والحق أن أهل هذه البلاد ما يزالون مترددين بين الاعتزاز ببدويتهم والإعجاب بالحضارة الحاكمة، فهم يتمنون أن يتاح لهم المتاع بكل ما تيسره هذه الحضارة من متاع بالحياة، وهم يخشون ألا تطيق نفوسهم هذا المتاع، أو لا تطيقه بلادهم وبيئتهم لو أنه جلب إليها، كما يخشون أن يضيع ما تجلب هذه الحضارة إليهم ما ينعمون به من حرية البداوة، فهم يعتزون بها ويذكرون ماضي مجدها ويرجون لو يستطيعون الجمع بينها وبين ما في الحضارة من خير، ناسين أو متناسين أن الخير وحده لا وجود له، وأن الشر وحده لا وجود له، وأن اجتماعهما طبيعي، فلا مفر منه ولا معدى عنه، وأن غاية ما نستطيعه أن نستر الشر عن الأعين، كما يتوارى المريض أثناء مرضه عن أعين الناس.
وأقبل المساء وأقبل شعراء البادية إلى بهو الدار يبلغون الخمسة عشر عدا، وجلس كل منهم في المكان الذي تؤهله له مكانته، في الصدر جلس رجل منهم يناهز الستين، تحدث سيماه ويحدث لباسه عن وجاهة في قومه وتقدم على أبناء قبيلته، وجلس على مقربة منه من لا يبلغ الثلاثين ولكنه فصيح القول، في نبرة صوته أمارة الرياسة، وجلس الباقون وقد اختار كل منهم مكانا لا ينازعه إليه غيره، وألقى كثير من هؤلاء مشالحهم عن أكتافهم، أما أولو الصدارة فقد احتفظوا بها وكأنها بعض أمارة الصدارة، وبادلتهم التحية جميعا، ثم فسحوا لي في الصدر مكانا وسألوني عما شهدت بالطائف وعن رأيي فيه، واتصل بيننا حديث سرعان ما خالطه ذلك الود الفياض من ميراثنا المشترك في اللغة والتاريخ والعقيدة، ذلك الود الذي يجعلنا نشعر حيث كنا من بلاد هذا العالم العربي أننا بين أهلنا وذوي قربانا، التقى أجدادنا وأجدادهم، وجرى في عروقنا وعروقهم عن طريق النسب دم مشترك، فأصبحنا أمة واحدة وإن تباعدت البلاد وتباينت العادات.
ولم أكن أطمع في أن أسمع من شعراء العرب هؤلاء شعرا عربيا كالذي انتهى إلينا عن الجاهلية وعن شعراء العرب أيام سلطانهم وازدهار حضارتهم، فلقد طمعت في أن أسمع بالبادية حديثا عربيا في صفاء اللغة التي درسناها، فلم أسمع في الأودية ولا في أعالي الجبال من ذلك شيئا، وإنما هي لهجات تعذر علي فهم بعضها كما يتعذر علي فهم لغة أهل الصعيد الأعلى في مصر، وفهمت بعضها في عسر، كما لو كنت أسمع بعض اللهجات في سوريا ولبنان، وليس في البادية مدارس يتعلم أبناء البادية العربية الصحيحة فيها ويدرسون الشعر القديم كما يدرسه أبناؤنا ليقولوا الشعر متأثرين ببيئتهم محاكين الأقدمين في نظمهم، ولم يخلف هؤلاء الشعراء ظني، فقد بدءوا يلقون مقاطيع في الغزل وفي ذكر الأيام، أيام البادية المجيدة، هي أشبه شيء بالمواويل الحمر في صعيدنا الأعلى، ولقد كانت طريقة الإلقاء تبعث إلى النفس من معاني ما يقولون أكثر مما تبعثه الألفاظ الغريبة عني، والتي تنطوي عليها لهجاتهم المختلفة، وكثيرا ما حاول الشريف حمزة الغالبي أو الشيخ صالح القزاز أن يترجم لي هذه المقاطيع باللغة التي نتفاهم بها، لغة أهل مكة الجامعة بين خليط من لغات المسلمين في أقطار العربية المختلفة، وكنت أقف من هذه الترجمة على صورة بدوية بديعة في هذا الشعر الساذج أكاد أذكر بها معاني الأقدمين.
وجاءت نوبة الشريف حمزة الغالبي فألقى قصيدة باللغة العربية الفصحى، وكأنما أراد أن يرفه عني بلغة يتيسر علي فهمها، وعاد أصحابه إلى مقاطيعهم، ثم عاد هو فألقى قصيدة أخرى، وعاد في نوبته فألقى قصيدة ثالثة، إذ ذاك ضاق القوم به ذرعا أن رأوني أسرع إلى فهم ما يقول، فحدثه أسنهم يعيب عليه أن يحاول إبداء تفوقه عليهم أو ازدراء لغتهم ولغة آبائهم، واعتذر الشريف في تأدب بأنه إنما يريد أن يطلعني على شيء مما يقولونه، ولم يعد بعدها إلى إلقاء شيء من شعره.
وكان الطريف في هذه القصائد الثلاث التي أنشدها أنه يمدح بأولها حكم الترك، وبالثانية حكم الأشراف، ويشيد في الثالثة بحكم ابن السعود، دون أن يرى في ذلك ما يعاب به أو يقدح فيه، ألم يكن هؤلاء جميعا حكاما لبلاده؟ فهم سواسية عنده، يقول فيهم جميعا قولا واحدا، ويتخذ إزاءهم من شعره ما يتقي به ظلمهم وما يصل به إلى رضاهم، وإلى ما يسبغه هذا الرضا على من يناله من خير ونعيم.
ومدت لشعراء العرب الموائد، وقدم لهم العشاء، فالتفوا حوله بعد تمنع ونالوا منه شبعهم، وبعد أن تناولوا القهوة وتحدثوا استأنفوا قول الشعر، لكنهم لم يقولوه مقاطيع كما فعلوا قبل العشاء، بل بدءوا بالمطارحة: يرتجل أحدهم في أمر فيجيبه آخر ارتجالا في هذا الأمر، وما كان لي أن أحكم بينهم ولم أكن أفهم مما يقولون إلا قليلا، لكنني رأيت بعضهم يتحمس لما يسمع من جانب، ورأيت آخرين يتحمسون لما يسمعون من الجانب الآخر، وذكرت شيئا من هذه المطارحة سمعته في لبنان، ورأيت هناك ما رأيت بالطائف من تحمس لهذا ولذاك من المرتجلين، فأيقنت أن الشعر شعبي يثير الحماسة، وأن قائله يتوخى في قوله أن يثيرها في النفوس ليذكي فيها من صرام هذه الحماسة غاية ما يستطيع إذكاءه.
وانتهى القوم من هذه المطارحة يتبادلونها جلوسا، ثم قاموا فريقين يواجه كل منهما الآخر، وقد أمسك الزعيم من كل فريق عصا، واندفعوا يتطارحون في حماسة أشد من الأولى وأنا لا أكاد أفهم مما يقولون شيئا؛ لبعد ما بين لهجتهم وما عرفت من لهجات البلاد التي تتكلم العربية الفصحى، وحمي وطيس المطارحة، وأخذت الحماسة من نفوس الفريقين أعظم مأخذ، ولم يصبح الأمر بينهم أنهم يريدون إظهاري على شعر البادية ما هو، بل أصبح منافسة واستعلاء، يريد كل فريق أن يكون له التفوق والغلب، وهل بقي من أمري ما يعنيهم وقد رأوني لا أفهم ما يقولون؟! لكنهم يفهم بعضهم بعضا، ولكنهم رأوا حديقة الدار قد امتلأت بأهل الطائف كبارا وصغارا يلقون إليهم السمع ويتحمسون لهم فيزيدونهم حرصا على الإجادة والتفوق، وامتلأت حديقة الدار منذ بدأت هذه المنافسة ولم يكن بها أول المساء إلا القليل، فلا عجب أن يحرص كل فريق على أن يحكم النظارة بتفوقه ، وإن امتد به القول، وإن أقام مكانه حتى الصباح يتلقى الهجمات ويدفعها حتى يبلغ من ذلك إلى إخفات صوت خصمه.
وأدرك الشيخ صالح القزاز أني أقيم معهم مجاملة لهم ما دمت لا أفهمهم، وأني في حاجة إلى الراحة والنوم، وكان الليل قد انتصف ولا بد لنا من التبكير في اليقظة صبح الغد لنخرج إلى جبال الشفا؛ لذلك أخذ يشكر القوم علامة الإذن بانتهاء الحفل، إذ ذاك سمعت زمجرة استياء من ناحية الحديقة وبدا على المتنافسين الضجر مما سمعوا، وكأنما كان كل فريق يحسب النصر قد دنا، أو أن فريقا طرب للانتهاء؛ لأنه كان وشيك الخذلان، في حين كان الفريق المتفوق هو المزمجر استياء لهذا التبكير بفض الحفل قبل تمام انتصاره، على أن حركة الاستياء لم تلبث غير ثوان جلس القوم بعدها ثم استأذنوا وانصرفوا، وقمت إلى مضجعي مكدودا فلم تك إلا لحظات حتى اشتملني عالم النوم.
واستيقظت بكرة الصباح وصور هؤلاء الشعراء ما تزال ماثلة أمام عيني، وساءلت نفسي عن هذه المطارحة وهذا التفاخر: أهما صورة ما كان يقع عند العرب من سكان هذه البادية في العصور القديمة حين كانت الفصحى ما تزال في سلامتها، وأن ضياع الفصحى لم يحل دون انتقال هذه الصورة على العصور من الآباء إلى الأبناء؟ ولم أعن نفسي بالوقوف عند هذا السؤال والتماس الجواب عنه، مكتفيا بما علقته الذاكرة من كتب الأدب عن المطارحة ارتجالا وذيوعها عند العرب الأقدمين، فأما هذه المفاخرة في صفين يقف أحدهما قبالة الآخر فقد تكون صورة من المطارحة في الفخر لم تطل كتب الأدب الحديث عما كان يقع منها فيما مضى، وقد لا تكون مما ورثه عرب البادية اليوم عن أسلافهم، وإنما هي بدعة انتقلت إليهم من بعض البلاد التي غزاها هؤلاء الأسلاف بعد الفتح الإسلامي بزمن قصير أو طويل.
وسألت الشيخ عبد الحميد حديدي، ونحن نتناول طعام الإفطار، عن المكان الذي لقي النبي فيه عداسا النصراني النينوي حين جاء إلى الطائف مستنصرا أهلها فخذلوه وأغروا به صبيانهم فوجد في عداس هذا عزاء وسلوى عن تحرش الصبيان به وتنكر الرجال له، وأجاب الشيخ عبد الحميد: إن مسجد عداس يقع بالمثناة إحدى قرى بادية الطائف، ولا يقع بالطائف المعروفة اليوم، أما وكتب السيرة جميعا تشير إلى أن عداسا لقي النبي بالطائف حين احتمى بحائط شيبة وعتبة ابني ربيعة، كما تشير إلى أن مضارب المسلمين حين حصارهم الطائف كانت تقع على مرمى النبل منها، وإلى أن قبور الشهداء الذين أسلموا الروح أثناء هذا الحصار، وهي القبور الواقعة إلى جانب مسجد ابن عباس، تقع حيث كانت تقوم هذه المضارب، ففي هذا كله ما يدل على أن الطائف لا تقوم اليوم حيث كانت تقوم على عهد الرسول، وأنها نقلت من مكانها، حيث كانت تحيط بهذه المثناة التي يشير الشيخ عبد الحميد إليها وإلى وجود مسجد عداس بها، وشيدت حولها قبور هؤلاء الشهداء تبركا بهم وتيمنا بهذا المكان الذي أقام النبي به أثناء حصار الطائف، وقد أقنعني تجوالي ببادية الطائف ووقوفي بالمثناة من قراها بصحة هذا الرأي، وبأن موقع الطائف اليوم غير موقعها القديم، وأن إحاطتها بمسجد ابن عباس وقبور الشهداء من المسلمين إنما ترجع إلى هذه الاعتبارات التاريخية التي رواها صاحبي.
صفحة غير معروفة