكلم أمامها أحد ركاب الباخرة فتعلم الفتاة ما كتم عنها، فاحتاطت بطريقة أخرى هي التي نذكرها الآن.
كان في جملة القادمين إلى أوروبا على تلك الباخرة رجل إنكليزي أقام ثلاثين عاما في الهند، ثم عاد إلى أوروبا لينفق فيها بقية عمره ويستريح من الأعمال، وكان ذلك أمرا ميسورا عنده؛ لأنه غني، ولا علاقة له بأحد من الناس، ولا أقارب له، ولا يهمه غير نفسه، هكذا كان هو يقول، واسمه إيليا دراك، زاول التجارة في كلكتا وكان معتمدا قنصليا فيها، تعرفت به العمة باسيليك على يد ربان الباخرة، ثم آنست فيه طيبة القلب فأطلعته على ما توجسه من خوف بشأن بوليت، فوعدها بالمساعدة لأنه يعرف جميع ركاب الباخرة، فحذرهم من التكلم عن حاكم بوندشيري، أي والد بوليت، وما جرى له مع زوجته؛ لأن خبر تطليقه إياها كان شائعا ذائعا، ولكن إيليا دراك كان قد امتنع في بادئ الأمر عن قضاء هذه المهمة، لكنه ما لبث أن أذعن وأجاب بالقبول، واستشعر ميلا إلى الفتاة بوليت، مع أنه كان لا يريد أن يكترث لأحد من الناس بسبب تقدمه في العمر.
وفيما كانت الباخرة تدنو من مرسيليا حدث حادث مزعج؛ لأن البحر هاج هياجا شديدا، وأخذ يتلاعب بالباخرة تلاعب العاصفة بريشة طائر، فلم يبق على ظهرها أحد من المسافرين؛ لأنهم أمروا بملازمة غرفهم، أما بوليت فلما علمت بقرب الوصول إلى مرسيليا أصابها انفعال شديد لاعتقادها أن والديها ينتظرانها على الشاطئ وهما متعرضان للعاصفة الهابة ليرقبا دخول السفينة في الميناء، ويشاهدا ابنتهما من بعيد، فطلبت إلى العمة باسيليك أن تأذن لها بالصعود إلى ظهر السفينة، وأدركت هذه العمة ما يجول في ذهن الفتاة، ولم تحاول منعها ذلك؛ لأنها قالت في نفسها: سوف تكون خيبة بوليت لعدم رؤية والديها على رصيف المينا عند رسو السفينة مقدمة لمكاشفتي إياها بتنافرهما الذي أدى إلى الطلاق، وهكذا تكون الخيبة الصغيرة تمهيدا للخيبة الكبرى التي أخشى من تأثيرها على الفتاة.
فصعدت العمة وابنة أخيها إلى ظهر السفينة وهي داخلة في الخليج، فنادت بوليت المسيو دراك وقالت له: ألا تأتي معنا؟
فأجابها متعجبا: إلى أين؟
قالت: إلى ظهر السفينة كما أخبرتك ... ألم أقل لك إني سأصعد إليه عند وصولها إلى مرسيليا ؟
أجاب: نعم قد تذكرت الآن أنك قلت ذلك القول، ولكنني لا أعده كافيا للمخاطرة بأرواحنا. فمن الجنون التعرض للأمواج التي تغطي ظهر السفينة الآن.
قالت: بل قم ولا تجادل! وتعال فبلل ثيابك معنا ولا تكن رديئا.
قال: ولكن قد تجرك الأمواج إلى البحر ...
فأمسكت ساعده وقالت: بل أنا أثبت قدمي على الأرض وأتشبث بذراعك فلا تخف علي، وهيا بنا.
فاتجه الثلاثة وهم يستندون إلى كل ما تقع عليه إيديهم كي لا يسقطوا، فلما بلغوا السطح رأوا مشهدا بديعا أنساهم ما كان محدقا بهم من خطر؛ فكانت السفينة تحاكي وقتئذ جوادا كريما منطلقا في ميدان ملؤه الغابات والأنهر، يثب وثبات هائلة، فيرتفع ثم يهبط حتى يظن أنه هوى إلى الحضيض، وبينما كان يقترب من الخليج ويوشك أن يدخله فيأمن شر ذلك النوء الشديد؛ وإذا بموجة عالية كالجبل جاءت وتكسرت على السفينة ففرشتها بالماء، ولم تبق على ظهرها شيئا، وإذ ذاك سمع «دراك» والعمة «باسيليك» صوت بوليت وقد جرفتها المياه إلى البحر، فبادر المسيو دراك، بعد أن خلع رداءه وبعض ملابسه، وانطرح على ظهر الباخرة وترك المياه تجره إلى البحر وهو يتذمر ويتململ غضبا، فلما ظهر بعد هنيهة على سطح الماء، أبصر قطعة من ثوب بوليت فسبح إليه، وأمكنه التوفيق من القبض على شعر الفتاة، إلا أنها تشبثت به في الحال شأن كل غريق، فقال: لئن لم أتخلص من قبضتها فلا يبعد أن نغرق معا، ولكن إذا تركتها فإن صورتها تلازمني في الليالي وتحرمني الرقاد؛ فإما أن أنجو وإياها وإما أن نغرق معا!
وأخذ يسبح بقوة والفتاة متشبثة به، ولحسن الحظ تنبه إليه النوتية، وطرحوا زورقا في الماء فانتشلوه والفتاة، وكان قد أغمي عليها، كما أغمي على عمتها لما رأتها وهي في تلك الحال.
ولما أفاقت المرأتان طلبت بوليت النزول إلى البر قائلة: إن والدي ينتظرانني ولا شك، وعسى أن لا يكونا قد شاهدا ما حدث لي: فارتبكت العمة ارتباكا شديدا ولم تدر ما تقول.
وفيما كانتا نازلتين على سلم الباخرة تلاقتا بالمسيو دراك، فتذكرت بوليت أنه أنقذها من الموت غرقا، فوثبت إلى صدره تشكره، فدفعها عنه بشيء من الخشونة السكسونية ليخفي انفعاله، وإن زعم أنه لا يفهم معنى هذا الانفعال، وقال لها: تنبهي إلى نفسك أيتها الآنسة؛ فهذه ثاني مرة تجعدين فيها ثيابي منذ حظيت بشرف صحبتك.
قالت: إنك لم تفكر في ثيابك التي ابتلت حين ألقيت بنفسك إلى الماء لأجلي، والآن أصبحت تخشى على هذه الثياب من التجعد إذا دنوت منك؟ فأنت منقذي من الغرق يا مسيو دراك، آه ما أشد ما يكون حب والدي لك عندما يعلمان بما صنعته إلي من المعروف العظيم.
قال: ولكنني أعفيهما من ذلك العناء؛ لأنني مسافر إلى باريس في هذه الساعة، ومنها إلى إنكلترة دون إمهال.
فأشارت العمة إليه وقالت له: بحقك تعال معنا إلى الفندق، فلا غنى لنا عن وجودك معنا.
فلم يجد بدا من الانصياع وهو يقول في نفسه: إنني لم أنتفع بعزوبتي ما دمت هدفا لأول امرأة تطلب مني الإسعاف كما وقع اليوم.
ولما وصلوا إلى الفندق كانت العمة متألمة، وأصابتها حمى عقيب تبلل ثيابها، أما بوليت فتعجبت لأنها لم تر والديها، وقالت: إنهما تأخرا، إذن سوف أسبقهما إلى المنزل في باريس، وغدا نسافر على أول قطار. فقالت لها عمتها: إذا كنت راغبة في السفر فلا بأس، ولكن لا بد لي من السفر معك، إلا أنني مريضة كما ترين، وأحتاج إلى الاستراحة ولو يومين.
قالت: أنا لا أستطيع الصبر على لقاء والدي يومين أيضا، وكان دراك يود الرحيل، فقال للفتاة: هل تريدين أن أوصلك إلى باريس على أن تبقى عمتك ها هنا بضعة أيام لتستريح تماما؟
فأرضى الاقتراح الامرأتين معا، ثم خلت العمة بدراك، وبعد جدال وعدها بأن يخبر الفتاة في أثناء الطريق عن انفصال والديها، وسافرت بوليت برفقة دراك، غير أنه لم يجسر على إنجاز وعده شفقة على بوليت، وهكذا وصلت إلى منزل أبيها وهي تجهل كل ما حدث.
دخلته وهي تجر المسيو دراك، الذي كان مرتبكا كل الارتباك، ودخل الخادم الهندي ملطار من باب آخر فسمع صوتها ولم يرها، فقال في نفسه: كيف وصلت دون أن يدري أبوها بوصولها؟ ومن الرجل الذي يصحبها؟
وتعجب لما أدرك من لهجتها أنها مسرورة؛ إذ كانت تقول للرجل الإنكليزي تعال ولا تتردد، ولماذا أردت مخاطبة البواب وأنا لا أعرفه؟ فهل أحتاج إلى من يدلني على الطريق في بيت أبي؟
قال: ولكنه يسألني عن نفسي وعنك لأنه لا يعرفنا.
قالت: دعه يسأل ما شاء وادخل معي، فنحن قادمان دون أن يعلم أحد بوصولنا ولا سيما أنت، فالكل يجهلون أنك موجود في هذه الدنيا. ثم أقبلت على خادم وقالت له: أين المسيو دي موري وزوجته؟
فأجابها: لقد خرجا من المنزل.
قالت: فأين الأميرال دي لامارش وزوجته؟
أجاب: إنهما لا يقيمان في هذا المنزل منذ نحو شهرين.
قالت: هذا أمر غريب، فما معناه؟ وعطفت على المسيو دراك، فأخذت يده وقالت: تعال فلا بد لي أن أظهر لك سروري وفرحي.
فحاول أن يسكتها، فلم تدع له وقتا للتكلم، وقالت: إني أعرف ما تريد أن تقوله، فأنت تريد أن تقول: إن سروري لا يعنيك، وإنك لا تحب الانفعالات، وإنك مسافر إلى إنكلترة على أول قطار، وإنك لا تريد أن تتعرض فتاة مثلي لشئونك، أو يهتم أحد بك، وإنك راغب في الصيد في أعماق البحار حتى تخلو إلى أنانيتك، ولا تفكر في غير نفسك، فتأكل وتشرب وتضحك أو تبكي دون أن يشاطرك أحد سراءك أو ضراءك، وأفراحك أو أتراحك، وهكذا تغدو أسعد رجل في الدنيا. كل ذلك تريد أن تقوله لي، وأنا أعرفه، ولكن البث ها هنا ساعة قبل الشروع في تلك الحياة الطيبة، واشهد ملاقاتي لوالدي، وتأمل كيف يكون الحب بين أفراد أسرة واحدة، وكيف يسعد الناس به، أكثر منك بوحدتك وجفاء طبعك؛ لأن سعادتهم ناجمة عن اتحادهم وتشاركهم في الحب!
وسمع ملطار هذه الكلمات ففهم الحقيقة، وأدرك أن سيدته الصغيرة تجهل ما وقع من الحوادث في البيت، فارتعد خوفا عليها، وخرج لها من الموضع الذي كان مختبئا فيه، فصاحت لما رأته، وحيته، ومدت إليه يدها فلثمها بحنو وغمغم يقول: سيدتي.
فقالت له وهي ضاحكة: آه لو سمعت البواب، فهو يريد أن يمنعني من الدخول بحجة أن المسيو دي موري وزوجته غائبان الآن!
فقال المسيو دراك: بل أراد أن يعرفنا أولا، وأنت المخطئة؛ لأنك منعتني عن إخبار والديك برسالة برقية عن قدومك. قالت: أردت مفاجأتهما.
فأشار المسيو دراك إشارة إلى الخادم الهندي لكي لا تبدو منه بادرة فيطلع بوليت على الحقيقة، وإذا بالفتاة تصيح به قائلة: تكلم يا ملطار عن أبي وأمي، فكيف هما؟ حدثني عنهما معا!
وأخذت تتخلص من ملابس السفر وهي لا تفتأ تتكلم.
فقالت للخادم الهندي توبخه: ألا تسألني عن العمة باسيليك يا ملطار؟ فقد تركتها مريضة في مرسيليا، ولكن لا بأس عليها ... ولذلك صحبني المسيو دراك، فكان كريما معي، ولكن هنا أمر خطير، عليك يا ملطار أن تكتم نبأ وصولي عن والدي حتى يرياني ها هنا.
أجاب: نعم يا سيدتي، فها أنا ذاهب! وذهب الخادم الأمين من المخدع مستعجلا؛ لأن عبراته كادت تفضحه، وود المسيو دراك أن يقتدي به؛ لأن تلك المهمة التي عهدت بها إليه العمة باسيليك لم تعجبه، وهي أن يخبر الابنة بالطلاق الذي وقع بين والديها، فقد يقتلها الخبر في مثل ذلك الوقت، وقد قطع المسافة بين مرسيليا وباريس ولم يجسر على مكاشفتها به حتى عزم أخيرا على أن يوصلها إلى المنزل وينصرف تاركا تلك المهمة للصدف تفعل ما تشاء.
فأتى بحركة ليأخذ قبعته وينطلق، إلا أن بوليت لاحظته واستوقفته وقالت له: كيف تذهب بعدما اهتممت بي في مدة السفر، وخاطرت بروحك لأجلي، وأوصلتني إلى باريس؟ كيف تذهب دون أن تمكن والدي من شكرك؟
قال: ليس ما يوجب الشكر، فإنني فعلت ما فعلت دون تحمس أو تعب، أما الآن وقد وصلت إلى بيتك ولم يبق لك حاجة بي فإني أودعك.
فأمسكت ساعده ونظرت إليه تتفرس في وجهه، وقالت له بدلال: كلا، لا تودعني؛ لأنك باق هنا، ولا بد أن يرى والداي من صحبني في سفري الطويل، وأنبئهما بحسن عنايتك ورعايتك وكرم خلقك حتى يؤديا لك واجب الشكر والثناء، ولا بد أن ترى كل أقاربي.
قال: أتعنين جدك الأميرال وجدتك؟ إنني لا أحب كثرة الأقرباء ولا قلتهم! فضحكت وقالت: كم عدد أقربائك؟ أجاب: أحمد الله على أنني قريب نفسي الوحيد!
قالت: إنني أرثي لك.
قال: أنت على ضلال؛ لأن الحب الذي كان ينبغي أن أوزعه على أقربائي أختص به وحدي دونهم، إذ إن شخصي هو عزيزي ووحيدي! فزاد ضحك بوليت، وقالت: كيف ذلك؟ أتحب شخصك إلى هذا الحد؟ أجاب: هذه خير وسيلة للإحسان إلى من يستحق الإحسان.
قالت: ولكن الحب يولي المرء سعادة.
أجاب: إني أدرى الناس بذلك؛ لأنني أحب نفسي حبا جما. - ألم تحب امرأة في ماضي عمرك؟ - ما كان ينقصني إلا هذا! - أما أنا فلا أكتم عنك أنني أحب رجلا.
وإذ ذاك صبغ الحياء وجهها بلون القرمز، فقالت: إنه خطبني إلى نفسي وأجبته بالقبول. فبدأ المسيو دراك يرتعد؛ لأن هذا الإنكليزي الشهم ود أن يرجع الكونت دي موري سريعا وينقذه من هذه الورطة.
فقالت الفتاة: سوف ترى ما في بيتنا هذا من سعادة وحب، ويا لله! ما أشد كلفي بهذا البيت العزيز الذي لم أره منذ ثمانية أعوام، إلا أنني أتذكر كل شيء فيه ... واحكم بنفسك، فهنا إلى اليمين يوجد بهو صغير لا أزال أراه كأنني دخلته بالأمس؛ لأنه بهو والدتي الذي تفضله على سواه، وجدرانه وردية اللون، فتعال وانظر، تتحقق! ففتح المسيو دراك الباب الذي أشارت إليه، وقال: نعم هذا بهو صغير إلا أن جدرانه زرقاء لا وردية.
قالت: يا ليته بقي وردي اللون، فإنني كنت أحب أن يبقى على حاله.
قال: إن الألوان تتغير ككل شيء في العالم، حتى المبادئ والعواطف والأفكار والآراء والأميال، فلا تحزني ...
قالت: هذا صحيح، ولكن لست أبالي به، ولكنك سترى أنني غير مخطئة، ففي هذا البهو الصغير إلى يسار الباب يوجد جدار عليه صورة كبيرة.
قال: صورة كبيرة؟
أجابت: نعم، صورة صبية حسناء لابسة ثوبا من الحرير الأطلسي الأبيض، فهي أمي! فارتبك الشيخ إلا أنه قال: كلا يا ولدي، لا، لست أرى صورة.
قالت: ألا يوجد جدار عليه صورة؟
أجاب: أما الجدار فنعم، وأما الصورة فلا.
فأسرعت إلى باب البهو وصاحت: ذلك مستحيل!
ثم لما لم تجد صورة أمها وقفت وقالت: ماذا فعلوا بها؟!
وكانت تلك فرصة ينبغي انتهازها لإخبار الفتاة بواقع الأمر، إلا أن الإنكليزي لم يطاوعه قلبه على انتهاز تلك الفرصة، بل قال: لا جرم أن الصورة أصيبت بأضرار مدة غيابك الطويل فحملت إلى مكان آخر لإصلاحها. قالت: لا بد إذن أن يكون ذلك هو الواقع. ثم رأت صورة على موقدة فقالت: انظر إلى صورتي أنا منذ ثمانية أعوام وقد جيء بها من مندشوري.
وكانت قد عكفت على تقبيلها، ثم نظرت إليها وقالت: إني أقبل دموع والدتي.
فتأثر المستر دراك برغمه وأخذ يتنحنح ويسعل، فقالت له: إنك تأثرت لتذكري والدتي، فأنت طيب القلب يا مستر دراك.
فتظاهر بقسوة تمساح، وقال: أنا؟ وأي شيء يؤثر في؟ وهل يعنيني أمر والدتك وأنا لا أعرفها؟ وكانت بوليت قد تعودت على خلق دراك فلم تحفل باحتجاجه، بل قالت: أين الكتب التي كانت على هذا الخوان؟ وما هذا المنديل؟ لا شك أن أمي نسيته ها هنا.
وأمسكت المنديل وقربته إلى فمها لكنها سرعان ما رمت به في الحال، وقالت: ليست له الرائحة التي تعودتها أمي فما هذا بمنديلها، ولكن هنا حرفان عليه ليسا لها؛ لأنهما لا يدلان على اسمها.
ثم صاحت تقول: رباه! ما هذا التغير الحادث ها هنا؟ لا بد لي من معرفة السبب.
واتجهت إلى باب آخر للبهو، فقال لها المستر دراك: إلى أين تذهبين؟ أجابت: إلى غرفة والدتي؛ ففيها ولا شك أشياء تحدثني عنها، فانتظرني قليلا يا مستر دراك، وخرجت مسرعة، فقال: وا رحمتاه لها، إنها سريعة الانفعال، ومن حسن حظي أنني لم أتزوج ولم أرزق أولادا، فحياتي هادئة لا يعتريها أدنى اضطراب. ثم عادت بوليت وهي تترنح كأنها سكرى.
فقالت له بصوت المذبوح: إنني خائفة.
وتعلقت بساعده، فقال لها: نعم، أنت ترتعدين، فلماذا؟
أجابت: إنني دخلت غرفة والدتي، فجاءت وصيفة لا أعرفها وقالت لي بخشونة: ماذا تفعلين؟ ومن أنت؟ فذكرت لها اسمي، فنظرت إلي مليا، ثم قالت لي بلهجة المستهزئة: أنت ابنة الكونت؟ فأرجو منك عذرا. فأنكرت عليها قولها إنني ابنة الكونت، وكدت أقول لها إنني ابنة الكونتة أيضا، لكنني استشعرت ألما، فاكتفيت بأن سرحت البصر حولي، فلاح لي أنني في غير غرفة والدتي، فصرخت وهربت إلى هنا.
فبهت المستر دراك ولم يدر ما يقول لها. فصاحت تقول: هل تغيرت أمي أيضا؟ وهل تنكرني اليوم؟ ولكنني أسمع صوتا ... فأمي آتية ... ووثبت إلى النافذة فرأت امرأة أبيها نازلة من المركبة، فقالت: ما هذه والدتي، آه يا مستر دراك! هذا أبي، وسأنتظر والدتي وأنا على صدر والدي.
وطلعت من باب البهو وإذا بالكونت دي موري مقبل عليها، فضمها إلى صدره بلهفة، وجعل يقول: بوليت! بوليت! ابنتي العزيزة! وكانت تقبله، وتكرر قولها: يا أبي.
فتنهد المستر دراك وقال: هذه رفيقتي في السفر بين ساعدي أبيها، فقد انتهت مهمتي، ويسرني انتهاؤها.
وإذا ببوليت قد تخلصت من يدي أبيها وقالت: إنني ناكرة للجميل يا أبت؛ لأنني نسيت أن أعرفك بالمسيو دراك، فهو صديق لنا، ولقينا أنا والعمة باسيليك، ومن كرم أخلاقه ما لا أستطيع وصفه، وقد صحبني وأوصلني وحدي إلى باريس. قال: وحدك؟ وكيف وقع ذلك؟ أجاب دراك: نعم أيها الكونت، أما أنا فأدعى «إيليا دراك» وكنت في الهند الإنكليزية تاجرا وقنصلا نائبا عن إيطاليا في كلكتا، أما اليوم فقد استقلت من منصبي وتركت تجارتي، وكانت شقيقتك مريضة في مرسيليا فعهدت إلي بإيصال الآنسة بوليت حتى باريس ... إلا أنها ستوضح لك ذلك كله، ولم يبق إلا أن أقول كلمة قبل ذهابي، ثم ألحق بأمتعتي إلى فندق اللوفر، واقترب إلى الكونت وهمس في أذنه يقول: حاذر يا مسيو دي موري، وتنبه جيدا كيف تنبئ ابنتك بخبر انفصالك عن أمها، فنحن، أنا والعمة باسيليك، لم نتجرأ على نقل هذا الخبر السيئ إليها، فهي لا تزال جاهلة كل ما حدث، وصحتها ما زالت ضعيفة.
فكاد يقع الكونت، واصفر وجهه وقال: وا حرباه! وهل أخبرها أنا؟
فانثنى المسيو دراك إلى الفتاة وقال لها: أودعك أيتها الآنسة، وقد سرني وشرفني تعرفي بك.
وتناول يدها وهزها بقوة، فقالت: أتمضي قبل إياب والدتي، وقبل أن أعرفك بها؟
أجاب: لا بد من ذهابي يا بنية. قالت: ولكنك تعود إلينا؟ قال: لا أدري؛ إذ لا بد من سفري إلى لندرة سريعا ... قالت: بل أريد أن تعود، وأن تعرفك والدتي، فأقسم لي على أنك تعود. فأقسم لها، واستأذن ومضى وهو يقول: نعم أقسمت لها على أن أعود ولكنني لم أقل متى ... ولا أعود حتى يسكن كل ثائر في هذا البيت، قاتلهم الله إني لست بحاجة إلى مرض القلب!
وبعد ذهاب المستر دراك ارتمى الكونت على مقعد، فمالت عليه بوليت تقبله، وتقول له: ما أسعدني بهذا اللقاء، اجتماعنا نحن الثلاثة بعد طول الفراق.
فخبأ وجهه بيديه وجرى دمعه على وجنتيه، فرعبت الفتاة وقالت: لماذا تبكي؟ لماذا تعرض بوجهك عني؟ إلهي، إلهي، ماذا جرى؟
وركعت أمامه، فقال لها بلهجة اليائس الحزين: لا بد أن تعتصمي بالصبر والتعقل والشجاعة. قالت: ولكن لا أدري أي خطر أخشاه وأنا معك؟ ولا ألبث حتى أرى والدتي بقربك. قال: إنك لا ترين والدتك. قالت: فهل هي غائبة؟ ألا تعود الليلة؟ ما بالك لا تجيب؟ لقد فهمت الآن، فوالدتي مريضة في خطر الموت، بل ربما ماتت! ...
وصرخت صرخة موجعة، فقال لها أبوها: كلا، لم تمت والدتك، فاطمئني.
فجعلت يدها على فؤادها وقالت: ظننت أنني مشرفة على الموت.
قال: فاسمعي يا بنية، لقد وقع خلاف خطير بيني وبين والدتك منذ وصولنا إلى باريس، فاضطررنا إلى الافتراق.
قالت: أواه، لماذا لم أكن حاضرة يوم وقوع ذلك الخلاف، إذن لما حدث ما حدث، أما الآن وقد وصلت فالخصام يزول، وما مضى قد فات، وأمي تعود إلى هنا فأضمها إلى صدري، ونجتمع على هناء. قال الكونت: ذلك لا يكون أبدا، فبيني وبينها سور لا تستطيع قوة بشرية أن تجتازه، وإذ ذاك ظهر ملطار، فقال: جاءت مدام دي موري وهي مقبلة إلى هنا!
فتهلل وجه بوليت وقالت: إنك كذبتني لتجربني فوا فرحاه! هذه أمي آتية فأهلا وسهلا بها! ...
وسمعت وقع خطى وصوت امرأة تلقي بعض الأوامر، إلا أن الصوت كان مبهما، فقالت بوليت: هل سمعت؟ هذه أمي!
فحاول أبوها إمساكها وناداها إلا أنها لم تلتفت إليه، فوثبت حتى الباب وإذ ذاك تزحزح عن الباب ستر وظهرت الكونتة دي موري، إلا أن بوليت لم تعرف هذه الكونتة؛ لأنها ليست ابنة الأميرال فيرمن دي لامارش، ولكنها كلوديا بلميري دوقة دي لوقا، أي: جرجونة.
فبهتت بوليت وقالت: عفوا أيتها السيدة فإنني لم أفهم ... وكنت أظن ... وانثنت إلى الخادم ملطار وكان يتستر وراء الستر، فقالت له: أنت المخطئ يا ملطار؛ لأنك قلت إن مدام دي موري آتية.
فلبث جامدا لا يحير جوابا، فتقدمت جرجونة وقالت: أظنك ابنة الكونت دي موري؟
فخفضت الفتاة رأسها. فقالت جرجونة: لا يحق لك أن توبخي ملطار على ما قال؛ لأنه لم يقل إلا حقا، وأنا الكونتة دي موري الآن.
فلم تفهم بوليت، وظنت أن تلك السيدة نسيبة لها تجهلها، ولاحظتها جرجونة، فقالت: نعم، أنا الكونتة دي موري، زوجة أبيك. قالت: أنت زوجة أبي!
وكان في صوتها معنى الاحتجاج والانذهال، ثم تقهقرت وقالت: حذار يا أبي، فإن هذه المرأة مجنونة!
ولجأت إلى صدر أبيها خائفة، فقالت لها الكونتة بسكينة: لئن لم تكن قد أنبأت ابنتك بالحقيقة، فقد آن أوان إنبائها، ألست ترى أية إساءة أورثني إياها جهلها؟ فقل لها إنني زوجتك حقا.
فثارت بوليت وقالت: ألا تسمع يا أبي؟ إنها تجسر على أن تدعو نفسها الكونتة دي موري وتدعوك زوجها! فأسكت هذه المجنونة.
فطأطأ دي موري رأسه كمجرم يقر بجريمته، وقال بصوت خافت: نعم، إنها زوجتي، وإنها الكونتة دي موري حقا.
فصاحت بوليت: إذن فما تكون أمي يا ترى؟
فلم يبق موضع للسكوت أو الكتمان أو المواربة؛ لأن كل كلمة في مثل ذلك الوقت تحاكي خنجرا ذا حدين، فقال: لقد أخبرتك يا ابنتي بالانفصال الذي وقع بيني وبين أمك، لكنني لم أطلعك على الحقيقة بتمامها؛ فقد قطع الطلاق كل صلة كانت بيني وبينها، وإذ ذاك تزوجت السيدة التي ترينها أمامك، إذن فهي الكونتة دي موري حقا، أي زوجتي.
فانتصبت قامة الفتاة وقالت: تقول الطلاق؟ فأي ذنب جنيته عليها حتى تركت بيتك ونبذت اسمك؟
وهكذا بان إجلال الفتاة لأمها، واعتقادها بأنها تترفع عن كل عيب وسفالة، ولم يكن ذلك اعتقادها في أبيها وكأنها قامت تتهمه دونها، فأجابتها جرجونة قائلة: بل اسألي عن الذنب الذي اقترفته أمك حتى طردها زوجها وطلقها.
فصاحت بوليت: أنت كاذبة يا هذه، أنت كاذبة!
فغضبت جرجونة وهاج هائج كبريائها، فقالت: أتستقبلينني بهذه الإهانة حين كنت عازمة على الاحتفاء بك وإكرامك؟ إذن فاسمعي الحقيقة كاملة ...
فاعترضها الكونت وقال: بحق السماء اسكتي يا كلوديا.
واقترب إلى زوجته وخاطبها همسا، قال: أتوسل إليك أن تسكتي، فإنني لا أريد أن أعذب ابنتي بتحقير أمها.
ولم تسمع بوليت هذه الكلمات إلا أنها فهمتها، فانبرت للإيطالية تقول لها: ما بالك صامتة، تكلمي واذكري التهمة التي ترمين بها أمي.
قال الكونت: أما أنا فأطلب أن لا يقال شيء بهذا المعنى، فعليكما بالسكوت معا.
ثم دنا من بوليت وقال: اصغي إلي يا ولدي، فليس للابنة أن تقضي بين والديها فتبرئ أحدهما أو تحكم عليه، وما عليك إلا أن تحترمي والديك دون أن تسألي عما كان.
قالت: سمعا وطاعة! وهمت بالانصراف، فقال لها: إلى أين؟ أجابت: إني لاحقة بأمي، قال: بل البثي فما تريدينه محال.
فرفعت رأسها وصاحت: إن ما تطلبه مني شديد علي وقاس، تقول لا تسألي عما كان، فلا بأس، فلست أسألك شيئا، ولكني أريد أن أعزي أشقى والدي وأتعسهما حظا، ولا يصعب علي أن أعرف أن أمي تستحق مني التعزية، وإنك متمتع بكل ما يسعد الرجل؛ لأن حولك ظواهر الرغد والرفاهية.
فدهش الكونت؛ لأنه يعهد ابنته حيية شديدة الحياء، أما الآن فرآها قد اتخذت سبيل الجرأة والانتقاد، وكاد يقول لابنته لا تغرك الظواهر يا بنية، فأشقانا من لا يستخدم سلاحه، لكنه تجلد وقال لابنته: إن السلطة العليا قضت بأن أكون الوصي الشرعي الوحيد عليك.
قالت: وهل تقضي السلطة العليا على ذاكرتي، فأنسى فضل والدتي؟ هل نسيت أنت يا أبي هاتيك الأعوام التي مرت بنا وكلها إخلاص وشفقة وحنو وعطف من والدتي علي؟ واذكر أيام كانت تسهر قرب فراشي إذ كنت مريضة مدنفة وما كابدته من رعب ويأس حينما نزلت بي نوبات الحمى الهندية الخبيثة وكادت تخطف روحي، فأي قدرة للطلاق حتى يصير الملك الحارس غريبا عني؟ وهل تحسب أنها لم تعد أمي لما لم تعد زوجتك أنت؟
قال: اصغي إلي يا بنية؛ لا بد لك اليوم من إجلال قرار الحكومة، وغدا تلقين جدك الأميرال وجدتك، وهما يريان ما يجب أن تفعليه، ولا أمنعك من الذهاب لتري والدتك إذا استصوبا ذلك، وكان هذا الوعد الكاذب مسكنا هياج الفتاة.
هذا، وجرجونة ما برحت منزوية في البهو تسمع وتعجب بجرأة الفتاة، وقد نسي الوالد وابنته أنها معهما، وإذ ذاك أقبل زائر هو أنيبال بلميري فحيا بوليت، واتجه إلى أخته جرجونة فصافح يدها، فقالت له بصوت منخفض: هذه ابنته. قال: أعلم ذلك وقد أتيت لأراها. قالت: فكيف تجدها؟ أجاب: إنها أجمل بكثير مما كنت أظن. قالت: فحاذر منها إنها عدوة لنا. قال: مهلا ولا تجزعني، فلا بد أن تغدو حليفة لنا بعد اقتراني بها.
قالت: ألا تزال على هذا الجنون؟ أجاب: كيف لا؟
وفي أثناء هذه المحاورة جعل الكونت يشرح لابنته العلاقة التي بين أنيبال والكونتة إلى أن قال خافضا صوته: حاولي إلا تظهري عداوة من شأنها أن تثنيني عن وعدي الذي وعدت، ومهما يكن من أمر هؤلاء الذين أعرفك بهم فاصبري وتجلدي.
قالت: سأفعل ما دمت لا أرى والدتي إلا بهذه الوسيلة.
ولولا أن كلوديا أتت بما أثار الفتاة لما حدث شيء مما وقع، ذلك أنها التفتت إلى أخيها وقالت له: إن الكونت قد عرفك بابنته ، ولئن رضيت بوليت فإنني أدعوها ابنتنا. فصاحت بوليت: تقولين أنني ابنتك أنت! كلا أيتها السيدة، وإياك والتلفظ بمثل هذه الكلمة عندما تكلمينني؛ لأنني لا أجيبك.
فاصفر وجه كلوديا. فقالت الفتاة: إن لي أما واحدة أيتها السيدة، فلها وحدها احترامي وحبي. فقالت الكونتة لزوجها: هل ترضى بإهانة زوجتك ولا ذنب لها إلا أنها لقيت ابنتك التي تحبها باسطة لها ذراعيها متهيئة لإحلالها في صميم فؤادها؟
قال: لا بد من الوقوف عند حد في هذا الجدال الشاق، فاطمئني يا كلوديا، وسوف تكونين محترمة ها هنا كما تستحقين، ولكنني لسوء الحظ لا أستطيع أن أعدك عن ابنتي بأكثر من الاحترام، وأما أنت يا بوليت فادخلي مخدعك والبثي فيه منتظرة أوامري.
فرجعت بوليت دون أن تودع أباها. أما جرجونة فدخلت مخدعها أيضا وهي ترتجف غضبا وأنفة. أما أنيبال فدفع للكونت رسالة وقال: نسيت أن أعطيك إياها وقد تسلمتها من ملطار حين دخولي.
فمزق الكونت الغلاف، وللحال اكفهر وجهه، فقال له أنيبال: ماذا جرى؟ فدفع له الرسالة وقال: خذ واقرأ، إن المصرف الهندي المرسيلي قد توقف عن الدفع، وليس لديه شيء من المال، وأنت تعلم أن فيه أموالي التي كنت أنوي أن أدفعها لمساهمي منجم «ريونجرو»، فإفلاسي محقق!
فقال له أنيبال: عفوا، فهل نسيت اقتراحي؟ وهل فاتك أنني راغب في مصاهرتك؟
فمد إليه الكونت يده وقال: إني أشكرك ولا أنسى كلماتك الطيبة، ولكن ما حدث أمامك يدلك على أن تحقيق أمنيتك من الأمور المستحيلة.
قال: لماذا؟
قال: ألم تسمع ما قالته بوليت لأختك؟ وقد تنبأت عن هذا الكره قبلا، فإن بوليت لا تحب المقيمين في هذا المنزل بدلا من أمها ...
أجاب: نعم، ولكن لا شك في أن البغضاء تتحول إلى هوى حينما تعلم ابنتك باليد التي أسديها إليك في هذه الأحوال الحرجة، وحينما تتحقق أن مساعدتي لك تبقي على شرف اسمك، وهذا يكون بشرط الزواج قبل انقضاء شهر، أي قبل موعد انعقاد الجمعية العمومية لمنجم ريونجرو، ويومئذ أدفع للمساهمين المال الذي يبقي على شرفك.
قال الكونت: لا بأس، رضيت بهذه الصفقة، ولكنني لا أتقيد بوعد لا ترضى ابنتي بإنجازه. أجاب أنيبال: قد اتفقنا. فتصافح الرجلان وافترقا.
وفي ذلك المساء بعينه ذهب ملطار إلى فندق اللوفر، وبقي المسيو دراك، وكان ملطار مرتديا بملابس هندية ما رآها عليه أحد من الباريسيين إلا ظنه أميرا من أمراء الهند، فأجل قدره خدم الفندق، وأدوا له تحية الإكبار والإجلال، ولاحظ خطأهم إلا أنه لم يشأ تنبيههم إليه. فدخل خادم الفندق على الرجل الإنكليزي وقال له: إن «دولة الأمير ملطار» يروم مقابلتك يا سيدي.
فدهش دراك وقال: هل يوجد أمير يروم مقابلتي؟ وتقول إنه يدعى ملطار؟ إني أذكر هذا الاسم، ولكنني لا أتذكر صاحبه ...
قال: إن دولة الأمير مرتد بملابس هندية.
ففطن دراك للأمر وتبسم، وقال: ليدخل الأمير.
وبعد هنيهة كان ملطار أمام دراك، فقال له: أأنت من يدعى ملطار؟ قد عرفتك الآن، فأنت تخدم الكونت دي موري، فهل لديك ما تقوله لي؟ أجاب: نعم يا سيدي. قال: فهل أرسلتك إلي الآنسة بوليت؟ وهل هي مريضة؟ أجاب: كلا، فما هي بمريضة.
فتنهد دراك، ثم قال: لست أدري لماذا سألتك عنها وأنا لا أعرفها، فما هي أختي ولا ابنتي، ولا شأن لي معها؛ لأن معرفتي لها تبتدئ منذ أيام وقد انتهت الآن، وهل انقضى الأمر في المنزل على سلام بعد ذهابي؟ إني أشكر الآنسة بوليت على اهتمامها بإبلاغي ذلك.
قال الهندي: لست رسول الآنسة بوليت، والأمر في المنزل لم ينقض على سلام.
قال: يا للداهية! زدني بيانا.
فحدثه ملطار بما جرى في منزل الكونت دي موري إلى أن قال: إن سيدتي الصغيرة في أسوأ حال، إلا أن أمها أشقى حظا منها وأسوأ حالا؛ فهي لا تدري أن ابنتها قد عادت، وأنها لا يؤذن لها بأن تراها، فصاح المسيو دراك: أتقول إن بوليت لا تذهب لتقبل والدتها؟ ولكن هذا أمر فظيع؟ أجاب: نعم، هذا أمر فظيع، لا سيما وأن المسكينة تنتظر وصول ابنتها، وتعد الدقائق والثواني، فماذا يقع لها إذا قلت لها إنها لن ترى ابنتها؟ إنها لعمري قد تموت جزعا. قال: ولكن إذا لم ترها اليوم فلا بد أن تراها غدا، ولا تموت جزعا ... قال ملطار: كلا، لا اليوم ولا غدا ولا فيما بعد! قال: وكيف عرفت ذلك؟ أجاب: أن الفتاة استأذنت أباها في الذهاب لتزور جدها الأميرال فيرمين دي لامارش، آملة أن تجد أمها هناك، وكان يأذن لها إلا أن زوجته الكونتة الجديدة اعترضته ومنعته.
قال دراك بغضب: بأي حق؟ ولماذا؟
قال: إن الكونتة الجديدة قالت: إن الفتاة لا ينبغي أن ترى أمها إلا بعد أن تندم على مخاشنتها لزوجة أبيها، وتعود إلى ما يجب عليها من الاحترام لها.
قال: وهل أعدت هذا الكلام على بوليت؟ وهل أتيت هذه الخشونة والقسوة وأنت تزعم أنك تحب سيدتك الصغيرة؟ أجاب: سيدي أمرني فأطعت كارها.
قال: فهل بكت عندما نقلت إليها ذلك الكلام؟
أجاب: بل ضحكت ضحكا غريبا، ثم ظهر عليها الغضب وصاحت تقول: إذن قضي علي بأن لا أرى والدتي أبدا، قضي علي بأن أبتاع كل قبلة منها بسفالة ونذالة. فاذهب يا ملطار ولا تتعذب لأجلي، فلا بد من يوم يجيء فيؤذن فيه لأمي بأن تراني؛ ذلك يوم وفاتي إذ تأتي فتلثم جبين ميتة.
فلم يتمالك المسيو دراك أن قال: ويحك! ولماذا جئت تخبرني بكل ذلك؟ ألا تدري أن هذه الشئون لا تعنيني ولا علاقة لي بها؟
فأجابه ملطار بلطف: إنما جئت لأخبرك بكل ذلك حتى تأتي معي إلى بيت أمها.
فوثب الإنكليزي وثبة مجنون، وقال: كلا، ذلك لا يكون أبدا، فحسبي ما سمعت ورأيت من أسرة موري فما هو بقليل، وإني أفضل الموت على الاهتمام بهذه الأمور وأمثالها ... ولكن ما عسى أن أفعل إذا ذهبت معك؟
وهذا شأن الرجل الإنكليزي الجافي الظاهر؛ فإنه يسخط أولا ويأبى ويرفض المساعدة، ثم يتغلب عليه كرم الأخلاق فينصاع. فأجابه ملطار: تقول لوالدة الفتاة ما قلته لك، قال: وماذا يمنعك من أن تفعل ذلك أنت؟
أجاب: لا شيء سوى أنك يمكنك أن تقص على الوالدة قصة سفرك مع ابنتها، فترتاح إلى سماع حديثك؛ لأن الفتاة كلمتك عن أمها كثيرا.
قال: بلا شك، حتى أدركني الملل والضجر من ثرثرتها هذه التي لم تهمني، ولم تكتف بذلك بل أنبأتني عن كلفها بشاب تنوي الاقتران به.
فذعر الهندي من هذا الاكتشاف وصاح: أحقا أن سيدتي الصغيرة تحب شابا وتنوي الاقتران به؟ أجاب: بلا شك، ولكن ما معنى هذا الاضطراب الذي نزل بك من مجرد سماعك بأنها تحب فتى وتريد أن تتزوج به؟
أجاب: لأنني سمعت محادثة بين سيدي ورجل آخر علمت منها أن الكونت وعد الرجل بأن يعقد له على ابنته.
قال: هذا ما كان ينقص المسكينة، ومن ذلك الرجل؟
أجاب: إنه المسيو بلميري شقيق الزوجة الجديدة.
قال الإنكليزي: بلميري؟ إني أتذكر هذا الاسم، ولكن ما لنا وله. هيا بنا لنرى الكونتة دي موري.
فتناول ملطار طرف سترة الإنكليزي، وأخذ يلثمه علامة الشكر والامتنان، ثم ركب الرجلان مركبة، وقد أراد ملطار القعود قرب الحوذي إلا أن دراك قال له: هل نسيت أنك من أمراء الهنود؟
فلما وصلا إلى بيت لورانس، قال دراك: تصعد أنت أولا وتنبئ بقدومي.
قال: بل اصعد معي وانتظرني في إيوان الدار فأدعوك عند الحاجة، ولما مثل ملطار بحضرة الكونتة قال لها: لدي أنباء جديدة عن سيدتي الصغيرة، فنهضت وجعلت يدها على فؤادها، ثم ارتمت على مقعد وقالت: الحمد لله، فأين هي الآن؟ ومتى تصل؟ قل لئلا تميتني بسكوتك. قال: وصلت السفينة إلى مرسيليا. قالت: هل وصلت اليوم؟ أجاب: لا، ولكن منذ يومين. قالت: إذن ابنتي تصل اليوم إلى باريس، أو هي قد وصلت اليوم فعلا؟ ولعلها تنتظرني وراء هذا الباب، فتعال معي، وأنت يا ابنتي ادخلي لأضمك إلى صدري فإنه ما خفق إلا لك وبك.
وهجمت على الباب ففتحته قبل أن يتمكن ملطار من إيقافها، إلا أنها لم تلق إلا الرجل الإنكليزي دراك، ولم تكن تعرفه فارتدت خائبة، فتلقاها ملطار بقوله: اطمئني يا سيدتي، فالرجل الذي ترينه صديق أتى ليكلمك عن سيدتي الصغيرة؛ لأنه صديقها أيضا ، بل صديقها الوحيد معي.
قالت الأم بلطف: أأنت صديق ابنتي؟ وأتيت لتكلمني عنها أو لتوصلني إليها؟ ألا بارك الله فيك، وجزاك خيرا.
وهنا لا يمكننا وصف ما جال في سريرة دراك، ولكننا نقول إن الغضب كان أشد ما تسلط عليه، غضب لأنه أحس بالانفعال الشديد، ولأنه استشعر ضعفا يخالف ما يريد أن يتصف به من عدم المبالاة؛ لأنه بلغ الخامسة والخمسين وهو مجتنب كل ما يقال له تأثر وانفعال، وهو فيما مضى من عمره أبى الاقتران بإحدى الأوانس؛ لأنه شعر بتعلقه بها، وأشفق أن يعاني من دلالها عليه ما لا طاقة له به، وهو لم يدخل ناديا إلا ليطالع فيه جريدة التيمس أو ينام على أحد المقاعد، وكان عنده مرة كلب، فاتفق أن داسته مركبة، فحلف على أن لا يقتني كلبا لئلا يفجع به، وآلى على نفسه أن لا يحب إنسانا ولا حيوانا حرصا على عواطفه الذاتية، واليوم قضي عليه أن يهتم بشئون الناس وهمومهم وأسرارهم، وذلك ليس في طبعه ولا خلقه ولا إرادته، فحنق على نفسه حنقا شديدا، إلا أنه لم يستطع رجوع القهقرى؛ لأنه كان طيب القلب رغم أنفه، فإنه أحس بفؤاده يتفطر لما رأى تلك الأم الحزينة باكية، فأجلسها على مقعد، وكفكف عبراتها بمنديله وقال لها: صبرا أيتها السيدة العزيزة، فتجلدي فابنتك حية ترزق وسوف ترينها.
فردت هذه الكلمات الكونتة إلى الصواب، وقالت: نعم، كلمني عن ابنتي يا سيدي، ولك الفضل الذي لا أنساه أبدا.
وبدأت المحادثة الطويلة عن قدوم بوليت، ومرت الساعات سراعا، وكتم دراك عن لورانس أنها لن ترى ابنتها، وأن أباها عازم على أن يلقي بها إلى ساعدي أنيبال بلميري شقيق الكونتة الجديدة، ذلك ما كتمه عنها لئلا يزيد عذابها، وقبل أن يذهب استحلفته على أن يعود إليها، فاضطر إلى القبول، ثم قال: أجيء قبل رحيلي عن باريس.
قال ملطار بقلق: متى ترتحل يا سيدي؟ أجاب بعزيمة: غدا.
وراع لورانس سرعة فقدها لذلك الصديق الجديد، فنظرت إليه نظرة تشف عن توسل وابتهال، فصاح: غدا أو بعد غد أو بعد أسبوع ... لا أدري، لكنني سأسافر على كل حال بعد أن يطمئن قلبك، وبعد أن تقولي لي أنت مع عزيزتنا بوليت: إنكما لستما في حاجة إلى السير إيليا دراك فليذهب بسلام.
الفصل الثامن
يذكر القراء أن الأميرال والد لورانس قد انتقل وزوجته من منزل الكونت دي موري إلى منزل آخر في شارع لوشان، ولا يجهل أحد مقدار حب زوجته لابنتها، ولطالما توسلت إلى زوجها الأميرال ليأذن لها بمقابلة لورانس أو الكتابة إليها، فكان يمتنع على الدوام، وظل على تلك الحال من الإعراض عن ابنته ومقاطعتها وهي خاضعة ذليلة، وفي ذات يوم جاء الأميرال فألفى زوجته باكية، فقال لها بلهجة اللائم: ألا تزالين تبكين؟
أجابت: وا أسفاه! لقد أطعتك فتظاهرت بالثبات، إلا أن فؤادي كان يكذب وجهي. أما الآن فقد خانني جلدي، وقد مضت ثلاثة شهور ولم أر ابنتي! قال بحدة: إنني منعتك من أن تذكريها فاحسبيها ميتة. قالت: إذن دعني أنفق من دموعي وزفراتي، وأي أم لا يحق لها أن تبكي ولدها الميت؟
لئن منعوا ليلى وطيب حديثها
فلن يمنعوا عني البكا والقوافيا
قال: إذن افترضي أنها لم توجد قط، قالت: مهما تكن مجرمة فهي ابنتك ... ألا تذكر حبك إياها فيما مضى؟ قال: لا تكلميني عنها، قالت: ليس لي قوتك، إن أنا إلا امرأة ووالدة فأتوسل إليك جاثية أن تأذن لي فأرى ابنتي.
قال: كلا، فإنها لا تدخل هذا البيت أبدا. قالت: إذن دعني ألقاها في بيتها ... ولو سرا. قال: إن الذنب الذي لا يغتفر يوجب العقوبة التي لا عفو لها ولا رأفة. قالت: ومن يدري إذا كانت مذنبة حقا أو إذا كان ذنبها لا يغتفر؟ فأجابها: إن الزوجة الخائنة لا تعذر أبدا، فصمتت لا تحير جوابا، وفكرت كثيرا إلى أن ساءلت نفسها قائلة: هل ترى أيحسبونني زوجة خائنة، لا تستحق الرحمة، إذا اكتشفوا يوما ما سري الدفين؟ وكم وكم من الزوجات المثاليات اللواتي دفن مع ماضيهن أسرارا لو انبعثت من قبورها لسببت من الشقاء والتعاسة ما يحول الحياة البشرية الخاضعة للأنظمة الاجتماعية القاسية إلى جحيم ناره أشد تأججا من نار جهنم. •••
فاتنا أن نقول إن بوليت زارت جديها الأميرال وزوجته بعد المحادثة التي أوردناها بنحو أسبوع، فالتقت الحفيدة بجدتها، وكانت كل نظرة من الواحدة إلى الأخرى تشف عن فكرة وحيدة تتعلق بالزوجة المطلقة، وكان الكونت قد اشترط على ابنته أن لا تذكر أمها، كما اشترط الأميرال على زوجته أن لا تذكر ابنتها، فلم تطل مدة تلك الزيارة، ثم انصرفت بوليت واعدة بالعودة في مثل ذلك اليوم من الأسبوع القادم.
فلما وافى اليوم المعين قبل ساعة واحدة من موعد الزيارة، دخل خادم على الأميرال يحمل بطاقة عليها اسم السير إيليا دراك، فنظر فيها الأميرال وقال: هذا اسم مجهول عندي، فليدخل السير، وأشار على زوجته بأن تكفكف عبراتها؛ لأنها كانت تبكي، فلما أقبل السير دراك ورآه الأميرال تذكر أنه رآه قبلا تذكرا مبهما، فقال: أظن أننا تلاقينا قبل اليوم، إنما لست أذكر أين كان ذلك التلاقي. فأجابه الإنكليزي: أما أنا فأذكر أنني رأيتك أيها الأميرال في كلكتا، وكنت تاجرا صغيرا فيها وفي منصب قنصل إيطاليا فيها.
قال الأميرال: هذا صحيح، وكان ذلك في حفلة أقيمت لضباط أسطولي. قال دراك: وقد عزمت بعد التروي على ترك شئون العامة واعتزال الأعمال والاستراحة بعد أن أقضي المهمة الدقيقة التي وافيتك لأجلها. قال الأميرال: من قبل من يا ترى؟ أجاب: من قبل الآنسة دي موري أيها الأميرال.
فقالت زوجة الأميرال: وهل تعرف حفيدتي؟ أجاب: لقد صحبتها أثناء سفرها، وأوصلتها إلى باريس لما تعذر على عمتها مواصلة السفر معها. قال الأميرال: وهل علمت أن العمة باسيليك قد توفيت في مرسيليا؟ أجاب: نعم، وهذا النبأ السيئ تلقيته من الآنسة بوليت. قالت زوجة الأميرال: هل رأيت ابنتي اليوم؟ وهل أرسلتك هي إلى هنا؟ أجاب: نعم، والآنسة بوليت تزعم أنني أسديت لها يدا جليلة، وتريد أن أشفعها بأخرى، وأنا ضعيف الخلق فطاوعتها ... قالت: لا شك أنها أنبأتك بعزمها على زيارتنا؟ قال: عفوا، فليس ذا كل الغرض من هذه المقابلة، ولا بد من الاعتراف بأنني خالفت الحقيقة بقولي إنها هي التي أرسلتني؛ لأن الحقيقة هي أنني أتيت متطوعا من تلقاء نفسي، واستعرت اسمها لأنبهكم إلى شخصي هنيهة.
فبدأ الأميرال يتململ وقال: إذن ما غرضك من هذه الزيارة؟
أجاب: غرضي أن أكلمك عن والدة الآنسة بوليت؛ وأعني الكونتة دي موري، والحق يقال إن السير إليا دراك كان كفئا لأن يخدم بلاده بسياسته؛ لأنه كان رجلا سياسيا حقا، ولا يدلك على ذلك مثل تمكنه من التلفظ باسم ابنة الأميرال في بيته بعد أن مهد ذلك التمهيد. فبهت الأميرال وقال: هل أتيت لتكلمني عن والدة بوليت؟ وقالت زوجته: عن لورانس، عن ابنتنا.
أجاب: نعم، والراجح عندي أنكما تجهلان أن الكونت دي موري منع ابنته من مقابلة أمها وهذا أمر فظيع. قال الأميرال بلهجة جافية: أما أنا فأستصوب ذلك الأمر لأنه عادل. قال السير دراك: لقد قلت في نفسي إنه عادل، لكنه في الحقيقة صارم قاس، فنحن على اتفاق بهذا المعنى، وكذلك يكون الحال إذا أنت منعت السيدة زوجتك من أن تزورها ابنتها ... قال الأميرال: وقد وقع ذلك فعلا، ولست أفهم كيف تسوغ لنفسك الاعتراض ... فقال دراك بسكينة عجيبة: وأنا كذلك أيها الأميرال لا أفهم لماذا أتعرض لما لا يعنيني من شئون الناس؛ ولكنني كمن ينفر من الماء البارد ويقع في النهر، ولا بد له من السباحة حتى ينجو ... ولما كانت الآنسة بوليت غير حاصلة على إذن من أبيها الوصي عليها بمقابلة أمها، خطر لي خاطر ولا تعجب منه أيها الأميرال، فإن من كان مثلي قنصلا تخطر له خواطر كثيرة، قد قلت اليوم للسيدة لورانس إن ابنتك ذاهبة لترى جدها فاذهبي أنت أيضا وهناك تقبلين ابنتك؛ إذ تكونين في أرض على الحياد.
فرفع الأميرال صوته الجهوري وقال: اعلم يا هذا أنني لا أريد أن أرى المخلوقة التي تتكلم عنها ... أجاب: أعلم هذا وبأكثر منه أيها الأميرال، وقد أدركت وفهمت المراد تماما، ولكن هل تأملت صفاء الجو في هذا النهار؟ ولو كنت على قيادة أسطولك لأمكنك إطلاقه حتى يسير أسرع من بساط الريح في مثل هذا الوقت الجميل، فلماذا لا تذهب للتنزه في غابة بولونيا؟ إنها قريبة إليك، وفي أثناء غيابك ودون علمك تلقى زوجتك ابنتها وحفيدتها معا.
فقال الأميرال: بل أنا أمنع زوجتي من مقابلة تلك المخلوقة. فأجاب الإنكليزي ببروده العادي المشهور: عافاك الله، فزوجتك تذهب معك للنزهة في غابة بولونيا، وفي أثناء ذلك تلتقي مدام لورانس بابنتها ها هنا على انفراد، ولا بد أنك تستصوب هذا العمل الحسن؛ إذ تتلاقى الأم بابنتها بعد فراق عام كامل، فكلتاهما تائقة إلى هذا اللقاء.
فهاج السخط الأميرال وصاح: إن لورانس لا تأتي إلى هنا أبدا، وهي تدري أنها يجب عليها أن لا تأتي. قال: عفوا أيها الأميرال، بل يجب عليها أن تأتي. قال: قلت لك كلا، فهي لا تتجرأ. أجاب: بل تتجرأ؛ لأنني أنا الذي أشرت عليها بهذه الجرأة ووعدتها بالحصول على إذن منك. قال: كلا، إنك لم تفعل ذلك. فأجاب: بل فعلته؛ فالسيدة لورانس آتية إلى بيتك منتظرة ما تعزم عليه، وهنا لا بد من الإقرار لك بأنها قد أتت فعلا. قال: أتت إلى هنا؟! أجاب: بل هي في الشارع تحت النوافذ جالسة في مركبة تنتظر مني إشارة تملأ فؤادها سرورا أو دلالة تلقيها في وهدة اليأس القاتل. قال: وكيف ذلك؟ قال: لما وصلت السيدة لورانس إلى تجاه بيتك أرتني إياه وقالت لي: إن والدي في الحجرة التي ترى نوافذها، وأشارت إلى هذه النوافذ، فأجبتها: سوف أحاول عطفه عليك، فإذا أفلحت في مسعاي - وهو ما أرجوه - فتحت لك هذه النافذة وأشرت إليك بالصعود، أما إذا لم أفلح - لا سمح الله - فإني أسدل المرفوع عليها الستر، ففي الحالة الأولى تصدعين، وفي الحال الثانية تذهبين وترجعين إلى عزلتك المحزنة.
ولم يكد يتم دراك هذه الكلمات حتى نهض الأميرال بحركة عصبية، وهجم على الستر يريد إنزاله، فقالت له زوجته: ماذا تفعل؟ فمنعها دراك وهمس في أذنها قائلا: ارتكيه يفعل.
وبعد إنزال الستر بهنيهة صاح دراك يقول: يا لله! ماذا فعلت! قال الأميرال: ما معنى هذا الكلام؟ أجاب: معناه أنني أخطأت. قال: وكيف ذلك؟ أجاب: إن الاضطراب والانفعال حملاني على الخطأ؛ إنما كان الاتفاق بيني وبين السيدة لورانس على إنزال الستار في حال قبولك لا في حال امتناعك.
فأدركت زوجة الأميرال حيلة الإنكليزي وقالت: يا رباه!
فتسلط الحنق على الأميرال لأنه انخدع بهذه الحيلة اللطيفة، وتأثر عند التفكر في أن ابنته مقبلة، فقال: والآن؟
أجاب السير دراك وهو يستمهل في كلامه ليمكن لورانس من الوصول، فقال: والآن قد كان خطئي السبب في دخول السيدة لورانس ... فهي صاعدة في السلم وفؤادها يخفق شكرا وانفعالا ... والخلاصة أنها آتية، وها هي أيها الأميرال.
وما كاد يتلفظ بهذه الجملة الأخيرة حتى فتحت لورانس الباب، ولبثت هنيهة واقفة على العتبة وهي صفراء متغير لونها، إذ إن قلب الوالدة يزداد رقة وشفقة أمام ضنك الولد، ومهما يكن من شدة أمر الأميرال فإن تلك الأم لم تتمالك أن نهضت ووثبت إلى ابنتها تضمها إلى صدرها وتقول: لورانس، لورانس! حبيبتي لورانس! ...
فأشار الأميرال إلى الباب وقال لابنته: والآن اخرجي واذكري ذنبك لعلك تمتنعين عن المثول بحضرتي. فأجابته لورانس بلطف، قالت: إذا كان ذنبي يستحق عقابا فقد تولاه زوجي وكان أليما.
قال: ولو تولاه غير زوجك لكان أشد إيلاما، وما أعني إلا نفسي. فلو كنت زوجك لكان انتقامي أدهى وأنكى ولا أبالي أن تموتي يأسا وعارا.
قالت: نعم، كان في الإمكان أن أموت، ولكنني لم أسئ إليك يا أبي، بل كنت وما برحت الابنة الخاضعة المخلصة، ولو نظرت إلى إخلاصي لأوجبت على نفسك الرأفة بي!
وكان السير دراك يسمع هذا الكلام، ولئن ادعى أنه بعيد عن كل تأثر وانفعال، فادعاؤه بعيد عن الصواب؛ لأنه جعل يعض شفته كي لا يجهش للبكاء. ثم تجلد وقال: نعم أيها الأميرال، لا يسمع هذا الكلام أحد إلا وفؤاده يسيل حنانا.
فلم يلتفت إليه، وأجاب ابنته بقوله: تمني على الدهر أن يخمد الكبر والألم ذاكرتي، ولكن ما دمت أتذكر فلا ترتجي مني خيرا! ...
قالت: البث يا أبي معرضا عني لا تأخذك بي رحمة، غفر الله لك هذه القسوة، ولن ألتمس عفوك ولا رأفتك، ولكنني أكلمك عن ابنتي، وأسألك أن تفتح لي باب بيتك حرصا على حياتها؛ لأنها عادت إلى باريس ولم أرها منذ عام مضى، ولا بد لها أن تراني! ... فلا تحفل بآلامي أنا المجرمة في نظركم، ولكن لا تحمل حفيدتك مثل تلك الآلام وهي البريئة من كل ذنب ... لا تحرم عليها عطف أمها ... ولئن لم أعطف عليها ها هنا فأين يكون ذلك؟ أما بيت الكونت دي موري فجنة مقفولة في وجهي ... ولست تجهل أن بوليت لا يؤذن لها بأن تزورني، فهل ترى أن ألتقي بابنتي في زوايا الطرق وعطفاتها؟ وأتضرع هناك إليها كالمتسولة لتتصدق علي بنظرة أو تتبرع علي بقبلة؟ آه! لا تطلب ذلك مني يا أبي، فذلك كثير علي.
فاضطرب الأميرال في هذه المرة، ولكنه بقي مترددا كأنه يقاوم نفسه، فقالت له زوجته: ألست ترى عذابها؟
ومن العجب أن عبرات الوالدة انقطعت وكأنها صارت امرأة أخرى غير ذاتها، أما إيليا دراك فدهش من منظرها فتغلب على انفعاله، وقال في نفسه: بدأت أتلهى وأتسلى.
فصاح الأميرال: وأنت، ألست تدرين عذابي؟ ألا تعلمين أن فؤادي يتقطع كفؤادها؟ كل جارحة في داعية إياي إلى أن أضمها إلى صدري، ومع ذلك لا ينبغي لي أن أفعل ولا طاقة لي على ذلك ... وضرب بقدمه الأرض وقال: كلا فلتذهب.
فرفعت لورانس رأسها وقالت: إني ذاهبة، وأسأل الله أن لا يناقشك الحساب يوم القيامة بمثل هذه الشدة التي تبديها لابنتك، وخطت خطوة إلى الباب، غير أن قواها خذلتها فتوكأت على كرسي، فبادرت إليها والدتها وأمسكتها وهي تقول: ابنتي لورانس، ابنتي لورانس! فأجابتها: إنني لم أشك قط في محبتك يا أماه ... ولعمري يلذ لي أن أموت في هذه الساعة شاعرة بندى عبراتك يتساقط على جبيني. قالت: وهل تريدين الموت أيتها المنحوسة؟ فتبسمت وأجابت: حبذا الموت وأنت وبوليت بين ساعدي. فقبليني يا أماه أيضا! ودعيني أمضي ، ولئن لبثت ها هنا أيضا فإن قواي تخونني، وأسقط في هذا الموضع ميتة، فوداعا يا أماه.
فضمتها إلى صدرها بقوة، وقالت: كلا، فلست أدعك تذهبين، وأنت في هذه الحال.
وانثنت إلى زوجها فقالت له: إن مناضلتك فؤادك إلى هذا الحد خشونة وفظاظة، والندم داعية العفو، كما أن الدموع داعية الشفقة، وحاشا أن تظل جافيا، وتنبذ ابنتنا وهي تترامى على قدميك.
فكاد يجن حنقا وصاح: كلا، كلا.
وكانت لورانس قد ركعت، فأنهضتها أمها وقالت لها بعزيمة: قفي يا لورانس. فقالت: ماذا تفعلين يا أماه؟ أجابت: أفعل ما يجب علي، إني مفارقة بيتا لا تدخله ابنتي ... إني ذاهبة لأمزج دموعي بدموعك.
قال الأميرال: أترومين مفارقتي أنا زوجك؟! أجابت: نعم، لأصحب ابنتي النادمة. قال: افعلي ما بدا لك، وعسى أن يكون رحيلك ماحيا ذكرى أربعين عاما مضت وملؤها الإخلاص والحب. كنت أظن الموت وحده قادرا على تفريقنا، وعسى أن لا يطيل ربي بقائي فاذهبي، وأتى بحركة كأنه يطرد بها كل من أحب في هذه الدنيا؛ أي زوجته وابنته، إلا أن فؤاده كاد يتفتت، فترامى على مقعد وبكى، ولما رأى السير إيليا دراك دموعه أخذ يسعل ويتنحنح، ثم أخرج من جيبه منديلا وأظهر أنه يمسح فاه وهو في الحقيقة يمسح دموعه. أما لورانس فلما سمعت والدتها تتلفظ بتلك الكلمات تهلل وجهها سرورا، إلا أن يأس أبيها قضى على ذلك السرور، فقالت لأمها: انظري يا أماه إلى والدي فهو يبكي. إن الرجل الذي لم تؤثر فيه عاصفات المحيط ولا معارك البر والبحر يبكي الآن، فهل تتركينه؟ البثي معه يا أماه، وعسى أن لا يكابد ما كابدته من الوحشة والهجران.
والظاهر أن هذا الكلام أخضع الأميرال، وأثر فيه كرم الخلق الذي رآه من ابنته أكثر من دموعها وتوسلاتها، فصاح يقول: لورانس، لورانس! إنك غلبتني، فالبثي ولا تذهبي.
فنظرت إلى أبيها بقلق وكأنها لم تفهم. فقال لها: نعم البثي، فلو فارقتني أمك لما عشت بعد فراقها، ومع ذلك لم أقل كلمة لاستبقائها؛ لأنها فضلتك علي، ولكنك أنت أعدتها إلي ... أنت صاحبة الفضل؛ لأنك أتيت في طلب الرحمة ولم تحصلي عليها، فتعالي أيتها النادمة المسكينة، تعالي يا ابنتي أضمك إلى صدري، وعفا الله عما سلف.
1
فصرخت قائلة: آه يا أبت.
وارتمت على صدره وهي تبكي فرحا، ولبثت كذلك وقتا طويلا، فعطفت عليهما أمها تنجدهما بالعبرات الساجمة على خديها. أما السير إيليا دراك فلم يتمالك أن وثب إلى الأميرال ليهنئه، ولكنه لما حاول ذلك منعه الانفعال عن النطق، وأحس بدمعه يسقط على خديه، فقبض على يدي الأميرال وهزهما بقوة ثلاثا وخرج مسرعا. فتمشى على رصيف الشارع لتعود إليه سكينته، وجعل يقول: وايم الحق إن ما فعله الأميرال حسن، بل حسن جدا، ولو كان في مكانه أميرال إنكليزي لما كان يفعل أحسن، ولكن ألم يقل إن إخلاص ابنته غلبه؟ إنه واهم، فهو لم يغلب ولكنه خرج من هذا المأزق ظافرا منتصرا، فانكساره هذا يرفع منزلته؛ بل يشرفه أكثر من جميع انتصاراته، ولئن كان الظفر بالعدو فوزا فالظفر بالنفس فوز أعظم!
ولما وصل إلى الفندق لقي الخادم الهندي ملطار عنده، فقال له: إني أتيت ناقلا إليك نبأ خطيرا، لعلك تتلافى خطرا كبيرا ...
وحدثه الهندي فقال له: إنه سمع محادثة بين سيده والمسيو بلميري مؤداها أن هذا الأخير طالب الكونت بوعده له؛ لأنه يروم الاقتران بابنته، فاستمهله الكونت فأبى. ثم قال ملطار: بحق السماء، هل من وسيلة لمنع ذلك القران؟ فحرام تضحية سيدتي الصغيرة بتزويجها بلميري، قال دراك: فضلا عن أنها تحب رجلا آخر على ما أعلم، ثم جعل يخاطب نفسه بقوله: بلميري؟ بلميري؟ إنني أذكر هذا الاسم.
الفصل التاسع
فيما كان الأميرال وزوجته وابنته مسترسلين إلى الفرح باللقاء بعد طول الفراق، دخل خادم ينبئ بقدوم الآنسة دي موري قائلا إنها في البهو، فصاحت لورانس وجعلت يدها على فؤادها الواجف، وكاد يغيب رشدها لما رأت ابنتها التي تركتها مريضة متألمة قد عادت إليها ممتعة بالعافية بارزة في أبهى حلة من الجمال، فتمتمت الكلام قائلة: بوليت، ولم تزد لأن الفتاة وثبت إلى أمها وتعانقتا، ودوى صوت القبلات والزفرات معا، ولما أخذت الابنة تحدث أمها بما جرى بينها وبين أبيها، انقشعت سحابة عن ذهن لورانس وصاحت تقول: ذلك لأنه يحسبني مجرمة. فقال لها والداها: ما معنى هذا الكلام؟
فكادت تتكلم، إلا أنها تذكرت قسوة أبيها، فنظرت إلى أمها وخفضت رأسها كأنها تقر بذنبها.
وبعد هنيهة، خلت لورانس ببوليت فقالت لها: لقد رميت يا ابنتي بتهم لم أشأ أن أدفعها عني، أما الآن فلا أرضى بأن ترتاب بي ابنتي أيضا، فاصغي إلي واذكري تربيتي إياك على الفضائل السامية، أجابت: إني أذكر ذلك. قالت: فهل تصدقين أن أمك كانت زوجة خائنة؟
فصاحت: لو اتهمت نفسك لكذبتك، فهل تريدين أن أوضح لك فكري تماما؟ إنك ولا شك كنت فدية لإخلاص شريف حتى أقررت بأنك مذنبة.
فاغرورقت عينا لورانس بالدموع وقالت: لله در فؤادك الطاهر يا بنية، وحسبي مكافأة على ما لقيت هذه الكلمة التي نطقت بها بعدما أملاها عليك قلبك السليم. نعم، يوجد واجب سام عظيم أكرهني على الكتمان، وكنت كاذبة حين اتهمت نفسي. قالت: ولم ذلك الكذب؟ أجابت: كذبت منعا لوقوع مصيبة هي أكبر من مصيبتي! قالت: وكيف تتحملين وحدك تبعة إثم أنت بريئة منه؟! أجابت: لم أتحملها وحدي، ولكن تحمل تلك التبعة أيضا شخص آخر. قالت: فماذا حدث لذلك الشخص الآخر؟ أجابت: إنه جاد بروحه، أما أنا فجدت بشرفي. فاصفر وجه بوليت وقالت: ومن ذاك الذي قتل؟ أجابت: إن اسمه سر لا يطلع عليه أحد، وأبوك نفسه يجهله، وهو الذي قتله! وكان الواجب يقضي علي بأن أطلع الكونت على هذا السر، فلما عزمت على القيام بذلك الواجب ثار سخط زوجي، ولعنني والدي، وفقدت صبري وشجاعتي ورشدي ... نعم، كنت مجنونة، ولم يذهب جنوني إلا حين لقيتك، أما الآن ففي طاقتي أن أبرر نفسي؛ أي أن أحمل الكونت دي موري على التندم؛ لأنه قتل رجلا بريئا، وطردني من بيته ظلما، وأحل غيري محلي، ولكن تلك زلات لا يمكن إصلاحها وتداركها ... أما أنت يا ابنتي فلا بد لك من تناسي ما كاشفتك به؛ إذ لا بد من أن أبقى الزوجة الخائنة الساقطة.
قالت: ومع ذلك فإنك ... قالت: دعي عنك هذا ولا تدعيني أندم على بث سري لك، ولا تهدمي ما شيدته، بل اكتمي السر، فهل تعدينني بالكتمان؟ أجابت: سأكتم سرك يا أماه دون أن أفهم ما تريدينه مني سوى أنك كنت «فدية الشرف».
ورأت لورانس اصفرار ابنتها، فحاولت تغيير الموضوع وابتسمت وقالت: لنتكلم عنك الآن: حدثيني بكل ما جرى لك منذ ما فارقتك إلى حين لقيتك، فقد علمت بما أصاب العمة باسيليك رحمها الله، وقد كانت تحبك، وبكيتها كأنها لا تزال شقيقتي، ولكن كلميني عن تلك البلاد الجميلة التي كنا سعداء فيها ... كلميني عن الأحباب الذين تركناهم.
فعلا الاحمرار وجه الفتاة، وبدأت تحدث والدتها عن هوى طاهر نشأ بينها وبين شاب كان يعطف عليها في غياب أهلها، وهو جاستون دي فاليير، إلى أن قالت: اعلمي يا أماه أنني أموت ولا أتزوج غير ذلك الحبيب.
فضمتها لورانس إلى صدرها وقالت: ثقي يا بنية أن جاستون دي فاليير سيغدو زوجك، ولست أعرف مثله كفؤا لك، ويسرني أن يكون الوصي على هنائك، وبعد هنيهة تفارقتا، فرجعت بوليت إلى بيت أبيها.
أما الكونت دي موري فلم يتلق خطبة أنيبال لابنته إلا بعد جدال كما يذكر القراء، وقد تمثل لذهنه قبح هذا المشروع، إلا أن الإفلاس قضى عليه بقبوله؛ لأن شرفه وحياته كانا رهن ذلك القبول، ولو درى أن بوليت قد وهبت فؤادها لخطيب آخر لعد عمله جريمة، وكان ارتباكه عظيما حين أتى أنيبال يذكره وعده، فأجابه: بحقك لا تكلمني عن هذا الأمر اليوم، بل أمهلني بضعة أيام أيضا.
فأجابه الإيطالي بجفاء، قال: لما كان الغرض إنقاذك من العار والفضيحة لم أستمهلك أياما ولا ساعات؛ بل جئتك ويداي مفتوحتان، وقلت لك: أبشر بالسلامة وإليك شرطي، فقبلته واتفقنا، إذن عليك أن تكلم الآنسة بوليت اليوم. أجاب الكونت وهو منكسر القلب: إني وعدتك ولا أخلف وعدي.
واجتاز بهوا إلى مخدع ابنته، وكانت قد عادت من زيارتها الأخيرة، فقال لها: هل رجعت مع وصيفتك الآن؟ أجابت: نعم. قال: ليست هذه الوصيفة بالرفيقة الصالحة لك، ولكن سوف تكون لك وصيفة أصلح منها ... ولكنك لم تخبريني، هل لقيت جديك؟
أجابت: نعم، فهل تمنعني من أن أزور منزلهما؟ قال: لا، فاطمئني واذهبي إلى منزلهما حينما تشائين.
فطوقت عنقه بساعديها شاكرة، فقال لها بعد أن نظر إليها مليا: وددت لو أراك على الدوام كما أنت الآن، وهذه أول مرة بعد قدومك من الهند أرى في وجهك أمارات الحب لي كما كنت أراها قبلا، قالت: ولكن هذه أول مرة تلاقينا فيها على انفراد.
فتردد في إخبارها عن السبب الذي من أجله خلا بها، ثم قال في نفسه: لست أستطيع أن أكشف لها الستر عن حقيقة حالي، وأبين لها الضرورة القاضية علي بأن أزوجها من لا تحب، ولكن يجدر بي أن أعهد بهذه المهمة إلى الأميرال وزوجته.
وفي اليوم التالي قصد إلى منزل الأميرال، إلا أنه لم يكن في البيت، فأشار عليه الخادم بأن ينتظره في البهو هنيهة ريثما يعود. فقال الكونت: لا بأس، أنتظر. قال الخادم: هل تأمرني بأن أنبئ سيدتي عن قدومك؟ أجاب: بلا شك.
وقد عنى الخادم بقوله «سيدتي» لورانس نفسها؛ لأنها أقامت في بيت والديها بعد أن نقلت إليه أمتعتها، غير أن الكونت لم يفهم مراد الخادم؛ بل ظنه يعني زوجة الأميرال، ولذلك كان اضطرابه عظيما حين رأى لورانس مقبلة عليه، فصاح: أنت في هذا البيت!
فجمدت لورانس؛ لأن لهجته حين تلفظ بهذه الجملة كانت تشف عن سخط ووعيد واحتقار. فقالت له: إنك طردتني من بيتك، فهل أتيت لتعنف والدي ووالدتي على كرامة أخلاقهما من نحوي؟ فأجابها: لا يحق لي النظر في أمرك، ولكن لو عرفت أنك ها هنا لما بعثت ابنتي إلى هذا البيت، ولا أتيت إليه.
قالت: إن ابنتك هي ابنتي أيضا، ولم يدر في خلدي إبعادها عنك ...
ثم انخفض صوتها وهي تقول: إن الحظ المشئوم قد جمعنا الآن، ولعلك تستخدم هذه المصادفة لتحرمني حق اجتماعي ببوليت مرة ثانية ... وما دمت قد رضيت عن تعذيبي، ولم يبق لديك وسيلة لتزيد بها عذابي، فأنا أتركك وحدك.
قال: بل البثي هنيهة، وما دامت المصادفة جمعتنا فلننتهز هذه الفرصة للاتفاق على أمر يهمنا نحن الاثنين؛ أريد أن أكلمك عن ابنتنا.
قالت: ما عسى أن تقول لي أكثر مما قلته لنفسي؟ فإن سخطك قد تجاوز كل حد؛ لأنك تأبى علي أن أرى ابنتي، فما عسى أن تروم مني بعد؟
أجاب: أروم أن تفهمي أن ما فعلته لم يكن من سخط جنوني كما تظنين؛ فالحكم الصادر بقطع كل صلة بيننا يخولني حق الوصاية الشرعية على بوليت والرعاية لها دونك، وإنما صدر هذا الحكم حماية لمستقبلها وشرفها. قالت: لم يخطر ذلك ببالي قط. فازداد حنق الكونت برغمه، فقال: ثم إن هذا الحكم يراد به أن لا يضطر الزوج المخدوع إلى أن يلمس بشفتيه جبين ابنته فيجد عليهما أثر قبلات الزوجة الخائنة.
فارتعدت لورانس من هذه الوقاحة، وقالت: أي رجل أنت؟ ...
أجاب: أنت صيرتني إلى ما ترين.
قالت: وكيف ذلك؟
أجاب: إن الغضب الذي أورثتني إياه خيانتك يعدل حبي السابق واحترامي لك، فلا تستعطفيني؛ لأنك تستعطفين غير راحم.
قالت بحدة: إذن لا تتكلم عن حب سابق؛ فالرجل الذي يتجنى علي بهذه الشدائد لم يحبني قط، ولما سمع الكونت روجر هذه الكلمات نسى كل شيء إلا أمرا واحدا حقيقيا هو أن حبه السابق لا يوازيه حب آخر، فضحك كمدا وقهرا، وقال مخاطبا نفسه: إنها تجسر على اتهامي بأنني لم أحبها! رباه، إنها تجسر على ذلك!
ورفع يديه إلى السماء يستشهد الله على كذب هذه التهمة، ثم قال: إنها تجسر على ذلك، وأنا الذي وهب لها حياته، وناضل سريرته وفؤاده، حرصا على هواها وكانت في أثناء ذلك تخونني دون أن يخطر في بالها أنني قد أموت يأسا وغما!
والظاهر أن هذه الكلمات لم تقنع لورانس؛ لأن الأعمال كانت مكذبة للأقوال، فابتسمت وقالت: أنت تموت يأسا وغما؟! لعمري إنك تعزيت سريعا، وكانت سلواك موازية خطر الموت الذي تدعي وجوده. فدنا منها وهو يصرف بأسنانه وقال لها: نعم، لقد أسرعت في الاقتران بامرأة أخرى، وهذا ما تقولينه الآن، ولكن من يدري أن تلك السرعة لم تكن ناجمة عن رغبتي في الانتقام منك؟
فخامر فؤادها فرح لا يوصف، وقالت بصوت خافت: أحقا أنك تعذبت كثيرا؟ فقبض على ساعدها بعنف وقال: هل تظنين أنني تمكنت بسهولة من انتزاع هواك الواشجة عروقه في قلبي منذ ثمانية عشر عاما؟
وكانت هذه الكلمات في أذن لورانس كرنات المثالث والمثاني، وخيل لها أنها ترى الماضي ينشط إلى الظهور في مظهر جديد من الهوى، ولذ لها أن تشهد عذاب زوجها في هواها، فغمغمت تقول: أحقا أنك بكيت كثيرا؟ فتقهقر عنها، وأبرز لها وجهه حتى تتفرس فيه على نور النافذة، وقال لها بخشونة: انظري إلي، انظري إلى وجهي الشاحب، وعيني الخامدتين، وشعري الأشيب، ولا تسأليني عما إذا كنت قد تعذبت، فما ترينه من أمارات الأسى كان من عمل يوم واحد، بل من عمل ساعات، إنك صيرتني شيخا في ساعات معدودة! لا جرم أن حبي إياك كان عظيما حتى لقيت ذلك العذاب.
قالت: والآن؟ فصاح: والآن قد حلت البغضاء محل ذلك الحب الأعمى، أجل، أنا أبغضك بكل قوى شرفي المفقود وتذكراتي وآمالي الضائعة، فافهمي ما أقول، إنني أبغضك.
فتهلل وجهها وصاحت: أنت تبغضني! أنت تبغضني! أعد على سمعي هذا الكلام، فإنه يرن في فؤادي ويطربني أكثر من بث الهوى، ويلذ لي سماعه في كل ساعة. لقد كنت أحسبك غير مكترث فكدت أهلك شجنا، أما الآن ففي طاقتي أن أحيا؛ لأن سخطك ووعيدك أنعشا قواي، وأعادا إلي بسالتي، فلو لم تكن تهواني لما أبغضتني.
فكاد يقع في مكانه ولم يقو على الاحتجاج، وقال: هل تبلغ به النذالة هذا الحد؟
فتمشت إليه وقالت: نعم، فإنك لا تزال مقيما على حبي! ... بيني وبينك ذلك الهوى الذي تروم أن تقضي عليه وهو لا يزداد إلا تمكنا ورسوخا، فافعل الآن ما تشاء، فكل ما يحل بي منك عذب لذيذ، حتى غضبك وجفاؤك وخشونتك.
قال لها: بحق السماء، اسكتي.
فرفعت رأسها وقالت: افعل ما شئت، وأنكر هواي، إلا أنك أسيري، وكل شيء فيك يحتج عليك. افعل ما شئت فلا أبالي، خذ ابنتك وحرمها لقائي، وأبقها لنفسك وحدك، فإنك تنظر إلي حين يقع بصرك عليها ... وإنك تشعر بقبلاتي حين تقبلك، وتلثمني حين تعكف على لثمها.
فحاول الانصراف متوكئا على المقاعد والجدران وهو يقول لها: بربك اسكتي. قالت: نعم أسكت بشرط واحد، تجرأ وقل إنك لا تحبني.
فحاول الكذب وقال: لا أحب ... لكنه لم يتم جملته بل أقر بالانخذال. جثا أمامها وقال لها: بل لا بد من الإقرار برغمي ورغم خيانتك وخجلي وثورة شرفي، أن ما أفعله نذالة، ولكنك أنت التي دفعتني إليها، وما دمت تكرهينني على ذلك الإقرار فاسمعي الكلمات التي انتزعتها من فؤادي بعدما سحقته سحقا: برغمي، نعم، أنا لا أزال أهواك.
فكادت تصيح به قائلة: كن مقيما على هواي؛ لأني لم أخنك قط، إلا أنها توقفت لأن احتجاجها الآن لا يجدي نفعا، وهي لا تريد أن يمس شرف والدتها، فاكتفت بأن قالت: يمكننا أن نعترف ولا يرى أحدنا الآخر إذا وجب، وسوف أكتم في صميم فؤادي سر فؤادك، حريصة عليه حرصي على كنز، ومهما يطل افتراقنا فإن روحينا تتحدان، فوداعا يا روجر. أنت تحبني ... وأما أنا فأعبدك عبادة!
وعجل افتراقهما وقع خطى الأميرال وزوجته، وكان قد عاد منذ ربع ساعة، ودهش إذ علم بوجود الكونت دي موري في البهو، وزاد دهشة لما علم أيضا أن ابنته في البهو كذلك، فاتفق مع زوجته على أن لا يدخلا عليهما، ولكن لما طال الوقت قلق وزوجته فعزما على إسعاف ابنتهما في موقفها أمام الرجل الذي طلقها وطردها، وكان عندهما شخص آخر جاء إلى البيت وقتئذ، فتركاه وتمشيا إلى البهو، فدخل الأميرال في الأول، فأبصر لورانس وروجر واقفين والانفعال باد عليهما، فحيا وقال: لقد رغبت في مقابلتنا أيها الكونت؟
فانثنى الكونت إلى لورانس وقال: لا أرى بدا من أن تسمعي الحديث الذي أتيت لأجله، فإن الحوادث الأليمة التي فرقت بيننا لم تقلل من احترامي لشخصك أيها الأميرال؛ ولذلك جئت أطلعك وزوجتك الفاضلة على أمر عقدت النية عليه، وهو يتعلق بابنتي.
قال الأميرال: ما هو؟ أجاب: لقد عزمت على تزويجها.
فصرخت لورانس: تزويج بوليت؟
قال: نعم، نشأ هذا العزم عندي منذ تفرقت أسرتانا، فإن حالتها باتت حرجة بالنظر إلى ذلك التفريق، وكنت قد قررت تزويج بوليت دون أن يقع الاختيار على الزوج، وأما الآن فقد وقعت حادثة مشئومة أكرهتني على اختيار الزوج الذي أكلمكم عنه، وسأطلعكم على اسمه، فهو المسيو أنيبال بلميري.
ولما تلفظ بهذا الاسم خفض صوته كالخجول، فجعل كل يردد ذلك الاسم غضوبا، وكأنما نزلت بهم جميعا نازلة ألزمتهم الجمود. فلبثوا هنيهة وكأن على رءوسهم الطير إلى أن تكلمت لورانس في الأول، فمدت يدها إلى جبينها تمسحه، ثم قالت: يوجد في هذه المسألة أمر خفي لم تتكلم عنه، ولا بد أن يكون ذلك الأمر قد أملى عليك هذه الكلمات التي سمعناها منك، فأوضحه لنا، وإنما اعلم أنك لا تستطيع أن تقول لي إنك عازم على تضحية ابنتي لشقيق المرأة التي اختلست مكاني دون أن تنبئني بما يدفعك إلى هذا العمل، فتكلم، إني مصغية إليك.
وكأنما تغيرت الحال؛ فإن الكونت دي موري طأطأ الرأس بعد أن كان يتكلم بلهجة السيد الآمر، فقال الأميرال أيضا: نعم، لا بد أن نعرف السبب ...
فأجاب بكآبة: «لذلك وحده أتيت، ولعلكم ترأفون في الحكم علي متى اطلعتم على جلية أمري، فاعلموا إذن أنني بعدما أصبت في حبي نزل بي مصاب آخر؛ خسرت في الأول شرف الزوج، ثم كدت أخسر شرف الرجل النبيل، وقعت لي أمور يطول شرحها ولا فائدة منه فأضرت باسمي وشرفي، ولا أزال حتى الآن هدفا للمحاكمة في محكمة الجنح.»
فصاح الثلاثة وهم مرعوبون: أنت! أنت! فأجاب: نعم أنا، ولكنني لا أظنكم ترتابون بسلامة نيتي ولا تتهموني إلا بالغفلة، ومهما يكن من الأمر فلما ظهر لي الخطر أيقنت بالخسارة، ولم يبق أمامي إلا سجن الأثيم أو رصاصة الرجل النبيل الذي تطارده الحكومة لذنب أتاه دون قصد، وفيما أنا كذلك جاء رجل فأخذ بناصري.
قالوا: فمن الرجل؟
أجاب: هو من ذكرت لكم اسمه؛ هو أنيبال بلميري، قد اقترح علي إنقاذي من تلك المصيبة، لكنه اشترط علي أن أزوجه ابنتي، وقبلت شرطه.
فانبرت لورانس كاللبوة التي تدافع عن أشبالها، وقالت: كلا، ذلك لا يكون أبدا، إنك وعدته، ولكنك لم تعاهده إلا عن نفسك ... وعندئذ انفتح الباب وظهرت بوليت، فأتمت جملة أمها قائلة: وبوليت تفي بوعد أبيها، فأنا مستعدة للاقتران بالمسيو بلميري يا أبي. •••
قلنا إن الأميرال وزوجته تركا في البيت شخصا آخر، وكان ذلك الشخص الفتاة بوليت، وقد أتت تزور جديها وأمها مصحوبة بوصيفتها، فصادفت الأميرال عند باب البيت، وعلمت بقدوم أبيها، ثم لما تركها الكل خطر لها أنهم سيتكلمون عنها؛ فأنصتت من وراء الباب فسمعت الحديث، فاستيقنت أنها ستفقد هناءها بذلك الزواج، فأملى عليها الإخلاص تلك الجملة التي قالت فيها إني مستعدة للاقتران بالمسيو بلميري يا أبي.
ثم خذلتها قواها، ولو لم تمسكها والدتها لوقعت على الأرض، فصاحت لورانس: ابنتي، ابنتي، عودي إلى هداك وتناسي هذه الكلمات التي تلفظت بها دون تدبر، فإنك تجودين بحياتك وهنائك. فأجابتها: بل أشتري شرف أبي.
ثم انثنت إلى أبيها وقالت له: أصبت في عدم ارتيابك بإخلاصي، وأحسنت فيما فعلت.
وأسندت رأسها إلى كتف لورانس، وقالت لها بصوت خافت: يلوح لي أن في فؤادي شيئا قد انقطع ... ولا أدري ما أعاني ... ولا أتألم ... آه يا أماه، أظن أن أجلي قد دنا!
فتفرست لورانس في وجهها فإذا هي صفراء كميتة، ثم سمعتها تئن أنينا ضعيفا وتقول: وداعا يا أماه!
وأفلتت من يدي لورانس فسقطت على الأرض. جرى ذلك في بضع ثوان، فصرخت لورانس صرخة موجعة وقالت: وا مصيبتاه.
وارتمت على ابنتها وحملتها وهي تكاد تجن حزنا، أما الكونت والأميرال فتسلط عليهما الرعب من يأس الأم وإغماء ابنتها، وبعد جهد تمكنا من أخذ بوليت فمدداها على مقعد، وفركت جدتها صدغيها بالماء، ولورانس ترش على شفتيها الحياة ، فقالت: إنها تحركت، فهي لا تزال حية.
وبكت بالدمع الغزير، فالتفت الأميرال إلى الكونت مشيرا إلى المرأتين وقال له: لئن كنت قد لقيت إساءة؛ فإن الانتقام كان أعظم، فخفض دي موري رأسه وبكى كذلك، فتركوا الأم وابنتها معا، وظنت هذه أن التعب أثر في الفتاة فلا بد أن تنام، فلم تشأ أن تكلمها، إلا أن بوليت، وهي مغمضة العينين، ضغطت على يد أمها، وأخذت تتكلم خافضة صوتها، فقالت: لقد تفكرت مليا منذ بضع دقائق، فقد كان نصيبنا أنا وأنت العذاب دون أن نجني ذنبا، فكأننا اقتسمنا الحب والأشجان معا، ولا أرى أفضل من اقتراحنا لتبقى كل واحدة منا على شجاعتها.
فصاحت لورانس: ألم تجدي غير الفراق وسيلة؟ أجابت: لا، وقد تذكرت زمن حداثتي الأولى؛ إذ كنت أقع فأتألم فأنهض وأعدو عندما لا يقع بصرك علي، إما إذا وقع بصرك علي فكنت أبكي لشعوري بحزنك علي وألمي معا، وهكذا يكون شأني الآن في هذه الورطة، ولعل اعتمادي على نفسي ينقذني من الآلام.
ثم نهضت وقالت: أودعك يا أماه. فأمسكت رأس ابنتها وضمته إلى صدرها بلهفة، ثم إن الابنة خرجت مع أبيها إلى مركبة، وعادت إلى منزله.
الفصل العاشر
بعد هذه الحوادث بيومين أو ثلاثة دخل خادم الفندق على السير إيليا دراك وقال له: إن الأمير يروم مقابلتك. فقال: ألا ننتهي من هذا الأمير؟ ولكن دعه يدخل.
ولما خلا به قال له: كيف حال هؤلاء القوم؟ أجاب: إنها أسوأ حالا من ذي قبل، أفلا تزال عازما على السفر؟ أجاب: بلا شك، وإني مسافر في هذه الليلة إلى إنكلترة. قال: إذن ستجتمع على أسرتك؟ أجاب: لا أسرة لي. قال: إذن على أصدقائك؟ أجاب: ولا أصدقاء لي. قال: إذن تعود إلى وطنك؟ أجاب: وطني؟ وطني؟ ولعلك تريد به البلد الذي ولدت فيها وغادرتها وأنا صبي. قال ملطار: ما دام الأمر كذلك فلماذا ترتحل عن باريس وفيها من يحتاج إليك؟ أجاب: هذا داع على وجوب تخلصي بالفرار ... ولكن من الذي يحتاج إلي؟ قال: سيدتي الصغيرة . قال: ولكن أبوها عندها. أجاب: نعم، لسوء حظها. قال: وأمها! ... أجاب: لا، لسوء حظها، قال: ألم ينقض أمر لورانس مع أبيها؟ أولا تجتمع بوليت على أمها كل يوم في بيت الأميرال؟ أجاب: لقد حدث أمر جديد.
وكان الشيخ الإنكليزي منحنيا على حقائب أمتعته يحزمها استعدادا للسفر، فتوقف وقال: ماذا حدث الآن؟ أجاب: إني ذهبت أمس فلقيت الكونتة، قال: أية كونتة تعني إذ يوجد اثنتان؟ أجاب الخادم بغضب: لست أعرف إلا واحدة هي السيدة لورانس، فأعلمتني أن ابنتها لا تريد أن تأتي لتراها بحجة أنها عازمة على الاقتران. قال: بالرجل بلميري الذي كلمتني عنه قبلا؟ ألم يبطل هذا المشروع؟ أجاب: كلا، وا أسفاه! ولا يستطيع أحد إبطاله. قال: بل يوجد وسيلة قد فكرت فيها أنا. قال: ما هذه الوسيلة التي تنقذ بوليت من الموت؟ لأن سيدتي الصغيرة تموت ولا شك.
فجعل الإنكليزي يتمشى في الحجرة، ويقول: تموت ولا شك! ...
ثم وقف قبالة الخادم وقال له: هل تظن أن بوليت تقبل مني زورة إذا شئت إطلاعها على وسيلة تنقذها من ذلك الزواج المكروه؟ فأجابه: نعم، بل يسرها أن تراك.
قال: إذن عد إليها وقل لها إنني أزورها، وبودي أن ألقاها دون أن أرى أباها؛ لأنني لا أحبه ... فهو علة هذه العلل، وفي اعتقادي أنه لا قلب له ولا نفس ولا جوانح ... فقال له ملطار: سأدخلك البيت دون أن يراك أحد، وبعد ساعة كان السير دراك عند بوليت، فارتمت على عنقه وقد شعرت بأنه نصيرها الوحيد، وأخذت تبكي وتقول له: ما أعظم سروري بلقائك فشكرا لك. فأجابها: إنني أتيت اتفاقا لتمضية الوقت، ولكن أصحيح ما قاله لي ملطار من عزمهم على تزويجك؟
أجابت: لقد أخطأ ملطار؛ فأنا التي عزمت على الزواج. قال: تكاد تكون النتيجة واحدة، ولكن ما عسى أن يقع للمسكين دي فاليير إذا تزوجت؟
فصاحت: واحسرتاه على جاستون! قال: ومع ذلك يوجد وسيلة لمنع هذا الزواج اللعين، وما عليك إلا أن تقولي كلمة واحدة، ويوجد أمر لم أخبرك به عن نفسي هو أنني ماهر في الرياضة البدنية.
فنظرت إليه بحب وامتنان وقالت: أعرف أنك تسبح جيدا. أجاب: نعم، أنا أحسن السباحة ... ولكن يوجد شيء آخر أحسنه؛ هو استخدام السيف كمعلم يتعاطى تدريس هذا الفن. ثم إنني أحذق الرماية فأصيب ذبابة على بعد ثلاثين خطوة، ولم أنتفع قط بهذه المزية، وأظن أن هذا اليوم وقت الانتفاع بها؛ لأنني لا أحب خطيبك بلميري وإن لم أره، فهل يسوءك أن أجرب نفسي معه؟
قالت: كلا لا تفعل، فهو لم يسئ إلي، بل كان كريما مع أبي، ووثق بكلامي، ولا بد لي أن أغدو زوجته! ... لا بد لي، فهل فهمت؟ ...
قال: فمتى يكون العرس، إن شاء الله؟ أجابت: في أقرب وقت، وربما بعد أسبوعين. فهم بالنهوض، فمدت إليه يدها لتودعه، وإذا بالباب قد انفتح، ودخل أنيبال بلميري، فأرجعت يدها، فأدرك السير دراك رغبتها في مكثه عندها، فعرفت كلا من الرجلين بالآخر، ثم خرجت تاركة إياهما معا. فقال أنيبال: هل أنت يا سيدي من أوصل خطيبتي إلى باريس؟ فحدق فيه السير دراك وأجاب: نعم، أنا، وهل أنت ذلك السعيد الذي عزم على الاقتران بمن كانت رفيقتي في السفر؟ أجاب: نعم، أنا ذلك السعيد. قال: ولكن قد تقرر هذا الزواج سريعا؟ أجاب: لأنني افتتنت بمحاسن الآنسة بوليت. فهل تجد ذلك أمرا غير طبيعي؟
أجاب: بل أجده طبيعيا جدا ولا شك عندي أن هذا الهوى المفاجئ كان متبادلا؛ أي إنه نزل بالخاطب والخطيبة نزول الصاعقة، كما يقولون في فرنسا.
فأحس أنيبال بالتهكم من وراء هذه الكلمات وكاد يغضب، إلا أن الإنكليزي ابتدره بقوله: هل لك أن توضح لي أمرا أشكل علي؟ فإنني ما ذكرت اسمك إلا تذكرت أنني سمعت به قبلا. فاصفر وجه أنيبال، إلا أنه كتم اضطرابه، وقال: لا عجب إذا كان اسمي معروفا، فإن المسيو بلميري عمي قد أثرى في إدارة مصرف وورثنا أنا وشقيقتي ثروته، ولعلك سمعت باسمي لأبي أنا. قال دراك: هل مضى زمن طويل على الإرث الذي تتكلم عنه؟ أجاب: سنة واحدة. قال : لم يمض زمن طويل، فهل أنت إيطالي؟ أجاب: نعم، إيطالي الأصل، غير أنني ولدت في الهند. قال دراك: بدأت أفهم ... قال بيبو: ماذا؟ أجاب: لا بد أن أكون سمعت باسم أسرتك وأنا في الهند، ولكن بقي شيء أيها العزيز نسيت أن أخبرك به، وهو أنني تلقيت الآن مهمة شاهد في زواجك عهدت إلي بها خطيبتك. فأجابه: لقد سرني وقوع اختيارها عليك. قال: يا ليتني أتعرف بشقيقتك فإنني لم أرها بعد. قال: سوف تكون في منزلها غدا مساء، وموعد استقبالها الزائرين أيام الجمع، فأهلا وسهلا بك.
قال: إني أودعك الآن يا مسيو بلميري ... وبقيت لي كلمة أيضا أرجو أن تقولها لخطيبتك، هي أنني لا أزال مستعدا لإسداء اليد التي رفضتها. أجاب: اعتمد علي في ذلك.
فانصرف دراك بينما كان أنيبال يقول في نفسه: ما أكثر ثرثرته، ولكن ما عسى أن تكون تلك اليد التي تكلم عنها؟ إني أود معرفة ذلك. •••
وصلنا الآن إلى صباح اليوم المعين للزواج، وكان موعد الحفلة الساعة الثانية بعد ظهر ذلك النهار؛ أي إنه لم يبق إلا خمس ساعات بين بوليت والوقت الذي يقضى فيه على آمالها إلى الأبد، وكانت تقول: ما لهذا اليوم من غد بالنظر إلي، وكانت تمد يدها إلى جيبها فتلمس خنجرا صغيرا جاءت به من الهند؛ وهو سلاح قاتل مسموم النصل سما يعرفه سود أفريقيا، فلو وخز الساعد به لفعل السم فعله. أما كيفية وصول ذلك الخنجر إليها فهي أن المسيو دي فاليير أراها إياه ذات مرة وقال لها: إذا قضي عليك يا بوليت فهذا الخنجر ينقذني من الحياة بعدك. فارتاعت بوليت وانتزعته من يده، ولكنها حفظته لديها وقالت في نفسها: إن هذا السلاح يصلح لي إذا قضي علي بأن أتزوج غير جاستون.
ولما سمعت الساعة تدق العاشرة تذكرت أنها واعدت السير دراك على المجيء في ذلك الوقت لتسلمه شيئا، هو رسالة كتبتها في الليل، وقد تأخر إلى الساعة العاشرة والربع، ثم أتى فاعتذر بقوله إنه كان ينتظر ورود رسائل برقية ذات شأن . قالت: ما هذه الرسائل البرقية؟ أجاب: إنها لا تهمك، وسوف أعود إلى فندق اللوفر بعد أن أتلقى المهمة التي لديك، فلا أخرج منه إلا في ساعة الحفلة ... فماذا تريدين؟ هل أعجبك اقتراحي؟ وذكرت مهارتي في استخدام السلاح؟
فتبسمت وأجابت: كلا، فلست أريد أن يموت أحد بسببي، ولكنك تدري أن والدتي لا تشهد حفلة العرس، ولست تجهل أنني في حاجة إلى الصبر والبسالة، وأن حضورها يحملني على الضعف وخوار العزيمة، فرأيت أن أكتب إليها رسالة تسلم إليها اليوم بعد خروجنا من الكنيسة، فهل تتكرم علي بإيصالها؟
أجاب: بلا شك، وها أنا ذا أفعل قبل رجوعي إلى الفندق فهاتي الرسالة.
فقالت بحدة: كلا، لا تسلمها إياها الآن، ولكن في النهار بعد انقضاء الحفلة بساعة، فهل أعتمد عليك في ذلك؟
أجاب: نعم، وأنت تعلمين أنني أفعل ما تريدين. قالت: هل تعدني وعد الرجل الشريف؟ أجاب: نعم. قالت: أتقسم لي بشرفك على أن لا تسلم هذه الرسالة إلى والدتي إلا بعد انقضاء حفلة زفافي بساعة؟ أجاب: كيف لا أقسم؟ وحلف لها كما أرادت. فقالت له: إني أشكرك يا صديقي وأثق بك.
ومدت يدها إليه فصافحها، ثم قالت: إني ذاهبة لملاحظة ملابسي؛ إذ ينبغي أن أتزين بأجمل ما عندي شأن كل عروس في حفلة زفافها.
وانطلقت مسرعة، فما كادت تحتجب عن بصر السير إيليا دراك حتى انثنى إلى الهندي ملطار وقال له: سر مستعجلا فاحمل هذه الرسالة إلى أم بوليت، وإياك والإمهال. قال: ولكنك وعدت سيدتي الصغيرة بأن لا تسلمها إلا بعد الحفلة ...
فلم يدعه يتم كلامه بل قال: سر وأسرع، ولولا اضطراري إلى الرجوع إلى الفندق لأوصلت الرسالة بنفسي، واعلم أن بوليت في رسالتها هذه تودع والدتها التوديع الأخير. أفلا تريد أن تبلغ السيدة لورانس عزم ابنتها على الانتحار قبل فوات الوقت؟
فلم يكد يسمع الخادم الأمين هذه الكلمات حتى مر بالرسالة مرور السهم. أما السير دراك فقصد توا إلى الفندق.
فلندعهما سائرين، كل في سبيله، ولندخل منزل الكونت دي موري؛ فإن الكونتة الجديدة استصحبت أخاها وهي تروم أن تقبل بوليت قبل سائر الناس! فأجابت بوليت أنها في حاجة إلى بضع دقائق لإتمام زينتها وأنها ستلحق بالكونتة إلى البهو بعد ذلك. فكان أنيبال وأخته ينتظران، حين انفتح الباب، وسمعا صوت الكونتة دي موري الأولى مرتفعا وهي تصرخ قائلة: لا بد لي من الدخول.
فانثنت جرجونة وعرفت لورانس، فتلاقت الكونتتان، فقالت الإيطالية: أنت هنا عندي؟ قالت لورانس: لست أدرى أين أنا، وإنما عرفت أمرا واحدا يهمني أكثر من العالم كله؛ هو أن ابنتي عازمة على الانتحار، وأتيت لأمنعها منه.
قال أنيبال وأخته معا: عازمة على الانتحار؟!
أجابت: نعم، وذلك لكي لا تغدو زوجة للراغب في الاقتران بها.
قالت جرجونة: أنت مجنونة، فلا تمسنا إهاناتك، ولكن لا يمكن احتمال المجانين في بيوت الناس فاخرجي من هنا.
أجابت: لا أخرج من هنا حتى أرى ابنتي وأسير وإياها معا ...
فوقفت جرجونة أمام باب مخدع لورانس، فمدت هذه يدها لتبعدها، وهم أنيبال بمساعدة أخته إلا أن جرجونة قالت بأنفة وكبر: لست أقبل مساعدة على هذه المرأة إلا من شخص واحد هو زوجي، فاذهب يا أنيبال وناده وهو يحكم بيننا.
فخرج بلميري مسرعا، ثم عاد ومعه الكونت، فلما رأت جرجونة زوجها مقبلا رفعت صوتها وقالت: تقدم يا سيدي وأنقذني من وعيد هذه المرأة وإهاناتها.
فدنا الكونت من لورانس وهو كاره لتوبيخه إياها، فقال لها: هل تعلمين ما وراء دخولك هذا البيت؟ فأجابته: لم أدخله للجدال؛ وإنما أردت أن أرى ابنتي، لأن كل والدة ترى الدفاع عن حياة ابنتها أول واجباتها.
فقلق وقال: أي خطر على حياتها؟
فتعرضت كلوديا وقالت: إن هذه المرأة تعتقد أن ابنتها في خطر لمجرد تزوجها أنيبال بلميري، فهي تحرص الآن على شرف اسمك بعدما لوثته بعارها.
فلم تكترث لورانس لهذه الإهانة، وقالت: إن هذا الزواج كحكم على ابنتك بالإعدام وإليك البرهان: انظر إلى هذه الرسالة فهي تودعني بها التوديع الأخير، وكان ينبغي أن تسلم إلي بعد حفلة الزواج، ولكن لحسن الحظ سلمها إلي ذلك الصديق الذي تعهد بها قبل الموعد؛ لأنه أدرك غرضها من كتابتها، ولو بقيت هذه الرسالة إلى ما بعد الحفلة لثكلت ابنتك الليلة، وقد قرأنا أنا ووالدتي هذه الرسالة الموجعة، فهي مبللة بعبراتنا، فاقرأها حتى تتحقق أن هذا الزواج يقتل ابنتك قتلا فظيعا. فألقى الكونت نظرة على تلك الصفحات، فعلم أن ابنته تهوى جاستون دي فاليير وتكره الرجل الذي يريد التزوج بها بشفاعة أخته، فقال للورانس بصوت مؤثر: كوني مطمئنة؛ فإن بوليت تعيش، وهذا الزواج لا يعقد، وأحمد الله على أن في الوقت متسعا. فانبرت الإيطالية تقول باحتقار: لقد كان يجب علينا أنا وأخي أن نتوقع الحنث من الرجل الشريف الذي يبيع شرفه بأرخص الأثمان. قال دي موري: بل أنت واهمة؛ فلست أنسى ما لكما علي من دين، ولكن بدلا من أن أعهد إلى ابنتي بوفائه سأفيه بنفسي في هذه الليلة ... فكونا واثقين بأن شرف الرجل النبيل لا يستمر رهينا بين أيديكما أو بين أيدي سواكما. إن دمي يفي الدين الذي عجزت عن قضائه بمالي.
فصرخت لورانس صرخة هائلة، وقالت: أحقا أنك تجود بنفسك لتفي دينا مستحقا؟ وأنك عازم على الانتحار لأجل النقود؟ إذن كل شيء ينقضي على سلام، فأنا أنقذك وابنتك معا! ...
فصاحت الإيطالية: أنت! وقال الكونت: كيف تستطيعين إنقاذنا؟
أجابت: عندما حكمت المحكمة بطلاقنا سلمت إلى المسجل نحو ثمانمائة ألف فرنك، فهذا المال خذه يا روجر، إنه مالك. أجاب: لست بقادر على قبول عطيتك، وأنت الشخص الوحيد الذي أرد مساعدته. قالت: إذن فالوالد والولد يجودان بالروح؛ لأن الأم كانت ... قال: لأن الأم كانت مجرمة، ذلك عقاب المرأة الزانية.
فكبر عليها سماع ذلك الكلام، ورفعت رأسها وقالت: كفى، وحسبي ما لقيت من خجل وشجن ويأس، أما الآن فنفسي تنهض ثائرة ورأسي يرتفع. فصاح الكونت: ما معنى هذا الكلام ...؟
وإذ ذاك دخلت زوجة الأميرال في البهو، ويذكر القراء ما قالته لورانس منذ هنيهة؛ فإنها قرأت ووالدتها معا رسالة بوليت، فبادرت لورانس مسرعة، أما أمها فتأخرت عنها إلى ذلك الحين.
فصاحت لورانس: تعالي يا أماه. قالت: فكيف بوليت؟ قالت: إنهم يمنعونني من إنقاذها. قالت: ماذا تقولين؟ أجابت: أقول إن الكبرياء لا بد أن تسوق الكونت دي موري إلى أحد أمرين: انتحاره أو قتل ابنته.
فانثنت إلى الكونت وقالت: أصحيح ذلك؟ فأجابها: إنني أحكمك في هذه القضية. أجابت تحكمني أنا؟ أجاب: نعم. قالت لورانس: وهل ترضى بحكمها؟ أجاب: نعم أرضى. قالت: وهل تقسم على هذا الرضى؟ فرفع يده وأجاب: نعم، أقسم.
قالت: إذن دعني لأخلو بوالدتي إذ لا بد لي أن أكلمها على انفراد. فنهض الكونت وقال لزوجة الأميرال: إني أسلمك ما هو أعز عندي من الحياة؛ إنني أسلمك شرفي.
فأجابته: وإنني لحريصة عليه فلا تخف.
فانحنى الكونت وخرج مصحوبا بزوجته الثانية. فلما خلت الأم بابنتها قالت لها: تكلمي الآن. قالت: أنت تعلمين يا أمي أن الكونت دي موري يريد أن يزوج بوليت ببالميري لينقذ شرفه. أجابت: نعم، أعلم ذلك. قالت: ولا تجهلين أن هذا الزواج يقتل بوليت ... فأردت إنقاذ من أحب، فاقترحت على الكونت أن أهب له البائنة التي وصلت إلي منك يوم زواجي وردها هو إلي يوم طلاقي.
قالت: فماذا كان جوابه؟ أجابت: إنه رفض المال. قالت: ولقد أصاب، فروجر لا يستطيع قبول هبتك.
فصاحت لورانس قائلة: ولكن فكري في النتيجة، فأنت تحكمين على ابنتي بالموت، وبوليت تروم إنقاذ أبيها بأية حال، فهي عازمة على الانتحار؛ إذ لا بد من هلاك أحدهما ليسلم الشرف. قالت أمها: ولكن ذلك قضاء الله، فهو يضرب الأمهات في أولادهن. فقالت لورانس بكل هدوء: إذ لو لم أكن مذنبة لقبل الكونت عطيتي؟ أليس الأمر كذلك يا أماه؟ أجابت أمها: نعم هو كذلك. قالت لورانس: فاعلمي إذن أنني بريئة مظلومة.
فصاحت أمها: ما هذا الكلام؟ آه ... أرأيت كيف أنك تلجئين إلى الكذب الذي أعرضت عنه قبلا لكي تنقذي ابنتك بوليت. قالت لورانس: لست أكذب يا أماه، وأظنك واثقة من صدق قولي.
وكان الصدق ظاهرا في لهجتها حتى دهشت والدتها، وعطفت عليها وهي متأثرة مرتجفة تقول: ألم تكوني مذنبة؟ أجابت : كلا يا أماه، وأقسم لك بالله وملائكته على أنني لم أهو إلا زوجي روجر، ولم أسلم نفسي إلى سواه قط. قالت: إن القسم وحده لا يغني عن البرهان في مثل هذه الحالات. قالت: لا تطلبي برهانا يا أماه. قالت: ولكن لا بد من البرهان لتنجو ابنتك من الموت. قالت: فهل تسمحين أن أعد هذا الطلب أمرا يجب تنفيذه؟ أجابت: نعم، فتكلمي أيتها الابنة المنكودة الطالع.
قالت: إذن أتكلم! قالت أمها: ما عسى أن تقولي وشريكك في الإثم خر صريعا أمامي؟
فنظرت إلى السماء وقالت: شريكي في الإثم؟ قالت الأم: ولكنني سمعت إقراره مطابقا لإقرارك، ورأيته يموت ولا يسلم تلك الرسائل المشتملة على برهان يؤكد اجترامك.
قالت: لم يكن في تلك الرسائل إلا سر مولده، وهي مكتوبة بقلم أمه.
فأخذ القلق مدام دي لامارش، ولم تفهم تماما فقالت: بقلم أمه؟ تكلمي. فهل فقدت أمه تلك الرسائل؟ ولكن ما شأنك معه؟ ولماذا تكتمين سره، وتبذلين شرفك في هذا السبيل؟ أجابت: إنه كتم السر، وبذل دمه في هذا السبيل. قالت: إنه معذور لأن المسألة تتعلق بوالدته.
فخبأت لورانس وجهها بيديها، وقالت: وإنني كذلك لمعذورة؛ لأن المسألة تتعلق بوالدتي.
فصرخت مدام دي لامارش صرخة هائلة، ونهضت وهي تترنح ممسكة فؤادها بيديها، ثم عادت إلى لورانس، فرفعت رأسها وتفرست في عينيها تفرسا كأن فيه روح كل منهما، ثم ترامت الأم على مقعد، وابنتها جاثية أمامها، وقالت والزفرات تكاد تخنقها: إنك بذلت نفسك لأجلي! إنك كابدت أشد الآلام، وتحملت الخزي والذل لأجلي! إنك كنت «فدية شرفي»! قالت: أماه، أماه!
وقالت أمها: وكان ذلك القتيل ولدي؟ ... ولكن لماذا لم يتمزق فؤادي حين سقط أمامي؟ وهنا اشتد بكاؤها على ذلك الابن الذي ألجئت إلى تركه منذ طفولته، ولم تستطع معرفة حظه من دنياه، ولم تره إلا يوم قتل أمامها، وإذا بلورانس تقول لها: عفوا يا أماه؛ لأنني لم أقو على كتمان هذا السر زمنا أطول. عفوا لأنني كنت السبب في يأسك وعبراتك؛ ولكن لم يكن في طاقتي السكوت بعدما أمرتني بأن أتكلم، وما غرضي إلا نجاة ابنتي الوحيدة بوليت، ولقد بذلت نفسي ضحية لأكتم سرك، وإني لأبذل العالم كله ضحية لأنقذ ابنتي.
قالت: نعم، وتكونين قد فعلت ما يجب عليك، كما سأفعل ما يجب علي. قالت: فما معنى هذا الكلام؟
فاتجهت مدام دي لامارش إلى الباب، وأطلت على الكونت دي موري والإيطالية، فدعته لدخول البهو، فأرادت كلوديا وأخوها اللحاق به، إلا أن زوجة الأميرال قالت لهما: كلا، بل يأتي الكونت وحده ثم أناديكما بعد هنيهة. فلما خلا الكونت مع لورانس وأمها قالت الأم: اعلم يا روجر أن التي زوجتك بها أنا والأميرال هي نموذج الفضيلة والطهر والعفاف. قال: ولذلك أحببتها فيما مضى إلى حين ... قالت: إلى حين ألقت على عاتقها ذنب غيرها، ورضيت بأن تكون فدية الشرف وشهيدة الشهامة. قال روجر: ماذا تقولين؟ وقالت لورانس: أماه، أماه!
فالتفتت إليها وقالت: ألم تقولي أنك تبذلين العالم كله ضحية لإنقاذ ابنتك؟ أما أنا فإنني لا أبذل إلا سري. قالت: أناشدك الله لا تزيدي كلمة.
فلم تجبها بل قالت: اعلم يا روجر أن التي كانت زوجتك رضيت بالشك يسقط على رأسها ظلما، وبالتهمة تشين عرضها إخلاصا وكرامة؛ فالرجل الذي رأيته عندها لم يكن عشيقها.
قال: ما هذا الكلام؟
قالت: والرسائل التي كانت معه وطرحها في النار لم تكن رسائلها. قال: فرسائل من هي؟ ...
أجابت: رسائلي أنا. قال: لم أفهم مرادك.
قالت: إن الرجل الذي قتلته يا روجر لم يكن عشيقها، وإنما كان ولدي أنا. فبهت روجر وقال: ولدك؟
قالت: أقسم لك بحياة لورانس على أنني لم أقل إلا صدقا.
فصاح روجر صيحة هائلة، وقال: كل هذا صحيح وقد صدقته حتى إني لأقسم كذلك على صحته. فويحي أنا الأحمق؛ لأنني لم أبصر ولم أفهم. أعماني الغضب والغيرة فنسيت ذات الفضيلة السامية التي عاشرتها مدة ثمانية عشر عاما كلها حنان وإخلاص، كنت أعمى ومجنونا لا أرى ولا أفهم، فسفكت يداي دم بريء، ثم طردتك أيها الملك الكريم من منزلي، وطلقتك، وأنا ذلك المفتون الذي لم يستحق امتلاك هذا الكنز ولم يعرف قيمته.
وهاجه اليأس فقال: إني أقدمت على ذلك كله، ثم فعلت ما هو شر من ذلك فاختطفت الابنة من أمها الشهيدة المعذبة. لقد كنت نذلا وكنت وغدا ذميما.
ثم صاح قائلا: لحسن الحظ لا يزال في الإمكان إصلاح شيء مما أفسدت، وسارع إلى حجرة ابنته وناداها: بوليت، بوليت! تعالي فقبلي أمك.
فأقبلت بوليت في لباس عرسها، ولم تسمع كلمات أبيها، فقالت وهي مسترسلة إلى تأملاتها المحزنة: أنت هنا يا أماه؟ ماذا جرى حتى أمكنني أن أراك أيضا؟
قال الكونت: إن أمك هذه مثال الشرف والحكمة، فانطرحي على قدميها يا بوليت، واسأليها أن تعفو عني؛ لأنني لا أتجرأ على طلب العفو منها فقد كنت لها ظالما.
وتهالك على مقعده وفاضت شئونه - سالت دموعه - فتقدمت إليه لورانس وفتحت له ساعديها وقالت: عفا الله عما مضى يا روجر، فتناس ذلك الماضي، أما أنا فلا أذكر منه إلا حبك، وما برحت أحبك كما كنت قبلا.
فضمها الكونت إلى صدره وهي ممسكة بيد بوليت.
وفي ذلك الوقت انفتح باب المخدع، ودخلت كلوديا ومعها أخوها، ولم تسمع ما قيل في البهو لكنها سمعت لجبا، فلم تتمالك أن نهضت ودخلت المخدع مفاجئة، فحدث ولا حرج عن فرط تعجبها وسخطها لما رأت زوجها ولورانس وبوليت في تلك الحال، فأشارت إشارة تهديد وقالت: يا لكم من أنذال!
وظن بلميري أن الواجب يقضي عليه بمساعدة أخته، فتقدم وقال: ماذا جرى حتى أقدمت على إهانة أختي أيها الكونت؟ ولماذا دخلت هذه المرأة ...
فصاح روجر وهو يضم لورانس إلى صدره قائلا: إن هذه المرأة تستحق كل إعجاب وإجلال. تستحق إعجابك أيتها السيدة وإعجابك أنت وأمثالك أيها السيد.
فأجابته كلوديا: لتذهب إلى مكان آخر تتلقى فيه مثل هذا الثناء، ولتخرج من هنا، فهنا بيتي وأنا أطردها منه.
واتجهت إلى الجرس لتدعو الخدم، وإذا بها قد التقت برجل وقف أمامها، وحياها تحية تجاوزت حد التأدب، وأدركت حد السخر والتهكم، وكان هذا الشخص السير إيليا دراك، فقال لها وهو باسم: أظنني سمعتك تقولين إنك عازمة على مناداة خدمك ليطردوا من هنا والدة الآنسة بوليت؟ وأنا أغدو شاكرا لك إذا أخبرتني بأي حق وبأي صفة تقدمين على مخاشنة تلك السيدة المكرمة؟
قالت: ألا تدري إنني ربة بيتي وزوجة زوجي؟ قال: تقولين زوجك ... عفوا! عمن تتكلمين؟ ... قالت: عن الكونت دي موري، هذا الذي تراه أمامك.
قال: مهلا أيتها السيدة الحسناء؛ فإن الكونت دي موري لا يمكن أن يكون زوجا إلا لزوجة حية، أي: في عداد الأحياء ... أما أنت فإنك ميتة، وقد دفنت من زمن بعيد، فهل نسيت؟
فجعل كل من الحضور ينظر إلى الآخر ونفسه تحدثه أن السير دراك مجنون، إلا أنيبال فإنه ارتعد ارتعادا واضحا، أما كلوديا فضحكت وصاحت: ماذا تقول؟ ألا ثق يا هذا أنني حية، وسأوافيك وسائر من حضر بالبرهان على أنني لا أزال في قيد الحياة.
فأجابها السير دراك: هذا يسرني كثيرا، ولكنه يحملني على الدهش؛ لأنني أحمل إليك الآن شهادة رسمية بانتقال حضرتك إلى رحمته تعالى منذ زمن.
قالت: ماذا تقول؟
أجاب: أقول إن معي في هذه المحفظة شهادة بوفاتك، ثم شهادة ثانية بوفاة أخيك.
فقال روجر ولورانس معا: ما معنى هذا الكلام؟
أما أنيبال ففهم كل شيء، ولجأ إلى الباب يحاول الانصراف خلسة، فأشار إليه السير دراك وقال له: على رسلك يا مسيو بلميري ولا تعجل؛ فمن كان مثلك قدماه ما زالا في القبر لا يمشي إلا وهو مستمهل.
فكاد يجن أنيبال رعبا وحيرة، وقال: قدماه في القبر! وقال الإنكليزي: نعم، فإنك ولدت يوم 9 يونيو/حزيران سنة 1851، ومرضت يوم 22 يوليو/تموز سنة 1856 وفي يوم 23 منه كنت مشرفا على التلف، فلما كان اليوم الرابع والعشرون منه قضيت نحبك وأنت في مقتبل الشباب، وبعد بضع ساعات دفنوك لئلا تنتشر جراثيم الوباء من جثتك، ولكن للأسف أصيبت أختك المنحوسة، وهي السيدة الحاضرة ها هنا بمثل دائك، وشاطرتك منتيك وا أسفاه، ودفنت معك.
فامتقع لون أنيبال وقال: أنت مجنون. فأجابه: عفوا يا مختلس اسم المرحوم بلميري، وارفق بنفسك.
فقالت كلوديا بوقاحة: وأين برهانك على ما تقول؟ هات البرهان.
أجابها: إليك البرهان!
وأطلع من جيبه رزمة أوراق زرقاء، وقال: هذه رسالة برقية وردت من كلكتا، ودفعت أجرتها أكثر من خمسة آلاف فرنك لطولها، ولكني غير آسف على مالي، فهي نسخة «طبق الأصل» عن تذكرة المسيو أنيبال بلميري وشقيقته الآنسة كلوديا بلميري، وهي تبرهن، أيتها السيدة العزيزة، على أنك لست الكونتة دي موري، ولا الدوقة دي لوقا، ولا كلوديا بلميري، وأن زواجك الأول كالثاني لا اعتبار له ولا اعتداد به، ولكنك في الحقيقة فتاة حسناء تفخر بها أزقة نابولي، واسمك جرجونة، ولا تعجبا من سعة اطلاعي، فالأمر طبيعي؛ لما سمعت باسم بلميري تذكرت أنني اهتممت فيما مضى بمن يدعى بهذا الاسم، ثم تذكرت أيضا أنني سجلت بعض شهادات لأصحاب هذا الاسم أيام كنت قنصل إيطاليا في مدينة كلكتا، فبعثت برسالة برقية إلى خلفي في المنصب، كما بعثت برسالة برقية إلى نابولي، فوافتني الإيضاحات التي تشرفت بإطلاعكم عليها.
قال الكونت دي موري: إذن كنا ضحية احتيال هذين الماكرين. أجاب السير دراك: إن القانون يتكفل بمعاقبتهما، وأنا ذاهب لكي ...
فقالت لورانس: إن هذه المرأة يا روجر دعيت باسم الكونتة دي موري، فدع هذا الاسم ينقذها ولو دعيت به زورا.
قال: ولكن فكري في أنها هي التي حملتني على الارتياب بك. أجابت: لذلك أشفع لها عندك، فلتبتعد عنا، غفر الله لها.
فقال السير دراك: لم أتعرض من قبل الآن لشئون الناس، ولو تعرضت لشئونك أيها الكونت لأشرت عليك بمثل ما أشارت زوجتك الكونتة، وتأبط ساعد بيبو ليمنعه من الفرار، وقال: لكن بيني وبين هذين الحبيبين حساب صغير.
قالت كلوديا: حساب صغير؟ أجاب: نعم، فإن المسيو أنيبال سيعيد ملايين المسيو بلميري.
قال: أنا لا أعيدها أبدا.
فلم يحفل السير دراك بل قال أيضا: إلا إذا آثر دخول السجن المؤبد؛ لأن تلك الملايين آئلة إلى الدولة، ولا بد من ردها إليها، وأما الآنسة جرجونة؛ فهذا عقد يجب أن توقع عليه بتوقيعها حتى تتمكن من إبطال الزواجين اللذين عقدتهما زورا.
وللحال دفع العقد إلى جرجونة قائلا لها: وقعي عليه في الحال، وأعطاها قلما، ولكن قبل أن توقع على العقد نظرت إلى الكونتة دي موري الحقيقية، فرأت روجر ممسكا بيدها وكأنه لم يتزوج غيرها، فانثنت إلى السير دراك وقالت له: إذا وقعت على هذا العقد هل تدعني أنصرف؟
أجاب: ولكما عشرة آلاف فرنك لنفقة الطريق.
فكتبت اسمها هكذا: «جرجونة»، فقال لها الإنكليزي: أما من اسم آخر؟
أجابت: لا، فهذا اسمي وقد عاد إلي، فلا أتأسف على ما خسرته.
وخرجت من المنزل، وفي ذلك المساء بعينه سافرت إلى إيطاليا مع أخيها، إلا أنهما كانا أوفر غني منهما يوم قدما باريس، وهكذا رجعا إلى ما كانا عليه قبلا في إيطاليا. •••
ولما انصرف الشقيان وسار معهما السير إيليا دراك لمحاسبتهما؛ نهض الكونت دي موري ودخل بهوا آخر ... قد اجتمع فيه بعض الأصدقاء ليشهدوا حفلة الزواج، فدعاهم جميعا، فتبعوه، وكان دهشهم عظيما حين رأوا لورانس متهللة الوجه متكئة على ساعده، وكان الأميرال في طليعتهم، فقال: ما معنى هذا؟ فأجابه روجر: معناه أيها الأميرال وأيها السادة أنني سعيد بهذا الاجتماع؛ لأنني أستدرك على نفسي خطأ فظيعا مضى. فهذه التي ترونها إلى جانبي وقد اتهمتها وطردتها ظلما، هي من أشرف النساء وأفضلهن، فأنا أشهد لها بذلك، وأتهم نفسي أمامكم بأنني ظلمتها وخامرني الشك في طهارتها، حملني على الشك وسفك الدم قوم سفلة أراذل ... وبالغت في ذلك حتى دعوت باسمي مخلوقة شقية، وأحللتها محل هذه التي تستحق كل إجلال وإكرام وإكبار، ولحسن الحظ كان ذلك الزواج الذي عقدته مفسوخا ... وسوف يصدر حكم بفسخه بعد أيام ... إذن عدت حرا، والقانون الجديد يبيح للأزواج المطلقين أن يوصلوا زواجا مفسوخا ويجددوا القران، فكونوا شهودا أيها السادة على تندمي لما فعلت قبلا، وعلى احترامي وإجلالي لابنة الأميرال فيرمن دي لامارش، وأنا أتوسل إليها أن تسترد الاسم والحقوق التي أخذتها منها خطأ.
وانثنى إلى لورانس وقد استهلت دموعها، فجثا أمامها وقال لها: هل تقبلين يا لورانس؟ هل تأذنين لي بأن أكفر مدى العمر بالإخلاص والحب عن إساءتي إليك؟
ففتحت له ساعديها. فقال الأميرال خافضا صوته: ولكن كيف تبرأت ابنتي؟ وأي برهان لديك على براءتها؟
فارتعدت لورانس ونظرت إلى أمها، ولكنها تجلدت وقالت: ما من برهان، وا أسفاه! ... فإن شفقة زوجي برأتني، وقد عفا عني.
وهكذا حافظت على سر والدتها في هذه المرة أيضا. •••
وبعد حين عاد الكونت دي موري إلى منصبه في بوندشيري تصحبه أسرته، وهناك عقد لجاستون دي فاليير على الفتاة بوليت، وفي صباح اليوم المعين لحفلة الزواج أقبل رجل في لباس قنصل، فوقف أمام بيت بوليت، فاهتزت فرحا ودهشا وصاحت: السير إيليا دراك! فأجابها: نعم. قالت: فكيف قدمت؟ قال: ألم أعدك بأن أكون أحد شهود عرسك؟ قالت: هذا صحيح، ولكن ألا تمكث معنا أياما؟ أجاب: لا. قالت: لماذا؟ أجاب: لأنني أمكث معكم دائما؛ وها أنا ذا قنصل إنكلترة في هذه الديار. •••
وكانت حفلة العرس جامعة أسباب السرور والحبور، وعاش القوم أهنأ عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
صفحة غير معروفة