لقد تبينت ذلك ولما أتجاوز الصبا، ولقد تبينت ذلك مرة ومرة ومرة، وكنت كلما تبينته شديد الاستسلام له، شديد الزهد في الحياة والنفور منها، أمضي في ذلك أسابيع ثم أشهرا، ثم تعمل الحياة عملها، ويستأنف الغرور بالدهر وما فيه بسط سلطانه على نفسي، فأفكر في الحياة العاملة، ثم أبتسم لها، ثم أندفع إليها، وما أزال حتى تفاجأني كارثة أخرى، فأتبين الغرور وأزهد في العيش.
وعلى هذا النحو أراد الله أن تكون حياتنا جميعا صراعا بين العبرة والفتنة، وأراد الله أن نكون نحن موضوع هذا الصراع.
هذا اسم ثروت يتردد في نفسي، ويتردد معه لفظ الموت، وتعجز نفسي عن أن تلائم بين هذين اللفظين، وعن أن تحقق هذه الجملة التي تنبئها بأن ثروت قد مات.
ومهما أنكر ومهما أعجز عن الملاءمة والتحقيق، ومهما أتردد بين الشك واليقين، ومهما أضطرب بين التصديق والتكذيب، فهذان اللفظان يترددان في نفسي ترددا متصلا، يقطعها تقطيعا ويفرقها تفريقا، وهذه الساعات يمضي بعضها إثر بعض، وهذه صحف المساء قد جاءت بعد صحف الصباح تصدق الخبر وتثبته، وترثي ثروت وتؤبنه، فليس من شك إذن في أن القضاء قد لاءم بين ثروت وبين الموت، وحقق ما لا تستطيع نفسي أن تصدقه أو تحققه.
وتضيق بي نفسي، وتضيق بي غرفة الفندق الذي أنا فيه، وأخرج هائما لا أدري إلى أين أذهب، ولا أعرف ماذا أريد، وأنا أمشي على ساحل البحر لا أكاد أسمع اصطخاب أمواجه، ولا أكاد أحس هذه الريح التي تعصف من حولي؛ لأني مغرق فيما أنا فيه من التفكير في ثروت وفي الموت، ومن تعويد نفسي أن تواجه الحقيقة وتثبت لها، وتعرف أن ثروت قد مات.
وليس من اليسير مواجهة هذه الحقائق إذا كان لهذا الرجل في نفسك مكانة الشقيق الوفي، الذي اتصلت أسبابك بأسبابه، وبلوته في الخير والشر، وأنست إليه حتى أصبح الأنس إليه جزءا من حياتك.
نعم، ليس هذا يسيرا، وإنما تقف أمامه موقف من يشهد الجراح يبتر عضوا من أعضائه دون أن يستطيع له وقفا، أو يجد سبيلا إلى اتقاء الألم والفرار منه.
لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم حين يفجعها الموت في الأصدقاء! هي أزهار نضرة غضة تستقبل الحياة والضوء في جمال وبهجة.
ولكن هذه اليد القاسية يد القضاء تمتد إليها من حين إلى حين في غير رفق ولا لين، فتنتزع منها ورقة ثم ورقة ... وهي كلما انتزعت منها بعض أوراقها انكمشت وتضاءلت، وسرى فيها الذبول والفناء، حيث كان يسري فيها الرواء والماء، وما تزال يد القدر تتبعها فتنزع أوراقها، وما يزال الذبول يتمشى فيها حتى تجف وتيبس، وتصبح هشيما مستعدا لأن تذروه الريح متى عصفت به، وهي عاصفة به من غير شك حين تدنو هذه الساعة التي لا يفلت منها حي، ولا ينجو منها إنسان.
نعم، لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم! فهي على هذا كله قبور حية، وهل تظن أنا نفقد أصدقاءنا حقا؟ وهل تظن أنا نحيا بعدهم ونستطيع أن نعيش بدونهم حقا؟ كلا، إنما نفقد الاتصال بأشخاصهم التي تتحرك وتفكر كما نفكر، وتحيا كما نحيا، نفقد العمل معهم، ولكنا لا نفقد جوارهم، والاتصال بنفوسهم.
صفحة غير معروفة