فأما عن التفرقة بين ما هو «فكر» وما هو «أدب»؛ فأساسها أن الأدب لا يعد أدبا إلا إذا أقامه مبدعه على «شكل» مقنن؛ فحتى لو كان ذلك الأدب منطويا على فكرة؛ فهي فكرة - في هذه الحالة - مقدمة إلى متلقيها بطريق غير مباشر؛ فالفرق واضح بين مقال يبين فيه صاحبه انخفاض مستوى المعيشة في بلد فقير ورواية يقدمها أديب كل ما فيها أشخاص يتفاعلون بعضهم مع بعض في حياة مشتركة، وقد لا ترد فيها كلمة «فقر» مرة واحدة، لكن الصورة التي يتلقاها القارئ تصرخ بالفقر، وكذلك الفرق واضح بين مقالة تحليلية تبين ملامح «الغيرة» ومسرحية تقدم لنا تلك الغيرة مجسدة في سلوك يتفاعل به السالكون، وقد يسأل سائل: وماذا أنت قائل في شعر «الحكمة»؟ أليست الحكمة أدخل في باب «الفكرة»؟ بلى، ولكن الذي جعل شعر الحكمة شعرا هو أولا: أنها تجيء منضوحة من خبرة الشاعر في حياته، وإذن فهو يقدم إلينا قطعة من نفسه، وثانيا: هي تجيء إلى قارئها محكومة بضوابط الوزن الشعري، وهو فرق كالفرق بين المشي والرقص؛ فليس مجرد المشي فنا، ولكن الرقص فن، مع أن الأمر في الحالتين متشابه، وهو أنه سير بالرجلين؛ فالفرق هو بين سير مطلق من القيد وسير مقيد بإيقاع، وهكذا تكون الحال بين حكمة تقدم منثورة، لا يخضع التركيب اللغوي فيها إلا لقواعد النحو، وحكمة تقدم شعرا فتخضع لقيد مقنن، هو الوزن.
ذلك هو الأدب، فماذا عما نسميه «فكرا» ولا نضع فيه العلوم بمختلف أقسامها؟ إن التحديد القاطع هنا أصعب منه في حالة الأدب وفي حالة العلم، وكأني «بالفكر» وسط يقع بين ذينك الطرفين، فإذا كان الفارق الأساسي بين «العلم» من جهة و«الأدب» من جهة أخرى؛ هو أن العلم يعمم القول فيما يبحث فيه، وأما الأدب فهو يبرز «التفرد» الذي ينفرد به الشخص أو الموقف، الذي يكتب عنه الأديب أدبا؛ فرجل العلم قد يضع في مخابيره المعملية قطعة معينة من الفحم، لا ليقف عندها هي من أجل ذاتها، بل ليصل من خلالها إلى حكم علم على كل الفحم الذي هو من قبيل القطعة المبحوثة، وأما قيس وهو يتحدث عن ليلى؛ فإنما يتحدث عن ليلى وحدها، لا تشاركها امرأة أخرى فيما يحكيه عنها، وقد تسأل هنا قائلا: ولكن أليس الشخص الذي يرسمه الأديب هو في الوقت نفسه نموذج بشري عام؟ انظر - مثلا - إلى «هاملت» ألا تراه صورة نموذجية للمثقف في حيرته؟ بلى، إلا أن من معجزات الفن الرفيع؛ أنه وإن يكن يوغل في فردية الفرد الذي يصوره فهو في الوقت نفسه يقيم نموذجا ما، يشمل نوعا من الناس، لكن هؤلاء إنما يقتربون قليلا أو يقتربون كثيرا من النموذج، دون أن يظهر للنموذج نفسه توأم يطابقه في كل تفصيلة من تفصيلات وجوده، فصوت أم كلثوم يقلده كثيرون - اقترابا أو ابتعادا - لكنه من غير المحتمل أن يتكرر بذاته في شخص آخر.
قلنا إن العلم يعمم أحكامه، من جهة، والأدب يخصص صوره في أفراد لا تتكرر، من جهة أخرى، ثم قلنا إن «الفكر» يشبه أن يكون وسطا بين هذين الطرفين؛ ففيه تعميم قريب من تعميم الحقيقة العلمية، وفيه صلات تربطه بالذات الإنسانية في تفردها، وخذ فكرة «الحرية» - مثلا - إنها ليست من حقائق العلم؛ فلا هي فيزياء ولا هي كيمياء، ولا هي مما يندرج مصطلحا في أي علم من العلوم، وليست هي في الوقت نفسه قطعة من أدب؛ لأنك إذا تحدثت عن «الحرية» وجدت حديثك مختلفا عن شعر الشاعر ورواية الروائي، لكنها رغم ذلك كله، موصولة بما هو عام، وبما هو خاص في آن واحد، فقل عنها: «الحرية حق لكل إنسان.» تجد في قولك هذا تعميما يقترب من أحكام العلم، ثم تجد فيه، في الوقت نفسه، وترا منغوما يهز القلوب، ومجموعة المعاني التي نطلق عليها اسم «فكر» هي من هذا القبيل: ديمقراطية، إخاء، مساواة، عدل، رحمة، تعاون، ذوق، جمال، فضيلة، حق، ... إلخ.
فتستطيع أن ترى في كل معنى من هذه المعاني وأمثالها؛ ما يكون لنا مما نسميه «فكرا» أو المجال الخاص من مجالات القول، الذي لا هو علم صريح ولا هو أدب صريح. أقول إنك تستطيع أن ترى في كل فرد من أفراد هذه الأسرة؛ خاصة مشتركة بينها جميعا، وهي أن المعنى الواحد منها أوسع جدا من أن تكون له الحدود الفاصلة التي تحدده، وقد يبدو للرائي، للوهلة الأولى، أنه محدد ومفهوم، لكنه كلما اقترب منه وجده أشد روغانا من الزئبق، ولا عجب أن تجد للحرية ألف صورة وصورة، وللديمقراطية ألف شكل وشكل، وهكذا قل في سائر أفراد هذه الأسرة العجيبة، وذلك لأن كل معنى منها واسع عميق في مضمونه، سعة المحيط وعمقه، فخذ منه ما تشاء، ويتعذر أن يقوم واحد من المختلفين حجة على أحد؛ فهذا حر وذلك حر، مع أن صورة الحياة مختلفة بينهما، وذلك شعب ديمقراطي وذلك شعب ديمقراطي، وصورة التركيب في كل منهما بعيدة عن صورة التركيب في الآخر. وأعجب العجب أن هذه المجموعة من المعاني، التي هي مجال «المفكر»؛ هي التي في سبيلها تشن الحروب بين الشعوب لاختلاف هذه الشعوب حول الزاوية التي يرى منها شعب ما معنى من تلك المعاني، كالحرية أو الديمقراطية أو المساواة، عن الزاوية التي نظر منها شعب آخر؛ فلم يعرف التاريخ حربا شنت بسبب اختلاف على حقيقة علمية، ولا حربا شنت بسبب اختلاف على طريقة نظم شعر أو بناء الرواية، ولكنه عرف حروبا لا حصر لعددها، بسبب اختلاف على «فكرة» من تلك الأسرة الكريمة؛ أسرة الأفكار.
ذلك إذن هو عالم «الفكر» وموقعه بين عالمي «العلم» و«الأدب»؛ فهو أغمض الثلاثة جميعا، لكنه هو أخطرها في تكوين وجهات النظر، التي منها يتألف بعض الملامح في هويات الأمم والشعوب، ولكل من هذه الأطراف الثلاثة - العلم والأدب والفكر - مبدعوه، ثم متلقوه، ثم ناقدوه. ومبدعو العلم هم العلماء في مجالات العلم المختلفة: الرياضة، والطبيعة، والعلوم الإنسانية أو الاجتماعية، ومبدعو الأدب هم الشعراء والروائيون والمسرحيون وكتاب المقالة الأدبية والرسائل ... إلخ (ولم أذكر «الفن» لأن ما يقال عن الأدب في هذا السياق يصدق على الفن كذلك). وأما مبدعو «الأفكار»؛ فهم جماعة «المفكرين»، وذروتهم هم الفلاسفة، وأساس التفرقة هنا بين «ذروة» وسفح؛ هو درجة التعميم والتجريد في البناء الفكري المعروض، وكذلك لكل طرف من هذه الأطراف الثلاثة نقاده. على أن ما يلفت النظر هنا هو أنه بينما لا ينقد الناتج العلمي إلا عالم؛ فإن الذي ينقد الناتج الأدبي، أو الناتج الفكري، لا يشترط فيه بالضرورة أن يكون هو نفسه أديبا أو مفكرا، ولذلك أمكن أن يختص بالنقد في هذين المجالين «نقاد»، ولا يكونون شيئا آخر إلا أنهم «نقاد»، وعند هذه الملاحظة نرتد بالقارئ إلى ما بدأنا به هذا الحديث، وهو أن حياتنا - نحن - الثقافية قد عرفت نقاد الأدب، ولكنها تكاد لا تعرف شيئا عن نقد الفكر، ما هو؟ وكيف يكون؟ ومن ثم كثرت بيننا في هذا المجال التخاريف، والفهلوات، وكل صنوف الادعاء والجهالة والضحالة، والثرثرة الفارغة دون أن يتنبه عليها أحد، أو ينبه عليها أحد. ولماذا نعجب - إذن - وتلك حالنا في هذا الجانب من حياتنا الثقافية، أن يظفر بجوائز الدولة، وبمقاعد الرئاسة، وبأضواء الشهرة؛ من لم يكن ليجد سبيلا إلى أعين الناس وآذانهم - ودع عنك عقولهم وقلوبهم - لو كان في حياتنا نقاد فكر، كما كان فيها نقاد أدب وفن.
وبين هذين الضربين من النقد أوجه اختلاف، لا تجعل بينهما من العلاقة إلا ما يكون بين أبناء العم في الأسرة الواحدة، ولم أقل ما بين الإخوة الأشقاء؛ لأن نقد الأدب ونقد الفكر فرعان لا يولدان من والد واحد، ولكنهما يلتقيان عند الجد القريب، وأحيانا عند الجد البعيد؛ إذ ليس الهدف فيهما واحدا، كلا، ولا خطوات السير فيهما متطابقة، فماذا يريد ناقد الأدب؟ وكيف يحقق ما أراده؟ وماذا يريد ناقد الفكر؟ وما أدواته ووسائله في تحقيق غايته؟
لن أطيل الوقوف عند ناقد الأدب؛ لأن المادة المنشورة والمقروءة حول هذا الموضوع قد شاعت وذاعت حتى بلغت معظم الآذان في من يهمهم الأدب ونقده، وحسبي أن أقول إن السؤال الذي يطرحه ناقد الأدب على نفسه - سرا أو علانية - هو شيء شبيه جدا بسؤال يطرحه صائغ الذهب أو الأحجار الكريمة، كلما أراد أن يعرف كم من الذهب في قطعة زعم لها أنها من ذهب، أو إلى أي مقدار يكون هذا اللؤلؤ حرا، أو هذا الماس ماسا، والزمرد زمردا، إنها لتعد بعشرات الألوف؛ تلك التركيبات اللفظية التي تنشر في الناس ويقال عنها إنها شعر، أو إنها رواية، أو ما شئت من صنوف الأدب. ومهمة الناقد الأولى هنا هي كمهمة المصرفي الذي يسأل عن «النقود»: أصحيحة هي أم زائفة؟ وكالمصرفي، لا بد لناقد الأدب أن يتصور قاعدة أو قواعد، يستخدمها في تمييز الأدب الحر من الأدب «التقليد»، وأن تلك القواعد عند الناقد المتمرس لتنغرس في كيانه حتى تكاد تتحول لتكون جزءا من فطرته، أو كأنها قد أصبحت حاسة أخرى تضاف إلى حواسه، لكن شيئا من إمعان النظر يظهرها ويبينها حتى نراها «قواعد» كما كانت في مرحلتها الأولى من حياة الناقد. ولست أنسى جلسة في لجنة رسمية كانت تناقش مستقبل الحياة الأدبية عندنا، فورد ذكر النقد الأدبي بطبيعة الحال، وما كدت أنطق بكلمة «قاعدة» يرتكز عليها حكم الناقد، حتى صاح عضو كانت له مكانته، قائلا: لا، لا قواعد! هذا تقييد للمواهب! الموهبة لا تعرف «القواعد»! يا سبحان الله! كيف - إذن - يكون أي حكم في الدنيا على أي شيء يراد الحكم له أو عليه إلا أن تكون هناك «قاعدة» صريحة أو مضمرة؟!
ونقاد الأدب - على وجه الإجمال - صنفان: صنف منهما يقف عند النص الأدبي ذاته لا يجاوزه، يشبعه تحليلا من كل وجوهه؛ ليعرف كيف ركبت الكلمات فكانت ما كانت من فروع الأدب، وإلى هذا الصنف ينتمي معظم نقاد الأدب في تراثنا العربي.
وأما الصنف الثاني فالناقد فيه «يخترق» النص الأدبي ليرى ما وراءه، وأحيانا يكون هذا الذي وراءه «نفس» المبدع الذي أنتج الأثر المنقود، وأحيانا أخرى يكون «الحياة الاجتماعية» التي أحاطت بذلك المبدع وقت إبداعه، وأحيانا ثالثة يكون ذلك الماوراء المنشود هو احتمال أن يكون الأثر المنقود نافعا للناس، وواضح أن وقوف الناقد عند النص، هو أصعب الوسائل النقدية، وأحوجها إلى دراسة علمية؛ لأن البحث عما «وراء» النص مجال فسيح للتخمين الذي قد يضل، دون أن تجد البرهان الحاسم الذي تقيمه على ضلاله، ولذلك كان مثل هذا الشطح في عملية النقد الأدبي مغريا لكل ذي جهالة يريد أن يكون ناقدا!
على أنه سواء أكان الناقد ممن يأخذون أنفسهم بالوقوف عند النص الذي بين يديه أم ممن يجاوزون النص بحثا عما وراءه؛ فلا بد في كلتا الحالتين أن ينفذ إلى الفكرة الخبيئة في الأثر المنقود. والفرق بين الجماعتين في هذا هو أن جماعة النص تستخرج الفكرة الخبيئة من النص نفسه، وأما جماعة «الماوراء» فكثيرا ما تلجأ إلى حدس البديهة. ولسنا بهذا نقول إن مهمة المبدع هي أن يعرض فكرا كلا، لأنه لو فعل ذلك صراحة، سقط إنتاجه من حساب الأدب بمقدار ما فعل، وإنما الفكرة المبثوثة في النص الأدبي يستخلصها الناقد استخلاصا من صورة الحالة الإنسانية المعينة التي صاغها المبدع في أثره الأدبي، وإذا لم يجد الناقد أن فكرة كامنة في الحالة المعروضة؛ كان من حقه أن يتهم القطعة المنقودة بالسطحية والتفاهة، وأمثالها لا يكتب لها دوام.
صفحة غير معروفة