ولو كانت الرحمة في شكل إنسان لهبطت على مختار المسكين - وهو سائر من ديوانه إلى منزله، أصفر الوجه، مقطب الجبين، أعمى البصيرة، وجراثيم المرض تقرض حبل حياته - ورفرفت عليه بأجنحتها، وضمته إلى صدرها، وقبلته، ثم رفعته إلى السماء العلى؛ ليحظى بالجنة والنعيم، فقد كفاه ما هو فيه من الهم والأسى، ألا يكفي ذلك عقابا له على ذنوب الشباب، والشباب شعرة من الجنون؟!
وبعد قليل من زيارة مختار للطبيب، اشتد عليه المرض، وأظنه لم يكن قادرا على دفع ما يطلبه الطبيب في كل مرة، فذهب إلى حلاق فقير يدعي البراعة في الطب، وأسر إليه أمره بعد خجل شديد، فعالجه الحلاق علاجا أكثر شرا من الداء، وكان يعالجه بتدخين «الزرنيخ»، وهذه الطريقة مشهورة عند العامة لمداواة داء الزهرة، وهم لا يعلمون الغرض الحقيقي منها، وواضعها يقصد قتل الجراثيم بدخول السم في الجسم، وقد استبدلها الأطباء بعلاج الزئبق، وكم كان مختار يتألم من تدخين ذلك السم الزعاف، وكم مرة نزلت دموعه كاللؤلؤ الرطب على خده وهو يدخن «الزرنيخ» في حانوت الحلاق! هذا الذي جناه من وصل منيرة وحبها. هل ما كسبه مختار في غرفة نوم منيرة من مثل النوم على السرير، وتقبيل محبوبته، وضمها إلى صدره، ورشف لماها، والتغزل في جمالها الفتان، يخسره في حانوت الحلاق، وهو يدخن الزرنيخ؟
هل ذهبت كل الابتسامات الذهبية التي ابتسمها وهو يشرب الخمر بعد أن يخلطه بريق منيرة، وعادت إليه دموعه سخينة يذرفها في حانوت الحلاق؟
هل هذه هي العدالة التي يسير بمقتضاها هذا العالم، يوم أبيض من الثلج ويوم أسود من القار؟ نعم هي العدالة يا مختار! نعم هي العدالة، وإن كنت أبكي عليك، وآسف على شبابك، وأتنهد من أجلك، ولكن يا عزيزي مختار هذه هي العدالة، أنت مظلوم لا شك: نفس بريئة جنى عليها أبوها وأمها والمجتمع الإنساني، ولكن هذه هي ما يسمونها بالعدالة، قبلتها أم لم تقبلها، فاصبر فإنك ستحظى بعد الموت بالحور العين، وبالحدائق والبساتين، وبالقصور العالية، وبالأنهار الجارية في جنة خلقت لمن يعذبون في العالم الأرضي ويلجئون إلى عالم السماء، اصبر يا مختار وتأس وتفكر في روح الله، اصبر وليخطر ببالك أمر كل مسكين عاش في عذاب ومات في عذاب وذهب إلى ...!
ولكن إلى أين يا مختار؟ ... أنا لا أدري إن كانوا ذهبوا إلى النعيم أو إلى العذاب أو إلى النوم الطويل الذي ليس بعده قيام ...
الفصل السادس عشر
وبعد أن بقي مختار هكذا أكثر من شهرين، ذاق فيهما مر الحياة، خطر بباله يوما أن يقصد منيرة في مرقصها، لعلها تسعده بنظراتها وتذهب همه بصوتها الرقيق، وكان في جيبه قليل جدا من النقود، فدخل المرقص فلم يقم له صاحبه، وكان دائما يرحب به ويسلم عليه، ولم ينظر إليه أحد، فسأل مختار نفسه قائلا: هل علموا بأمري وأنني فقير مريض؟!
فأجابه صوت الفاقة قائلا: كلا، إنما للفاقة خاتم وضعته على وجهك ومكتوب على هذا الخاتم:
فقير مكروه من الله والناس، ليس له أمل، ففروا منه كما تفرون من المجذوم ...
ومن الغريب أن هذا الخاتم يقرؤه كل الناس، لا فرق في قراءته بين الأمي والقارئ، فلما قرأه صاحب المرقص غض طرفه عن مختار، ثم جلس مختار في أحد الأركان، ومر به الخدم يحملون قنينات الخمر ويصرخون بطلب غيرها، فنظروا إليه وقرءوا الخاتم الذي على وجهه، فلم يعيروه لفتة، فنظر مختار فرأى كل شيء كما تركه منذ شهرين من الزمان، أيام كان سعيدا غنيا؛ رأى المغنين يغنون، ورأى الناس يسمعون ويطربون، ورأى الوارثين جالسين وبجانبهم بعض النسوة يلعبن بعقولهم، وصاحب المرقص يلعب بهن والدهر يلعب بالجميع.
صفحة غير معروفة