وردت إشارة في الآيات الأولى من سورة «البلد» إلى من كثر ماله، ولكنه لم ينفق منه بما كان ينبغي له، ومع ذلك فهو يدعي أنه أهلك مالا كثيرا، حاسبا أن أحدا لم يره على حقيقته، وبعد تلك الإشارة جاءت الآيات الكريمة التي ذكرناها في الفقرة السابقة، وفيها استنكار لموقف ذلك الثري المغلولة يده إلى عنقه:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة ...
فيقول الطبري في تفسيره: «عينين يبصر بهما حجج الله عليه ...» و«لسانا يعبر به عن نفسه» و«شفتين نعم من الله» و«النجدين أي الطريقين؛ طريق الخير وطريق الشر» و«العقبة قيل إنها جبل في جهنم»، وأما كاتب هذه السطور، العبد الفقير لله سبحانه وتعالى، والعارف بفضل الأئمة العلماء، والطبري أحدهم بلا أدنى شك في ذلك، أقول إن كاتب هذه السطور لم يسعه إلا أن يعاود الوقوف عند هذه الآيات الكريمة؛ لعله يجد في كلماتها مبررا لمثل ما ذهب إليه الطبري، فضلا عن قصور ما ذهب إليه، في أن تتكامل أمام الذهن صورة مترابطة الأطراف، يهتدي بها من يشاء له الله تعالى أن يهتدي؛ فلماذا يشير الطبري إلى «العينين» بأنهما تبصران حجج الله على ذلك الثري المقبوض اليدين؟ وكان الأقرب أن يجعل «العينين» تبصران كما تبصر الأعين؛ فتريان خلق الله ليستمد صاحب العينين علما وعبرة، كما سأبين بعد قليل، ثم لماذا لم يربط «اللسان» ب «الشفتين» في جهاز واحد - كما هما على الحقيقة - وهو جهاز النطق باللغة بكل ما يترتب على هذا المعنى من نتائج بعيدة المدى في هذا السياق الذي نحن الآن بصدده؟ وعلى أي أساس معقول ومقبول - بالنسبة إلى سياق الكلام الذي بين أيدينا - يجعل «النجدين» مجرد طريقين ثم يجعل طريقا منهما يشير إلى الخير وطريقا آخر يشير إلى الشر؟! إن «النجد» هو مرتفع من الأرض وهو ما نسميه بالمصطلح الجغرافي المعروف «هضبة»، ويقابل النجد «الوهد» الذي هو الأرض المنخفضة، فهل هو من حق المفسر أن يحذف من معنى اللفظة المعينة أهم جانب من جوانب معناها ثم يقيم تفسيره بعد ذلك على الجانب المتبقي على نقصانه؟! إن من يفهم كلمة «النجدين» مطروحا من معناها «الارتفاع» مع خشونة الحجر وغلظته؛ يكون قد فوت على نفسه مفتاحا مهما يعينه على فهم السياق كله فهما أصح وأنفع، وأخيرا يجيء أعجب ما نعجب له في تفسير الطبري، وذلك عندما يقول عن «العقبة» قيل إنها جبل في جهنم! كيف ذلك والآيات الكريمة التي تلتها مباشرة قد فسرتها بما يقطع بالمعنى المقصود؛ إذ تقول:
وما أدراك ما العقبة ... ، وهو سؤال يعقبه جوابه، الذي هو أن العقبة (التي لم يستطع ذلك الفتى البخيل اقتحامها) إنما هي أن تفك رقاب العبيد ليصبحوا أحرارا، وأن يقدم العون إلى المعوزين في يوم المجاعة، ولماذا يكون هذان الأمران «عقبة» يصعب اقتحامها على كثيرين؟ ذلك ما أرجئ الجواب عنه لأضعه في مكانه من الصورة المتكاملة المترابطة، التي تصورتها للمجتمع الإنساني الكامل، بناء على مجموعة الآيات التي ذكرناها من سورة «البلد».
والآن فلنعد لنبدأ من البداية، فلقد أشير إلى ذلك الثري القابض يده عن الإنفاق فيما ينفع الناس، بهذه الآيات:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين
فها هنا تستطيع أن تلمح مقدمتين، ونتيجة تنبني على هاتين المقدمتين، وأما المقدمتان فهما أن وهب الإنسان جهازين، بينهما رباط وثيق يجعل الجهاز الأول منهما مؤديا بالضرورة إلى الجهاز الثاني، وهما على التوالي جهاز الإبصار - بالمعنى المباشر للكلمة - وجهاز اللغة؛ فالبصر أداة بين أدوات أخرى، هي أعضاء الحس، ولعل أهمها في الوظيفة التي تؤديها، وما تلك الوظيفة إلا «إدراك» الإنسان لما يحيط به؛ فلم يكن في وسع الإنسان أن يخطو في حياته خطوة واحدة، إلا إذا كان على معرفة ما، بالمحيط الذي يتحرك فيه، وإلى هنا يتساوى إنسان وحيوان، فلكل كائن حي مما له القدرة على الحركة في أرجاء المكان بمختلف اتجاهاتها (ومن هنا نستثني النبات لأنه مقيد الحركة بالنسبة إلى الحيوان والإنسان؛ إذ الغالب فيه أن تمتد جذوره إلى أسفل، وفروعه إلى أعلى، مع التزامه موضعا بذاته)؛ أقول إن لكل كائن حي مما وهب القدرة على الحركة في مختلف الاتجاهات؛ أدوات يدرك بها ما حوله ليعرف كيف يتجه وإلى أين يتجه، وتلك الأدوات الإدراكية هي «الحواس» التي فيها حاسة البصر.
لكن الإنسان والحيوان إذا تساويا إلى هذا الحد؛ فإن الإنسان ينفرد بعد ذلك بدرجات متصاعدة من الإدراك، يقف دونها سائر الحيوان، وتبدأ تلك الدرجات الإدراكية المتصاعدة في حياة الإنسان بالقدرة على «النطق» مستعينا بجهاز عضوي خاص، أهم أجزائه اللسان والشفتان، وليس المراد ب «النطق» هنا مجرد أصوات حيوانية، كالتي يصيح بها الحيوان والإنسان معا في لحظات الذعر أو لحظات الرضا، بل المراد هو النطق الذي صيغت أصواته في «كلمات»، وهنا تتحقق للإنسان المعجزة الإلهية التي صيرته إنسانا، وقد أحسن من أراد تعريف الإنسان تعريفا يبين جوهره المميز، فقال إنه «الحيوان الناطق» بمعنى أن فيه كل ما في الحيوان من صفات أساسية كالاعتدال، والنمو، والتناسل، والحركة، ولكنه أضاف إليها جانبا تميز به وانفرد، وذلك أنه نطق باللغة، واللغة تتعدد إلى لغات، إلا أن اللغات البشرية جميعا تتلاقى في أساس مشترك هو القدرة الفطرية التي تتشكل بعد ذلك أشكالا مختلفة هي اللغات. وقد تسأل: وما هي طبيعة تلك القدرة الفطرية في الإنسان؟ وأجيبك بأنها القدرة على «الرمز»؛ أي أن ينيب المتكلم عن الشيء الغائب «رمزا» يقوم مقامه في تبادل الحديث، وبهذه القدرة الرامزة اتسعت آفاق الحياة الإنسانية؛ فانتقلت من محدودية الحيوان في مكانه وزمانه، وفي الأشياء التي تقع في دائرة إدراكه الحسي، إلى انطلاق لا تحده الحدود؛ إذ أصبح في مستطاع الإنسان أن يستعين برموز اللغة، فيستحضر بين يديه ما ليس حاضرا، مما كان، ومما سوف يكون، ومما هو كائن خارج دائرة إدراكه الحسي.
ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه يجاوزه إلى آماد، الله أعلم بأبعادها، إذا عرفنا عن «اللغة» حقيقة أخرى جوهرية، والعجب أن نجدها إلى يومنا هذا موضع خلاف بين المشتغلين باللغة ومنطقها وطبيعة أدائها لما تؤديه، وتلك الحقيقة هي أن اللغة هي نفسها «الفكر» فإذا تكلم إنسان فقد فكر في حدود ما تكلم، وإذا فكر - حتى وهو صامت فيما يبدو للناس - فقد تكلم بمقدار ما فكر، وحاول أن تستبطن ذاتك وأنت تفكر في «صمت» تحس بحركات في جهاز النطق، هي نفسها الحركات التي لو ارتفعت فيها الدرجة لأصبحت كلاما مسموعا، ولن أطيل الوقوف عند هذه النقطة رغم أهميتها البالغة؛ لأنني على شيء من العلم بما يتفرع عنها من اختلافات في الرأي.
وبعد هذا فلنقرأ معا قول الله عز وجل:
صفحة غير معروفة