الفصل الثالث
الصوفيون والمسيحيون
تتسم مصر بطبيعة متناقضة: تؤكد التيارات السياسية والأيديولوجية البارزة على وحدة البلاد وترابطها، ويحسب أغلب الغرباء أن مصر إلى حد بعيد مجتمع متجانس (عربي، مسلم)، لكن الواقع أنها تتسم إلى حد بعيد بتعدد قد يخلق أفكارا جديدة على الصعيد السياسي والاقتصادي إن سمح له بالنمو. لأسباب كثيرة يؤكد النظام الحاكم وكتلة المعارضة الرئيسية - الإخوان المسلمون - على تجانس المجتمع المصري. فمن ناحية الإخوان المسلمين، يعود هذا - ظاهريا - إلى مفهوم «التوحيد» الذي يتسع ليصبح مفهوما عاما عن الكيفية التي يجب أن تنظم بها شئون المجتمع. وبالتوازي مع هذا، ينظر عهد ناصر وخليفتيه، السادات ومبارك، إلى الاختلاف والتعدد على أنه مصدر ضعف لا قوة. وظل المبرر لذلك وقتا طويلا هو الصراع مع إسرائيل؛ فالخصم المنقسم على ذاته ضعيف. ومع أن مصر وإسرائيل يجمع بينهما سلام، فهو سلام بارد، ولا تزال إسرائيل العصا المستخدمة في ترهيب وإسكات وجهات النظر التي تختلف عن وجهات النظر المسموح بها رسميا.
سيتناول هذا الفصل والفصل الذي يليه بتفصيل شديد آثار هذا الانجذاب إلى العقيدة ومقاومة التعددية، لكن لننظر إلى المسألة أولا من منظور شخصي. سعد الدين إبراهيم هو رجل لطيف كبير السن يتسم بالتسامح ويتمتع بروح الدعابة، وهو أيضا عالم اجتماع ذو بصيرة ثاقبة، وربما كان الناشط الحقوقي الأشهر في مصر، وتجمعه صلات بالعديد من الصحفيين والمسئولين، وهو أيضا شوكة في حلق الحكومة المصرية. تعرض في التسعينيات للضغط بسبب تسليطه الضوء على التمييز الذي تواجهه الأقليات العرقية والدينية في مصر، وحظر مؤتمر نظمه عن هذه القضية في اللحظة الأخيرة، بدعوى أنه «سيشوه صورة مصر بالخارج». لا بد من القول إن هذا اتهام غريب إلا أنه إلى حد بعيد كاشف أيضا، يشير على ما يبدو إلى أن تعدد أطياف المصريين يضر بصورة مصر، أو على أقل تقدير بصورة الحكومة المصرية، مع أن المرء قد يحسب أن التعدد مصدر فخر ينظر له بعين الاحترام. لكن لا يبدو أنه كذلك، بالأخذ في الاعتبار أكذوبة النظام الحاكم عن وحدة البلاد. ولم يبد من جهة أخرى أن حبس سعد الدين إبراهيم وتعذيبه عام 2002 - عندما لفت الانتباه إلى بعض المخالفات وحالات التزوير في الانتخابات - يضر بصورة مصر بالخارج. من هنا يتساءل المرء إلى أي مدى يهتم النظام الحاكم فعليا بصورته، بما أن مصر انتقدت على نطاق واسع في كلتا الحالتين لسعيها إلى إخراس ناقد بارز شهير. والأمر الواضح بالتأكيد هو أن النظام الحاكم لا يهتم كثيرا بالحقيقة؛ أو لعله في الواقع يتخوف من أن تسبب له الحقيقة حرجا وتلطخ سمعته خارج البلاد. فالسبب الحقيقي وراء الضغوط التي مارسها النظام على سعد الدين إبراهيم كان عزم هذا الأخير على تقصي الفجوة التي تفصل بين ما يدعيه النظام عن نفسه والواقع، وهي فجوة هائلة بالنظر إلى مزاعم النظام بأن مصر موحدة وبأنه يسمح لمختلف الأصوات بالتنافس في الانتخابات. وفي الواقع ، زعم التوحد يناقض في جوهره أسس الديمقراطية التي لا تعتمد على وجود التعددية والاختلاف فحسب بل ترتكز أيضا - وهذا هو الأهم - على شرعيتهما وأهميتهما.
المؤسف حقا في اتفاق النظام الحاكم والإخوان المسلمين على تجانس المجتمع المصري هو أن الاختلاف هو أحد مصادر قوة مصر. ناقشنا فيما سبق مزايا فترة التعدد والمجتمع الحضري التي سبقت ثورة 1952، وأحد أسباب الحنين إلى تلك الفترة هو بلا شك ركود المشهد الثقافي المصري حاليا، إلا أن البلاد لا تزال عبارة عن خليط من الطوائف العرقية والدينية والمحلية المختلفة التي تعارض بقوة الحكم الديكتاتوري المركزي والتوافق الديني الزائف المداهن. تضم هذه الطوائف المسيحيين الأقباط الذين يشكلون ما بين 10٪ إلى 15٪ من تعداد السكان؛ وسكان صعيد مصر الذين يترابطون في عشائر ويتمتعون (في القرى) بنظام حكم ذاتي، حيث لا يوجد ضابط شرطة واحد (بل يتولى تسوية الخلافات بين الأهالي عمدة القرية)؛ والصوفيين الذين يروجون للهداية القلبية والاتصال بالله؛ والبدو الفقراء في منطقة سيناء الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف وتمتد قبائلهم إلى ما بعد الحدود نحو داخل إسرائيل، ويشكلون على الدوام كابوسا أمنيا للنظام الحاكم؛ وأخيرا يوجد النوبيون غير العرب الذين لا يزالون - بالرغم من المزيج العجيب من التسامح والتعاطف معهم من ناحية، والتفرقة العنصرية ضدهم من ناحية أخرى من جانب المصريين العرب - يتحدثون بلغاتهم المختلفة المزدراة، ويبقون على ما تبقى من تراثهم الثقافي الفريد (الذي ضاع الجزء الأكبر منه إلى الأبد في أعماق البحيرة الضخمة التي نشأت مع افتتاح السد العالي).
يرتبط دور تلك الأطياف سواء أكان محوريا أم هامشيا في جميع الأوقات ارتباطا مباشرا بمدى دكتاتورية النظام المصري والمنظومة العسكرية الحاكمة، التي تبغض من يلفت الانتباه إلى مساوئها سواء من المصريين أم الأجانب. إلا أن هذه الأطياف تشكل معا أغلب تعداد سكان مصر، وهي مع ما تبقى من طبقة الليبراليين المثقفين وحركة الناشطين العماليين الناشئة تشكل الأمل الوحيد في أن تقوم دولة مصرية في المستقبل على أسس من الاحتفاء بالتعددية والكرامة وحقوق الإنسان الشخصية. وسيكون لمقاومة الطوائف العرقية والدينية لجماعة الإخوان المسلمين بوجه خاص، وكذلك مقاومة زحف تأثير الفكر الوهابي الأكثر تشددا القادم مع المصريين الذين هاجروا إلى المملكة العربية السعودية، تأثيرات هامة على نطاق أوسع من العالم العربي الذي تسيطر عليه إلى حد بعيد حكومات إسلامية، أو تهدده حركات شعبية إسلامية، وتبلوه شقاقات متنامية بين الفرق السنية والشيعية. المصريون يشكلون ربع تعداد سكان الوطن العربي، وهذا سبب في أن مصر كانت تاريخيا موضع تحديد الاتجاهات والنزعات في المنطقة. من هنا فإن اختيار المصريين تبني الديكتاتورية ومهاجمة العقائد المختلفة - أي الإسلامية والوحدة - أو الديمقراطية والتعددية لن يحدد مصيرهم وحدهم. ولا تتبدى تبعات هذه الاختيارات في أي قضية أكثر مما تتبدى في القضية التي يواجهها الصوفيون والمسيحيون بوجه خاص. •••
تكريما للقديسين والقديسات في الإسلام والمسيحية (واليهودية أيضا حتى وقت قريب)، تقام في أنحاء مصر كافة احتفالات ذات سمات متعددة تعرف بالموالد. وفي هذه الموالد يكون موضع التبجيل هو النبي وآل بيته، ومؤسسو الطرق الصوفية وعشرات الشيوخ الأقل شهرة الذين يحتفى بهم على الأخص في المجتمعات الريفية النائية. وتجذب كبرى هذه الموالد - كالمولد الذي يقام في القاهرة تكريما للحسين (الابن الثاني لعلي بن أبي طالب رابع خلفاء المسلمين الذي ينعي الشيعة قتله في يوم عاشوراء) - عددا يفوق المليون شخص. وهناك رسميا - وفقا لوزارة الأوقاف المصرية - ما يزيد عن أربعين احتفالا من تلك الاحتفاليات يعقد بصفة سنوية، فيما يحتفل المسيحيون أيضا بقديسيهم في احتفاليات كبيرة قد تجذب بدورها مئات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء مصر والعالم العربي. ويدرج مجلس الصوفية ثمانين احتفالا آخر تكريما لمؤسسي الطرق الصوفية الأقل شهرة. والمحصلة النهائية هي أن ما لا يقل عن ستة ملايين شخص في مصر - أي نحو ثلث عدد الذكور المسلمين البالغين في البلاد - أعضاء في جماعة صوفية أو أخرى؛ ويشارك رجال يبلغ عددهم ضعف هذا العدد - بالإضافة إلى ملايين لا حصر لها من النساء والأطفال - في الاحتفالات الفعلية التي ينظمها الصوفيون. ويحتمل أن تدهش هذه الأرقام الغرباء عن مصر، وعليه هي دليل على ميل الإعلام الغربي إلى تناول التطورات التي تتصل فقط بالإخوان المسلمين بالتحليل، وهو مما يضر بالتيارات الإسلامية السائدة الأكثر اعتدالا. تدين جماعة الإخوان المسلمين إقامة الموالد على اعتبار أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، وهذا سبب من الأسباب التي تجعل عدد أعضاء الجماعة من عامة الشعب ضئيلا؛ يساوي على أقصى تقدير نصف مليون عضو. يرى هؤلاء الأصوليون السنة أن التضرع إلى هؤلاء الأولياء الصالحين وحتى الاحتفال بمولد النبي أقرب إلى الشرك بالله، ويتفق معهم في هذا شيوخ الأزهر، إلا أن الجهود المشتركة للإخوان المسلمين والأزهر - كما ذكرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006 - لم تنجح في جذب الكثير من العوام رغم أقصى محاولاتهما معا لإضعاف مظاهر الإسلام الشعبي المصري. دارت عينا مسئول رفيع المستوى في جماعة الإخوان المسلمين استياء عندما سألته صحيفة مونيتور عن الموالد، وقال: «نحن نعارضها، إنها من آثار الجاهلية.» وأضاف: «نود حقا أن تنتهي.» غير أن كفها سيكون صعبا؛ فالطرق الصوفية تجسد الإسلام الذي يمارسه أغلب المسلمين في مصر. ومن ثم، فإنهم الحاجز الذي يحول دون التفسيرات الحرفية المتطرفة للدين التي تروج لها الجماعات المماثلة لجماعة الإخوان المسلمين. ونادرا ما تتجشم جماعة الإخوان عناء اختيار مرشحين لها في الانتخابات في المحافظات الواقعة جنوب محافظة القاهرة، حيث يعيش أغلب سكان مصر ويترسخ فيها تقليد الموالد أكثر من أي منطقة أخرى.
يقام أكبر الموالد المصرية في مدينة طنطا، كبرى مدن دلتا النيل، وخامس أكبر المناطق الحضرية بالبلاد، حيث يجتمع عدد يصل إلى ثلاثة ملايين شخص من المصريين وغيرهم من العرب كل أكتوبر/تشرين الأول احتفاء بذكرى السيد أحمد البدوي، وهو ولي صوفي من القرن الثالث عشر، وهذا عدد مذهل يجعل مولد طنطا حدثا أكبر في التقويم الإسلامي من الحج نفسه - وهو أحد أركان الإسلام - الذي يجذب هذه الأيام نحو مليوني حاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي. ويبدو أن المشاركين في مولد طنطا، وغيره من الموالد، يهدفون لنيل بركات الولي الصالح الذي يحتفل باليوم المخصص له. المركز المادي في أي مولد هو مقام الولي الذي يزين بالأضواء ويعبق بالبخور ويفتح طوال الليل للزوار. يتلو المشاركون في المولد آيات من القرآن ويعطي بعضهم بعضا الحلوى ومقدارا ضئيلا من العطور، وتتحول المنطقة المحيطة بالمقام إلى نقطة احتفال قد تستوعب ساكني قرية بأسرها (أو حتى مدينة صغيرة). وتجتمع الجماعات المشاركة في المولد في خيام لعقد حلقات «ذكر» (وهي كلمة تعني التذكر أو إحياء الذكرى)، يتوسل فيها إلى الله ويمتدح فيها الأولياء والصالحون بالترانيم والغناء والتمايل مع الإيقاع.
يقود مولد طنطا الذي يستمر ثمانية أيام - الذي كان أول الموالد التي انطلقت في مصر - زعيم صوفي يرتدي عمامة منسوجة من الكتان كانت يوما ما ملكا للسيد أحمد البدوي نفسه. ولد مؤسس الطريقة البدوية - أكبر الطرق الصوفية في مصر - في المغرب، وهاجر إلى شبه الجزيرة العربية قبل أن ينتقل إلى طنطا عام 1234 ليؤسس طريقة صوفية جديدة. كان تأسيس الطريقة مبهرا منذ البداية، وظل منذ تلك اللحظة ملمحا هاما من ملامح الحياة في المنطقة وفي البلاد. ولما دمرت مقبرة البدوي في منتصف القرن التاسع عشر، تجمع أهل المنطقة سريعا لبناء بديل لها. ويدل انعقاد مولد طنطا في نهاية موسم حصاد القطن على ارتباطه وارتباط الكثير من الموالد الأخرى بالطقوس الزراعية القديمة. ومع أن الموالد قد تحتفل بذكرى ميلاد أحد الأولياء، فمن الممكن جدا أيضا أن تقام في يوم مخصص لمناسبة أخرى غير دينية. وفي صعيد مصر قد تحاكي الموالد الطقوس والتقاويم الفرعونية؛ ومن ثم تطورت الموالد إلى احتفاليات تتسع للجميع، والكثير من المصريين لا يبالون بأن مشاركتهم بها لا تكون لعقائدهم الدينية بقدر ما تكون للتسلية، من هنا يتسكع الكثير من المسيحيين مع أصدقائهم المسلمين في الموالد الصوفية، ويتسكع الكثير من المسلمين مع أصدقائهم المسيحيين في احتفالات المسيحيين. ظل هذا وقتا طويلا هو الإسلام الذي يتبعه الكثير من المصريين، إسلام يتسم بالتسامح مع الآخر والروحانية العميقة، ويشدد على أهمية التجارة (فالمولد فرصة كبيرة لكسب المال)، وربما قبل كل شيء، على أهمية التسلية أيضا.
المولد المفضل لدي هو مولد ينعقد قبل أسبوعين من شهر رمضان احتفالا بميلاد أبي الحجاج، كبير شيوخ الأقصر؛ وهو احتفال مذهل يشمل مسابقات خيول وجمال، ورقصات تقليدية ومبارزات صورية بالعصي، جميعها تصحبها موسيقى وأضواء نيون ساطعة وقرع طبول مستمر. وأهم جزء من الحفل هو موكب من القوارب الكبيرة وغيرها من المراكب يسير في الشوارع، وهو يشبه مواكب الشمس في عصور الفراعنة وكانت الأقصر مركزا لها. ولد الولي الصالح يوسف أبو الحجاج في دمشق في القرن الثاني عشر وعاش في مكة قبل أن يستقر به المقام في الأقصر، حيث أسس معتكفا روحيا، ولا يزال أحفاده يعيشون في المنطقة، حيث عادة تبجيل الشيوخ المحليين (كما هي الحال في باقي مناطق صعيد مصر) راسخة بشدة في أسلوب الحياة الريفية الدوري القائم على تغير الفصول ومن ثم تغير أوقات الحصاد. يحتل أحفاد أبي الحجاج موقعا شرفيا في الموكب الذي يسير في الشوارع، ويسهل تمييزهم من الأردية البيضاء الطويلة المسترسلة وأغطية الرأس التي لا يرتديها سواهم، ويعقد صوفيو المنطقة في شهر رمضان نفسه حلقات ذكر في المساء خارج مسجد أبي الحجاج إلى جانب معبد الأقصر - أحد أهم المزارات الفرعونية التي تجذب السياح في المدينة - وتكثر الأساطير عن شخصية هذا الولي الصوفي وأثر روحه الخالدة. أخبرني صاحب متجر متوسط العمر في بازار البلدة السياحي في أحد الأعوام، عندما كنا نشاهد موكب أبي الحجاج ونلقي بعضا من الحلوى على مراكبه المارة التي ازدحمت بفتية نصف عراة تملؤهم البهجة وتكتسي جذوعهم بلطخ طلاء زاهي اللون: «العام الماضي، قبل أن يبدأ المولد بوقت قصير، أتى لواء من الجيش إلى المسجد وقال إن المولد لن يقام ما لم ينظف المكان تماما.» ثم استطرد حسين قائلا: «لكن بينما كان يشير إلى إحدى المناطق القريبة من المسجد، خارت قوة ذراعه وسقطت إلى جانبه عاجزة عن الحركة. وعندها أقر بهزيمته، وهلل الحشد بقوة، وكما ترى المولد مستمر كالعادة.»
صفحة غير معروفة