82

فور أن وصلنا إلى ميزون، كتب أبي إلى ميلانو للحصول على رخصته، وظل يشعر بقلق بالغ إلى أن حصل عليها. كان يجلس مع مجموعة أصدقائه على مقهى كافيه دي باري في ميزون، وكان هناك الكثير من الرجال الذين تعرف إليهم حين كان يشترك في سباقات الخيل في باريس قبل الحرب، يعيشون في ميزون، وكان هناك الكثير من الوقت للجلوس؛ إذ إن عمل فارسي السباق في إسطبلات السباق ينتهي كله في التاسعة صباحا؛ فهم يأخذون المجموعة الأولى من الخيول لكي يعدوا بها في الخامسة والنصف صباحا، ثم يأخذون المجموعة الثانية في الثامنة صباحا. وهذا يعني الاستيقاظ في موعد مبكر للغاية والنوم مبكرا أيضا. وإذا كان أحد فارسي السباق يتسابق لحساب شخص آخر، فهو لا يستطيع الإسراف في شرب الخمر لأن المدرب يراقبه دوما إذا كان صغيرا، وإن لم يكن صغيرا، فعليه أن يراقب نفسه دوما؛ لذا فحين لا يكون لدى فارس السباق من عمل يؤديه يجلس في معظم الأحيان على مقهى كافيه دي باري مع أصدقائه، ويقضون معا نحو ساعتين أو ثلاث يحتسون مشروبا كنبيذ فيرموث مع ماء الصودا ويتحدثون ويقصون الحكايات ويلعبون البلياردو ويبدو الأمر وكأنهم في ناد أو في الجاليريا في ميلانو. غير أن ذلك لا يشبه الجاليريا حقا؛ لأن هناك الجميع يتجولون طوال الوقت، والجميع يجلسون حول الطاولات أيضا.

حسنا، حصل أبي على رخصته بالفعل. لقد أرسلوها إليه دون عناء، واشترك في بضعة سباقات. كان ذلك في مدينة أميان في شمال البلاد وما إلى ذلك، لكنه لم يحصل على عمل ثابت. كان الجميع يحبونه، وكنت كلما أتيت إلى المقهى في وقت الضحى وجدت شخصا يشاركه الشراب لأن أبي لم يكن صارما كمعظم فرسان السباق الذين جنوا أول دولار لهم من المشاركة في سباقات الفروسية في المعرض العالمي في سانت لويس في عام 1904. هذا ما كان أبي يقوله حين يمازح جورج بيرنز. بالرغم من ذلك، يبدو أن الجميع قد تجنبوا إشراك أبي في أي من السباقات.

كنا نذهب كل يوم بالسيارة من ميزون إلى حيث يذهبون، وقد كان ذلك هو الجانب الأكثر إمتاعا على الإطلاق. كنت سعيدا بعودة الخيول من دوفيل وكنت سعيدا بالصيف أيضا، بالرغم من أن ذلك كان يعني التوقف عن التسكع في الغابة؛ إذ إننا كنا سنركب إلى أونجن أو ترومبلي أو سان كلو ونشاهدها من منصة المدربين وفرسان السباق. لقد تعلمت الكثير عن سباقات الخيول بالفعل من الذهاب مع تلك المجموعة من الأصدقاء، وأمتع ما في الأمر أننا كنا نخرج كل يوم.

أتذكر إحدى المرات التي كنا فيها في سان كلو. كان سباقا كبيرا بقيمة مائتي ألف فرنك وسبع خيول كان المتوقع فوزه منها هو كزار. ذهبت إلى ساحات التدريب كي أرى الخيول مع أبي، وقد كانت خيولا لم ير مثلها. كان كزار هذا فرسا ضخما رائعا أصفر اللون وكان يبدو وكأنه قد ولد للسباق فحسب. لم أر فرسا مثله قط. كان يقاد فيما بين ساحات التدريب ورأسه للأسفل وحين مر بي اهتزت له روحي؛ إذ كان جميلا للغاية. لم يوجد من قبل فرس بهذه الروعة والرشاقة وتلك البنية المثالية للسباق. وقد سار في ساحة التدريب يخطو بقدميه بهدوء وحرص، ويتحرك بسلاسة كأنه يعرف ما عليه أن يفعله تماما؛ فلم يكن يتحرك باندفاع أو يقف على ساقيه بعينين جامحتين مثلما تفعل تلك الخيول الرديئة المحقونة بالمواد المخدرة. كان الجمهور غفيرا حتى إنني لم أتمكن من رؤيته ثانية فيما عدا سيقانه وهو يركض وأجزاء من جسده الأصفر. شق أبي طريقه من بين الحشد وتبعته إلى غرفة تغيير الملابس لفرسان السباق في الخلف بين الأشجار، وقد كان هناك حشد كبير أيضا، لكن الرجل الذي كان يرتدي قبعة مستديرة ويقف على الباب أومأ برأسه تحية إلى أبي وسمح لنا بالدخول، وكان الجميع هناك يرتدون ملابسهم ويدخلون القمصان من فوق رءوسهم ويرتدون الأحذية العالية الرقبة وكان الجو حارا وتنتشر فيه رائحة العرق وزيوت التدليك، وكان الجمهور يراقب ما يحدث.

سار أبي وجلس بجوار جورج جاردنر الذي كان يرتدي سرواله وقال: «ما النبأ يا جورج؟» قال ذلك بنبرة عادية تماما؛ إذ إنه ما من فائدة في ترقب الأجواء؛ فإما أن جورج يستطيع أن يخبره، وإما أنه لا يستطيع.

تحدث جورج بصوت خفيض للغاية وقد انحنى يزرر الجزء السفلي من سروال الركوب، وقال: «لن يفوز.»

تحدث أبي وهو يميل بالقرب منه كي لا يسمعه أحد وقال: «ومن سيفوز؟»

قال جورج: «كيركابن، وإذا فاز، فلتحتفظ لي ببعض التذاكر.»

قال أبي لجورج شيئا بصوته المعتاد، وقال جورج بنبرة تنم عن المزاح: «لا تراهن أبدا على أي شيء أخبرك به.» وانطلقنا إلى الخارج مرورا بالجمهور الذي كان يراقب ما يحدث واتجهنا إلى آلة تسجيل المراهنات من فئة 100 فرنك. غير أنني كنت أعرف أن شيئا كبيرا سيحدث إذ إن جورج هو الذي سيتسابق بكزار. توقف أبي في الطريق وحصل على واحدة من نشرات الرهان الصفراء التي كان مدونا فيها النسب الأولية للرهان وكان كزار بنسبة 5 إلى 10 فحسب، وكان يليه في ذلك سيفيسيدوت بنسبة 3 إلى 1، وكان الخامس في القائمة هو كيركابن بنسبة 8 إلى 1. راهن أبي بخمسة آلاف على فوز كيركابن وأضاف ألفا على الترتيب، وسرنا حول المدرج المسقوف من الخلف لكي نصعد الدرج ونتخذ مكانا لمشاهدة السباق.

كان المكان مكتظا للغاية، وفي البداية تقدم رجل يرتدي معطفا طويلا وقبعة رمادية عالية ويحمل سوطا مثنيا في يده، ثم خرجت الخيول واحدة بعد الأخرى وعلى ظهر كل منها فارس وصبي من صبيان الإسطبل على كل جانب من جانبيها يمسك بلجام كل منها ويسير معها، وهذه المجموعة بأكملها كانت تتبع الرجل العجوز. ظهر الحصان الأصفر الضخم كزار أولا. لم يكن يبدو ضخما جدا حين تنظر إليه في البداية حتى ترى طول سيقانه وبنيته بأكملها وكذلك الطريقة التي يتحرك بها. يا إلهي! لم أر حصانا مثله من قبل. كان جورج جاردنر يمتطيه، وراحا يتحركان ببطء خلف الرجل العجوز الذي كان يرتدي قبعة رمادية عالية ويسير وكأنه مدير حلبة في السيرك. خلف كزار الذي كان يسير الهوينا بصفرته في الشمس، كان هناك حصان أسود جيد البنية له رأس جميل يركبه تومي آرتشيبولد، وبعد الحصان الأسود كانت هناك مجموعة من خمس خيول تتحرك جميعها ببطء في تتابع وتمر بالمدرج المسقوف ومنطقة الوزن. قال أبي إن الحصان الأسود هو كيركابن فدققت النظر فيه، وقد كان جميلا بالفعل، لكنه لم يكن يقارن بكزار على الإطلاق.

صفحة غير معروفة