قالت: كأنك لا تعلم أن الخطر الذي يحيط بك عظيم جدا لا قبل لك باحتماله، وأن جنودك قد أصبحوا ينقمون عليك نقمة عظمى، ويبغضونك بغضا لا حد له، ولا تحدثهم نفوسهم بشيء سوى تلمس الطريق إلى الوصول إليك ليقتلوك. فاصفر وجهه وقال: وماذا ينقمون مني؟ قالت: ينقمون منك مخاطرتك بهم في تلك المعارك الهائلة التي تكاد تفنيهم وتقضي عليه، وفشلك في جميع الوقائع التي قمت بها مذ وليت قيادة الجيش حتى اليوم، وقد امتد بهم الحقد عليك إلى سوء الظن بك، فأصبحوا يعتقدون أنك خائن ممالئ للعدو، وأنك ما سلكت هذه الخطة المعوجة في حروبك إلا لتمكن الأعداء من اجتياز الحدود، واقتحام البلاد. فانتفض انتفاضة شديدة، واربد وجهه، ونزت في رأسه سورة الغضب وقال: من ذا الذي يتهمني بالخيانة؟ قالت: جنودك ورجالك.
قال: إنهم كاذبون فيما يقولون - ما في ذلك ريب - إن كنت صادقة فيما تقولين، قالت: ما كذبت عليك قبل اليوم ولا غششتك في النصيحة، ولقد زادهم حقدا عليك وموجدة أن العدو قد اجتاز الجبال ليلة أمس، وربما لا يمر يومان أو ثلاثة حتى يكون قد وصل إلى أبواب العاصمة، وسيصل بريدك الساعة فينقل إليك هذا الخبر المحزن الأليم. فصرخ صرخة عظيمة دوت بها أرجاء الغرفة، ووثب من مكانة ثائرا وهو يقول: آه يا وطني العزيز! وابتدر الباب يريد الخروج منه، فأمسكت بيده واجتذبته إليها وقالت له: مهلا، أين تريد؟ قال: أدعو جنودي وأجمع من تفرق منهم في الثكنات والقلاع وأذهب بهم إلى الحدود للدفاع عن القلعة الكبرى؛ فالوطن في خطر عظيم، قالت: لا تفعل؛ فقد خرج الأمر من يدك، واعلم أن جميع جنودك المقيمين في ثكنات المدينة وأرباضها قد أصبحوا متمردين عليك لا يطيعونك ولا يأتمرون بأمرك! فلم يحفل بكلامها وأسرع إلى النافذة وأشرف منها على الساحة العامة وظل يصيح: أيها الجنود، النفير النفير، الأهبة الأهبة. فما سمع الجند صوته ورأوا وجهه حتى هاجوا واضطربوا، وأخذوا يصيحون داخل القصر وخارجه: ليسقط الخائن! ليسقط المجرم! فظل يشير إليهم بيده يحاول إسكاتهم واسترعاء أسماعهم وهم مستمرون في ضجيجهم وصياحهم لا يهدءون ولا يفترون، فعاد إلى مكانه يائسا متضعضعا ليس وراء ما به من الهم غاية.
فدنت بازيليد منه وقالت له: قد علمت الآن أنني لم أكذبك القول ولم أخدعك، وأنني لم أقدم إليك مقدمي هذا في هذه الساعة العصيبة إلا لتخليصك وإنقاذك، وإنقاذ الوطن وأبنائه. فرفع نظره إليها مدهوشا وقال: أنت؟ قالت: نعم أنا، في الوقت الذي لا أجد فيه بجانبك من يأخذ بيدك، أو يعينك على أمرك؛ فأصغ لما أقول: إن الملك سيزور قصرك الساعة ليستنجد بك على دفع هذا الخطر الداهم، وإن شئت فقل: ليستعين بك على الاحتفاظ بتاجه الذي يضن به ضنه، ولا يحفل بشيء سواه، وقد علم الجند ساعة حضوره، فهم ينتظرونه في هذه الساحة، حتى إذا طلع عليهم في موكبه هرعوا إليه ضاجين صارخين يتقدمهم جرحاهم وزمناهم، ورموك بين يديه بتلك التهمة العظيمة التي يرددونها الآن، ويصيحون بها في كل مكان، فإما أن يصدقهم، فقد هلكت هلاكا لا نجاة لك من بعده، أو يرتاب بهم فلا يرى له بدا من أن يسلك سبيل الحكمة في مداراتهم ومدافعتهم، فيأمر بعزلك عن القيادة والعهد بها إلى غيرك إرضاء لهم، وتسكينا لثائرهم، فإن فعل فقد انتشرت لك في الأمة قالة سوء لا تستطيع أن تمحو عارها عنك أبد الدهر.
فظل يرتعد ويضطرب ويردد بينه وبين نفسه: رب ماذا أصنع؛ فالخطب أعظم مما أحتمل؟! فاقتربت منه ووضعت يدها على كتفه وحنت عليه حنو الأم على رضيعها، وقالت له بتلك النغمة العذبة الجميلة التي قتلت بها أباه من قبل: نعم يا بني، إن الخطب أعظم مما تحتمل، ولم يبق بين يديك إلا أن تسلك تلك الطريق التي شرع أبوك في سلوكها قبل موته ثم عجز عن الاستمرار فيها إلى نهايتها، فخسرها وخسر حياته على أثرها. فنظر إليها دهشا وقال: ماذا تريدين؟ فصمتت لحظة ثم استنجدت قوتها وشجاعتها وقالت له: أتدري يا قسطنطين لم ذهب أبوك إلى شعب «تراجان» وجلس تحت القوس الروماني في الليلة التي مات فيها؟ فرجعت إلى ذهنه تلك الذكرى المؤلمة وقد بدأ يفهم ما ترمي إليه في حديثها، فراعه الأمر وهاله، إلا أنه تماسك وتجلد، وظل ناظرا إليها نظرات جامدة ساكنة أشبه بنظرات الموتى في النزع الأخير.
فاستمرت في حديثها تقول: إنه ذهب إلى ذلك المكان ليستقبل الجيش التركي عند قدومه، ويأذن له باجتياز الحدود والوصول إلى فيدين، ولو فعل لنجى الوطن من خطر عظيم، ولأطفأ نار هذه الحرب التي تلتهم البلاد التهاما يكاد يقضي عليها، ولكان اليوم ملكا جالسا على عرش البلقان لا تمثالا أجوف منتصبا في الميدان، ولكنه عجز في الساعة الأخيرة عن الاحتفاظ بقوته وعزيمته، فما رأى سواد الجيش التركي مقبلا نحوه حتى نسي عهوده ومواثيقه، وابتدر الرابية الأولى فأشعل نارها وأيقظ الجيش من رقدته واستثاره للأهبة والدفاع، وما كفاه ذلك حتى جرد سيفه للقتال، وخاض المعركة بنفسه، وظل يقاتل حتى هلك!
فعجب قسطنطين لتلك الجرأة الغريبة التي لا يشتمل على مثلها صدر امرأة في العالم ولا رجل، ثم قال لها بهدوء وسكون لا يعلم إلا الله ما يكمن وراءهما: وبعد، فماذا تريدين؟ فأطمعها فيه سكونه وهدوءه، وخيل إليها أنه قد استخذى للأمر واستسلم، فقالت: إن العهد السلطاني لأبيك بملك البلقان لا يزال باقيا بيدي حتى الساعة، وهو مذيل بتوقيع السلطان ومختوم بختم آل «برانكومير»، فلسنا في حاجة إلى تغيير حرف منه أو كتابة عهد جديد، وقد قابلت رسول القائد التركي ليلة أمس واتفقت معه على كل شيء، فكن أعقل من أبيك وأبعد منه نظرا، واعلم أن الترك لا بد مقتحمو هذه البلاد وآخذوها، أبطئوا أم أسرعوا، فقد اجتازوا عقبة الجبال اليوم، وسيجتازون بقية العقبات غدا أو بعد غد، ما من ذلك بد، فخير لك أن تهادنهم وتسالمهم وتتخذ عندهم يدا تنفعك لديهم غدا، وأن تفتح لهم بيدك ما استغلق عليهم من أبواب البلاد بدلا من أن يغلبوك عليها؛ لتحتفظ لنفسك بذلك العرش الذي هو عرشك وعرش أبيك من قبلك لولا طمع ذلك المختلس وفضوله!
إن الجنود يضجون ويصخبون، ويوشك الملك أن يحضر فيرفعوا إليه أمرك، ويهتفوا بين يديه بسقوطك وخيانتك، فيأمر بالقبض عليك وسجنك، فاغضب لنفسك وافعل ما أشرت به عليك لتستطيع أن تأمر بالقبض عليه وسجنه بعد بضع ساعات، ويدين لك البلقان من البسفور إلى الأدرياتيك.
أما أنا، فإني لا أطلب جزاء عندك على نصحي لك وإخلاصي إليك سوى أن تمنحني لديك منزلة الأم الحنون، وتأذن لي أن أجلس على أدنى درجة من درجات عرشك، أخدمك وأمدك برأيي ومشورتي، وأستظل بظلال مجدك وشرفك حتى الموت. ثم أخرجت من حقيبتها العهد السلطاني وأرته إياه، فأخذ يقرؤه وهو في يدها حتى أتمه، فقالت له: قم الساعة وسافر إلى الحدود، وقد جيشك بنفسك وتقهقر به كأنك تفعل ذلك مضطرا، وأنقذ نفسك ووطنك من هذا الخطر العظيم.
ها هي ذي طبول الملك تقترب منا شيئا فشيئا، واعلم أن قلم القدرة معلق الآن بين أصبعي الله ليكتب به في صفحات الغيب أحد الحكمين: إما لك بالصعود إلى العرش، أو عليك بالهبوط إلى أعماق السجون؛ فأحسن الاختيار لنفسك ولا تكن عدوها الأحمق المأفون.
فرفع رأسه ونظر إليها نظرة نارية ملتهبة لو رسمتها ريشة المصور الماهر لأحرقت القرطاس الذي رسمت فيه! ثم قال لها بهدوء وسكون: قد قلت لي يا سيدتي منذ هنيهة: إن أبي قد ذهب إلى شعب «تراجان» ووقف تحت القوس الروماني ليستقبل الجيش التركي عند قدومه، ويأذن له بالمرور، فخانه عزمه ونسي ميثاقه فلم يفعل، وأنا أقول لك: إنك مخطئة في سوء ظنك به، فإنه لم يزل متمسكا برأيه في تلك الليلة محافظا على عهده، حتى حالت الحوائل بينه وبين الوفاء.
صفحة غير معروفة