وفي ذلك الحين كان الرجل بلغ الخمسين من عمره، وقضى الدهر غرضه ولم يبق عليه إلا أن يسلمه إلى الموت، وفي ليلة من الليالي، شكا الرجل من ألم في كبده ونام ولم يقم، مات موسى بك أبو مختار وترك أرملة وشابا وفتاة لم يكن لهم في الدنيا سواه، وهكذا طويت صحيفة مملوءة بالذنوب، ومثل ذلك التعس دوره في ملعب الحياة، وسدلت عليه الأبدية ستارها، ولا ندري ماذا يكون من أمره، وقد ترك موسى لعائلته الدار التي كانوا يسكنونها وبيتين آخرين وعشرين فدانا، وكانت المرأة قد هذبتها الأيام، فأمست حكيمة مدبرة، فوضعت يدها على تلك الثروة القليلة وسهرت على عفاف بنتها، ولم تسكت يوما عن نصح ابنها، وكان أبوه قبل موته قد عرض عليه الزواج فلم يقبل، ووعده بأنه سيتزوج بعد عامين، فلما مرت السنتان عادت أمه فألحت عليه بالزواج، فأبى واستكبر، وليت أباه قص عليه قصته في شبابه وأراه ما ينتهي إليه أمر الشباب الذي يندفع في تيار الشهوات والملاذ، وأظنه خشي أن ينبه الولد إلى الذنوب وحسبه صالح القلب نقيا طاهرا، فوقع الولد في الحفرة التي وقع فيها أبوه من قبل، على أن أمه نبهته إلى شر الزنا والخمر، وضربت له الأمثال وقصت عليه القصص، فلامها على سوء ظنها به، وقال إنه معتدل السير، ليس يحتاج نصحا.
ولكن كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟ وكيف يعيش مختار عيشة هادئة صالحة، وأبوه كان من قبله منغمسا في جحيم الذنوب، ولقح ابنه وهو في بطن أمه بجراثيم الشر، فسرى مرض الانحطاط الأدبي في عروق الجنين.
وليس من الصعب أن يسقط الشاب المستخدم في بلادنا إلى أسفل دركات الانحطاط، فإن مختارا كان مستخدما، ورأى أن له عشرين فدانا وثلاثة بيوت، ولم يعلم شيئا من ماضي أبيه، فظن نفسه غنيا كبيرا، واستسهل كل شيء، وخالف أمه فيما كانت تلقيه عليه من النصائح؛ لأنه لم يكن في رأسه من العلم ما يردعه عن غيه، وقلما تجدي النصائح والنفس ضائعة تائهة، فرفض مختار أمر الزواج لما عرضته عليه أمه؛ لأنه خشي أن تقيده زوجته بالبنين والبنات، وهو لا يزال شابا، والتف حول مختار قليل من الأصحاب المفسدين، وما زالوا به حتى زنا ولعب القمار، وحتى كره داره وأبغض أمه وأخته، وكان يخرج فيغيب عنهما يوما أو يومين، فلا كانت أمه تستطيع أن تسأل عليه في مركز عمله ولا كانت تطيق فراقه، فكانت تجلس وتبكي وتقضي ليلتها ساهرة، حالما يكون مختار ينتفض كالعصفور بين أيدي حبيبته، أو يشرب السم في حانة الخمار، أو يخسر المال في ملعب القمار.
الفصل الثامن
قال محدثي: ولما خطر ببال مختار في هذه الليلة أن يزور أمه ذهب توا إلى الدار، فلما رأته أمه عانقته وبكت بكاء مرا، وطفقت تقبله بين عينيه، وأخذت أخته تلومه على غيابه ونسيان أهله وداره، ولكن أين القلب الذي كانت تذيبه تلك القبلات؛ قبلات الأم والأخت؟! وأين الوجه الذي كان يحمر خجلا لعتابهما؟! أين ذلك القلب الذي كان يقطر دما إذا رأى مختار أمه تبكي؟! فسد ذلك القلب ومات، وإن لم يكن قد مات فقد خنق الحب كل العواطف الشريفة التي كانت فيه، وداس الحب النجس - حب المرأة الساقطة على هامة الحب الطاهر - حب الأم والأخت، وبذلك انتصرت الرذيلة على الفضيلة تحت لواء الحرية.
وسألت مختارا أمه قائلة: أين كنت يا ولدي؟ فإن قلبي كاد يذوب لفراقك ولم أنم الليلة الماضية بطولها، ألا يليق بك أن تخبرنا قبل غيبتك حتى نطمئن عليك وتهدأ نفوسنا؟
ومن الغريب أن هذه الكلمات المملوءة بالود والحب الجديرة صاحبتها بالإكرام لم تجد من قلب مختار مكانا، ولم تلق من أذنه مسمعا، فنفر من أمه، وقال لها: وماذا يهمني إذا أخبرتكما أم لم أخبركما؟ فقالت أمه: أنت لا تعلم مقدار حبنا لك، ألست أنا التي ربيتك حتى صرت رجلا، والآن تضن علي بمبيتك ليلة بيني وبين أختك، ثم همت أخته وقالت وقد دفعها نزق الشباب: أين كنت الليلة الماضية؟ لماذا لا تتزوج فتصون مالك وصحتك؟! ...
قال محدثي: وقد حكى لي مختار أنه لما سمع ذلك الكلام غلى دمه في عروقه من الغيظ، وعده إهانة، وغضب غضبا شديدا، وقابل أخته بالشتم والسب لأول مرة في حياته، وقال لي إنه كان ينوي ضربها، ولكنه تغلب على نفسه، ووبخ ضميره على إهانة أمه وأخته، وقضى ليلته في بيته، ولكن كيف قضاها؟ إنه كان مشتت الفكر، مروع القلب، قلق البال، يفكر طول ليله في منيرة، ويخشى أن تحب غيره في غيبته، أو أن يحبب غيره نفسه إليها بالمال، وكان كلما مرت عليه ساعة يحدث نفسه بالقيام والذهاب إليها في مرقصها أو في دارها أو في أي مكان كانت.
وقد اعتاد مختار على السهر، فلم يستطع أن يدخل فراشه قبل الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقبل هذه الساعة بقليل لاحت منه التفاتة، فرأى منضدة كان يجلس أمامها أيام كان في المدرسة، ولا ندري ماذا حركت تلك الذكرى في قلبه من الأفكار، إنما قال لي إنه أخرج منديلا ومسح دموعه التي سالت من عينيه، عندما ذكر أيام المدرسة، أيام الطهارة والعفاف والسعادة المنزلية.
وهنا يخطر لنا سؤال في غاية الأهمية، وهو لماذا لا يعود مختار عن الشر وهو في مثل هذه الحال بعد أن حن إلى الحياة الأولى؟ لماذا لا يكره المرأة، ويتوب عن الخمر والقمار، ويعود إلى حضن أمه وجانب أخته، ويتمتع بالسعادة التي فقدها، ويرد لجسمه صحته ولكيسه ماله ولاسمه شرفه؟
صفحة غير معروفة