وما زال به حتى قبل وسار معه، وكان هذا الصديق كاتبا أدبيا حلو الحديث لطيف المعشر واسمه فريد. فأخذ الاثنان يتحادثان في أمور شتى، وقد نسي نجيب ما كان يفكر فيه؛ فأخذ يضحك مع فريد مما كان هذا يلقيه على مسامعه من مستملح النكت. وكان فريد في حالة سرور عظيم يطفح البشر على وجهه ويقهقه طويلا لكل نكتة يلقيها، وقال لنجيب: والله إنني يا صاح لم أذكر أني يوما من الأيام قد ضحكت مثل اليوم، فربنا يعطينا خير هذا الضحك.
ولما كان في الوقت متسع، أخذ الاثنان يتمشيان على هذه الحالة على ضفاف النيل، وكانت المراكب من شراعية وبخارية متلألئة الأنوار تخترق الماء ذهابا وإيابا، وحواليها عدد كبير من الزوارق مكتظة بالناس؛ طالبي النزهة، تروح وتجيء بمن عليها، وكانت سطوح الذهبيات الرأسية على شاطئ النهر غاصة أيضا بسكانها وبزوارهم. وكانت أنوار جميع هذه المراكب وأنوار الجسر والمنازل والفنادق القريبة مع أنوار تلك السماء الصافية تنعكس على مياه النهر العظيم الهادئة؛ فتزيد المنظر بهجة تأخذ بمجامع القلوب.
فأثر هذا المنظر في صاحبينا جدا، فقال فريد لنجيب: هلم يا أخي نجاري القوم في عملهم وننتقل من الأرض إلى الماء، فنأخذ نحن أيضا ساعة زمن زورقا، فلذة العيش في التنقل، فحقا إن هذه الليلة لهي من الليالي النادرة. فوافق نجيب على هذه الفكرة بكل ارتياح وناديا بأحد الزوارق، فجاءهما وركبا وجعلا يقذفان، والرئيس محمد ماسك الدفة بيديه الاثنتين، وكانا يتسابقان مع بقية الزوارق ضاحكين فرحين.
وفيما هما كذلك إذ سمع فريد ضحكا خيل له أنه يعرف الضاحك، فامتقع لونه قليلا كأنه شعر بحلول العاصفة. فقال لنجيب: رويدك يا أخي، اسمع! أليست هذه ضحكة فريدة؟ «وكانت فريدة هذه فتاة في مقتبل العمر بارعة الجمال أديبة متعلمة، هام فريد في حبها من بضع سنوات حبا عذريا كاد يذهب بلبه لولا طبيعته الميالة إلى اللهو والطرب، وما كان يختلقه لنفسه من الأسباب ليموه عن فكره التفكير بمن كان يهوى.» هيا بنا نقترب من الزورق حيث الصوت لنتحقق من الأمر، فأنصت نجيب قليلا؛ فعلم أن الضحك هو ضحك فريدة، ولعلمه بما سيكون لهذا المشهد من التأثير على فريد، خصوصا إذا كانت فريدة مع شخص آخر - كما يدل الواقع - بدا له أن يغالطه ويحوله عن عزمه على اللحاق بها والاقتراب منها. فقال له: أظن أنك أخطأت التقدير؛ لأني لا أرى أقل مشابهة بين الصوتين، ثم ما الذي يأتي بفريدة الآن إلى هنا في هذه الساعة؟! وإذا فرضنا المستحيل وكانت هي، فإنها إنما تكون مع عائلتها أو أحد أخوتها، واقترابنا منها ليس من اللياقة والأدب بشيء، فدع عنك الآن فريدة واترك التفكير بها، ولنعد إلى ما نحن فيه فما قلته من قبل لي بخصوص التفكير بالكون والطبيعة أقوله لك الآن بخصوص فريدة، كما قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فلم يستمع فريد لهذا القول، بل أخذ يقذف بسرعة طلبا للحاق بهذا الزورق، وسايره نجيب في عمله؛ لأنه رأى أن الحالة مع صاحبه لا تجدي فيها المعاكسة نفعا. وبعد بضع دقائق كانا قد اقتربا جدا من الزورق فسارا بمحاذاته قليلا، ولم يكد فريد يلقي نظره على من فيه حتى اصفر لونه، وتثلج جسمه، وارتخت مفاصله؛ فسقط المقذاف من يده، وارتمى على نجيب كأنه صعق من هول ما رأى، وأخذ يتنهد وينتحب كالأطفال. فحول نجيب سير زورقهما بأقل من لمح البصر؛ لئلا ينتبه أحد إليهما، وأعطى المقاذيف إلى الرئيس محمد، وأمره بالرجوع إلى الشاطئ، وأخذ هو يعالج حالة صاحبه محاولا تعزيته على قدر الإمكان، وهكذا تحولت الحال من فرح عظيم إلى كدر وحزن أليم، فقد انقلب المعزى معزيا والمعزي معزا. ولما بلغا الشاطئ، نقد نجيب صاحب الزورق أجرته، وأخذ بفريد إلى منزله ولم يتركه طول تلك الليلة. وفي الصباح لم يشأ نجيب أيضا أن يدع فريدا وحده، فدعاه لمرافقته وأخذ يقص عليه ما حضره من الأخبار والعبر محاولا تخفيف آلامه وتحويل أفكاره عن صدمة الأمس، وكان من جملة الأخبار الحديث عن الشيخ، فسري عن فريد بعض الشيء وطلب إلى نجيب أن يذهبا سويا لمقابلته حسب المتفق.
وعندما أزف الوقت جاء الاثنان إلى الجزيرة فوجدا الشيخ قد سبقهما، فسلما عليه، واستأذنه نجيب بتقديم صديقه إليه فقبل، ولكن على ما بدا عليه كان قبوله عن غير ارتياح كلي، ثم نظر إليهما مليا مستفحصا مستقرئا، وقال موجها الكلام إلى نجيب: مالي أراك يا صاح وصاحبك وقد بدت على محياكما آثار السهر والانهماك والحزن، فهل حدث أمر مكروه لا سمح الله حتى أثر عليكما هكذا؟ فإن حالتكما على ما تبين لي ليست بالعادية المألوفة، فأخبره نجيب بكل ما حصل من حين ما فارقه بالأمس إلى ساعة ملاقاته الآن، قاصا عليه جميع ذلك حرفا حرفا، فتعجب الشيخ! ولكن عجبه لم يكن لوقوع الأمر بل لمصادفته للموضوع الذي سيكون حديث اليوم. فقال: لقد سألتني بالأمس عن رأيي فيما لو كان يمكن للإنسان، بعد رقيه الحالي، أن يجد لنفسه طريقة بها يتوصل إلى أن يكيف حاله على شكل أعدل من حالته الراهنة تفيده ولا تضر بغيره من موجودات الطبيعة؛ لتكون حياته أهدأ وأهنأ منها الآن، وقد شاءت الأقدار والصدف أن تساعدني على إفهامك ذلك؛ لتكون على اقتناع تام من نظريتي، ففي حادثتكما بالأمس الدليل القاطع والبرهان الساطع، فاعلما أن كل شيء في العالم؛ حيث إنه جزء من الينبوع العظيم، وقد تحول كل إلى مظاهر وقوى مختلفة تحت ناموس التوازن انبنى على قاعدة التبادل، أو الأخذ والعطاء؛ لهذا فإنه ليستحيل على الإنسان إذا كان يريد المحافظة على درجته في الرقي وتدرجه فيها، وعلى كيانه الحالي أن يتملص من هذه القاعدة، ولكنه يمكنه أن يلطف منها بعض الشيء؛ لذا فكل شيء يفعله المرء أو يشعر به له مقابل أو ثمن أو ضد، فلا فرح بلا حزن، ولا سعادة بلا شقاء، ولا تعب بلا راحة، ولا لذة بلا مرارة؛ ليبقى ناموس التوازن السلبي والإيجابي دائما متسلطا. إذ لو اختل ولو ذرة واحدة لانعدم كل شيء.
لقد تركتني وأنت منقبض الصدر، فلم تلبث حتى لقيت فريدا فشرح صدرك فسررتما هنيهة، ولما كان فرح فريد شديدا؛ كذلك كان حزنه شديدا. وكما كان لك معزيا هكذا كنت له أنت أيضا، فقد قيل:إن الجزاء من صنف العمل، واعلم أن سرور تلك المرأة سيعقبه مرارة وكدر يوازيان شقاء فريد. وما يقال عن فريدة يقال عن صاحبها، فيوم لك ويوم عليك، يأكل الإنسان الحيوان والنبات وهما في دورهما يتغذيان به، ثم إن التراب الذي منه تغذوا يتغذى هو أيضا منهم ويسمد بهم.
يتلذذ الإنسان بالمأكولات الشهية من لحوم وخلافها، ولكن تلك اللذة تكلفه ثمنا غاليا يدفعه من تعبه ومن صحته ومن حياته. يتلذذ بالملاهي والشهوات، ولكنه يضني جسمه ويقصر عمره. تلبس الملابس لتقيك البرد والحر فتتنعم بها، ولكنك في الحقيقة تدفع ثمن هذا النعيم من جني تعبك ومن إضناء جسمك؛ لأنك بسترك له تقلل نمو قوته ومناعته. تأكل الحلو فتتلذذ به، وتأكل المر فتتمرر، فلولا مرارة المر لما عرفت طعم الحلو، ولولا التعب لما عرفت لذة الراحة، ولقد قال الشاعر:
صفحة غير معروفة