ومع ذلك نصر على قولنا إن شعب مصر شعب طيب! ثم مع ذلك أيضا، أراني أحس إحساسا قويا بأنه وصف صحيح، ومن هنا - فيما أظن - جاء الدافع إلى البحث عن تعريف مقنع لهذه الصفة فينا التي أصبحت أحسها ولا أراها، وآخر ما اهتديت إليه في هذا السبيل هو أن طيبة المصري تعني شيئين - بين أشياء أخرى ربما - وهما: ميله إلى التسامح مع من أنزل به الأذى، واستعداده لخدمة غيره بلا مقابل، بل كثيرا ما يرفض المقابل إذا قدم إليه ليجعلها خدمة لوجه الله.
هل تراني قد بعدت بهذا الاستطراد عن موضوع الحديث؟ لا، لست أظن ذلك، فحديثنا قد انتهى بنا إلى أن الثقافة التي إذا تغيرت تغير معها الشعب نحو السير في اتجاه جديد؛ ليست مجموعة معينة من معلومات تحفظ، بل هي «حساسية» عامة مرهفة تعين صاحبها على التفرقة الفورية بين المقبول والمرفوض، فإذا قلنا عن حياتنا - نحن - الثقافية بأنها تغيرت اليوم تغيرا واضحا عما كانت عليه في الشطر الأعظم من النصف الأول من هذا القرن؛ فالمقصود هو أن تلك الحساسية العامة قد تبدلت اليوم عما كانت عليه بالأمس، فبات مرفوضا عند الناس ما كان بالأمس مقبولا، ومقبولا ما كان مرفوضا، ولقد حددنا فيما أسلفناه محور ذلك التغير، حين قلنا إن الدعوة بالأمس كانت تميل بالناس نحو الإعلاء من شأن «العقل» فأصبحت دعوى اليوم تشد الناس نحو المحفوظات عن صحائف السابقين، فبالأمس كان تفكيرا وهو اليوم ذاكرة.
وانتقالنا من محور التفكير الحر إلى الذاكرة المقيدة بما حفظت، معناه انتقال من الآفاق الرحبة إلى الغرف المغلقة، فبينما حساسية الأمس كانت ترحب بانطلاقة المغامرة الحضارية، أصبحت حساسية اليوم تنفر من تلك الانطلاقة الحرة، ويسعدها أن ترانا في الطريق إلى أغلال تشدنا إلى رؤية الأشباح: أقول ذلك وفي ذهني صورة للكهف الشهير في التشبيه الذي قدمه أفلاطون ليصور به أولئك الذين يديرون ظهورهم إلى الحقائق قانعين بأن يروا ظلالها معكوسة على جدار الكهف الذي سجنوا أنفسهم فيه؛ فهو كهف مفتوح على الطريق العام وأما ساكنوه فقد قيدوا أنفسهم بجلسة تجعل ظهورهم إلى ناحية الطريق الخارجي ووجوههم نحو الجدار الخلفي من الكهف فيمر الناس وتمر العربات وتقع الأحداث في الطريق العام وتلقي بظلالها خلال فتحة الكهف لتسقط على الجدار الخلفي؛ فلا يرى ساكنوه من تلك الحقائق إلا ظلالها، وبهذه الظلال الباهتة يقنعون ويسعدون.
فما أحوجنا - إذن - إلى نور يبدل لنا حساسية ثقافية بحساسية! بحيث يجيء النسج الثقافي الجديد حاثا على العلم بحقائق الكائنات لا بظلالها دافعا إلى اختراق الآفاق وليس إلى انكفاء على مواضع الأقدام، وعاملا على قوة نسود بها لا على ضعف نذل به ونخشع، وماذا تكون في ذلك النسيج الثقافي لحمته وسداه؟ إنه الدين أولا وثانيا وثالثا، الدين الذي يفتح الأبصار على عظمة الكون وعمق أسراره، وليس الذي يغمض الأعين إلا على أسطر يحفظها الحافظون حفظا أصم، الدين الذي يعرف للإنسان كرامته لأنه إنسان وكفى، قبل أن تضاف إليه صفات تعلو به في مراتب المجتمع أو تسفل، وليس الدين الذي يتقرب به صاحبه إلى كل ذي سلطان، الدين الذي يعلي كلمة الحق في أي ميدان من ميادينها مهما أوذي في سبيلها وما عليه إزاء هذا الإيذاء إلا الصبر مع مواصلة التمسك بما هو حق، وليس الدين الذي ينافق بوجهين فوجه منهما أمام القوي ووجه أمام الضعيف.
وتأتي مصادر الفن والأدب على اختلافها، فهي وإن تكن عند المبدع فيضا يفيض عن موهبة؛ فإنها لا تؤدي بنا إلى بعيد إذا هي لم تكن للناس مرآة ومصباحا في آن معا، فبعضها يعرض على الناس صورتهم كما هي؛ ليتبينوا أين فيها القبح وأين الجمال، ثم ينهض بعضها الآخر نحو إلقاء الأضواء الكاشفة على طريق الحياة القوية العلمية المريدة المستبشرة؛ ليعرف الناس إلى أي غاية يقصدون. نريد حساسية ثقافية جديدة لا تقتل مواهب أبنائها، بل تعنى بها وترعاها، فبهذه المواهب وحدها تنطق الكتيبة الخرساء.
فجوة بين واقع ومثال
في الفلسفة الأوروبية المعاصرة - والإنجليزية منها بوجه خاص - تيار فرعي يكاد يكون مجهولا جهلا تاما بين صفوة المثقفين عندنا؛ وذلك لأنه لم يجد من الدارسين من يخرجه من مراجعه الجامعية، ليعبر به الأسوار إلى دنيا الثقافة غير المتخصصة حتى وهي في ذروتها؛ مع أن الفكرة الأساسية التي أراد ذلك التيار الفرعي ترويجها قد تكون ألزم لنا، بما يميزنا من خصائص في طريقة التفكير والتقدير، من أفكار أخرى كثيرة، حسن حظها على الأقلام، فشاعت بيننا شيوعا لم يقف بها عند صفوة تحسن الفهم، بل تجاوزتها إلى من هم دون ذلك تحصيلا وتدقيقا.
فلعلك تعلم أنه لما كان «العلم» - والعلم الطبيعي بوجه خاص - منذ النهضة الأوروبية، وما زال حتى اليوم؛ هو أبرز خاصة من خصائص أخرى كثيرة تميز العصر الحديث كله، بما فيه هذه المرحلة المعاصرة، ثم كانت الفلسفة في معظم حالاتها، إنما هي آخر الأمر تحليل للوجود الثقافي القائم في عصرها، علما كان أو دينا، أو غير ذلك من المحاور الأساسية التي تعلق بها الفكر الإنساني، فقد كان «العلم» ومنهجه - أو من مناهجه - هو أهم مشغلة شغلت بها الفلسفة في هذا العصر؛ فما الذي كانت - وما زالت - تبحث عنه في حياة العلم؟ إنه إذا جاز لنا أن نلخص البحر في فنجان؛ قلنا إن السؤال الأساسي الكامن وراء جهود الفكر الفلسفي خلال القرون الأربعة الأخيرة، هو هذا : ما الذي يثبت لنا أن ما يقدمه العلم صحيح صحة لا يأتيها البطلان؟ ولقد اقتضت الإجابة عن هذا السؤال تحليلات لكل ما يتعلق بالعملية العقلية بسبب من الأسباب؛ فالعقل ما هو؟ والعقل كيف يعمل؟ والعقل ما حدوده التي لا يستطيع مجاوزتها؟ وإلى أي حد يمكن للعقل أن يصل إلى يقين؟ وهل العقل - يا ترى - هو حقا العامل الأساسي في إدراك الإنسان لما هو حق أو أن هناك من وسائل الإدراك ما هو أصدق منه كالحدس أو البصيرة والقلب أو ما يوحى به إلى الإنسان وحيا؟
وهكذا أخذ رجال الفكر يقلبون الموضوع من كل نواحيه؛ ليكونوا آخر الأمر على بينة من قيمة الحقيقة العلمية: أهي مما يوثق في صدقه أم هي أقرب إلى الوسيلة المؤقتة تدوم ما دام لها نفع في التطبيق ثم تمضي إلى خزائن التاريخ؟
وتقليب الموضوع على هذا النحو الواسع والعميق، قد أدى ببعض هؤلاء الباحثين إلى التنكر للعقل من أساسه، من حيث هو أداة أولى في إدراك العلم الصحيح، نعم إنه هناك بين الأدوات التي جهزت بها فطرة الإنسان، لكنه يجب أن ينتظر دوره في العمل؛ إذ ليس هو الذي يكشف لنا عن «الحق» بادئ ذي بدء؛ إنما هي قوى أخرى في طبيعة الإنسان، أمده بها خالقه سبحانه، فهي التي تبدأ بذلك الإدراك للحق في جملته، وفي بداهته، وعندئذ فقط يتقدم «العقل» ليؤدي دوره؛ ودوره هو تحليل ذلك المجمل الذي أدركته بداهة الفطرة (على اختلاف الفلاسفة بعد ذلك في تخصيص الجانب الفطري في ذلك ماذا يكون) والقيام بعمليات استدلالية تخرج من تلك البداية المدركة نتائجها التفصيلية التي تترتب عليها.
صفحة غير معروفة