لكن أصحابنا اعتذروا بأعمال لدى بعضهم لا سبيل إلى أن تؤجل، وهبطنا من الجبل وأنا أجد في الهبوط أكثر مما أجد في الصعود من مشقة، وإني في ذلك لعلى خلاف الناس جميعا إلا من كان مثلي، فصعود السلم أسهل لي من هبوطه، وارتقاء الجبل لا يزعجني، لكن الانحدار منه يحدث لي شيئا يشبه الدوار، وأنا أتقيه بأن أحصر نظري بين قدمي حتى لا يقع على الهاوية أمامي أو عن جانبي، وبلغنا المقهى عند أسفل السفح، فإذا أصحابي سبقوني إليه واستراحوا به، فلما رأوني قاموا إلى السيارة فأقلتنا إلى الدار.
لقد كان لقصة الهجرة في نفسي من المهابة أكبر نصيب، ذلك كان شأني منذ نعومة أظفاري، لكني منذ صعدت ثورا ودخلت الغار وتمثل لي به ما تمثل لي، قد صرت أشد لها إكبارا وإجلالا، وها أنا ذا قد تركت مكة وسافرت إلى نواح من الحجاز مختلفة، وعدت إلى مصر، وقمت بأسفار أخرى، وما أزال كلما ذكرت ثورا والغار المجاور لقمته ذكرت قصة الهجرة فامتلأت نفسي لها مهابة ورهبة.
أخطأ الذين يحسبون في حياتنا المادية سبب سعادتنا أو سبب قوتنا، إنما سعادتنا وقوتنا في حياتنا النفسية، لنكن طلقاء في البادية أو حبيسين في الغار أو حيثما شئنا من أرض الله، فنحن سعداء ونحن أقوياء بإرادة الله وإرادتنا ما وهبنا نفوسنا لله وفي سبيل الله نريد غاية سامية نحققها لإخوتنا بني الإنسان، وهذا بعض ما يدعو محمد إليه حين يقول: «لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
هذه بعض العبرة في ذلك الغار وقصته، وقصة الهجرة أكبر عبرة لقوم يعقلون.
ظاهر مكة
كان وادي مكة خاليا إلا من بعض مضارب الخيام حين أقام إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ولما جاءت جرهم ثم خزاعة فأقامتا بالوادي، ثم لما تزوج إسماعيل من جرهم، لم يقم أحد منهم جوار بيت الله بيتا غيره، بل تركوه قائما يطوفون به أثناء النهار وزلفا من الليل، فإذا جنهم الظلام ذهبوا إلى الحل فقضوا ليلهم فيه، كذلك تجري الروايات إذ تقص تاريخ مكة، وتزيد الروايات إلى ذلك أن قصيا - الجد الخامس للنبي - لما اجتمع له أمر مكة وأصبح الأمير المطاع فيها جمع قريشا وأمرهم أن ينشئوا الدور فيها وأن يقيموا حول البيت ما شاءوا، وبنت قريش دورها حول الكعبة فلم يتركوا خاليا إلا مكان الطواف بها، وتركوا بين كل دارين طريقا ينفذ منه إلى المطاف، وسبقهم قصي إلى البناء في جوار الكعبة، فأقام دار الندوة لأهل مكة جميعا يجتمعون فيها يتحدثون ويتشاورون ويعقدون العقود ويتمون من أمورهم ما يريدون إتمامه.
أين كانت حدود الحرم أيام جرهم؟ وأين كان هذا الحل الذي يذهبون للمبيت به حتى أمر قصي بالبناء بالحرم؟ يتعذر اليوم تحديد ما كان ذلك عليه في الأيام الخالية، وإن قوما ليذهبون إلى أن الحرم قد كان محصورا إذ ذاك في حدوده المعروفة اليوم ، والتي تعينها الأعلام القائمة على منافذ أم القرى، وهذه الأعلام قائمة اليوم في خمس جهات تحيط بمكة من نواحيها جميعا، فثم علمان عند الحديبية، وهي التي يطلق عليها الشميسي في طريق القادم من جدة إلى مكة؛ وعلمان عند التنعيم في طريق القادم من المدينة إلى مكة، وعلمان عند الجعرانة في طريق القادم من العراق، وعلمان عند عرفة في طريق القادم من الطائف، وعلمان عند أضاءة في طريق القادم من اليمن، والأعلام التي يشهدها الإنسان اليوم أحجار متقنة النحت ترتفع عن الأرض قرابة متر وتقوم متحاذية على جانبي كل طريق من هذه الطرق، وتختلف أطوال المسافة من الحرم إلى كل واحد من هذه الأعلام، فعلما الحديبية يقعان على نحو عشرين ميلا من المسجد الحرام، وعلما التنعيم يقعان على نحو ستة أميال منه، وعلما الجعرانة يقعان على مسافة ثلاثة عشر ميلا، وعلما عرفة يقعان على ثمانية عشر ميلا، وعلما أضاءة يقعان على اثني عشر ميلا، فأما ما يجيء وراء هذه الأعلام إلى مواقيت الحج فذلك هو الحل، ومن وراء الحل تمتد الآفاق إلى أقصى الأرض في مختلف بقاعها وقاراتها.
يذهب قوم إلى أن الحرم كان محدودا من عهد جرهم بالحدود القائمة هذه الأعلام عندها، بل يذهب بعضهم إلى أن إبراهيم - عليه السلام - هو أول من نصب الأعلام تعظيما للبيت وتشريفا، ويقول آخرون: إن إسماعيل بن إبراهيم هو الذي نصب هذه الأعلام، ويذهب قوم إلى أن قصيا هو الذي عين هذه الحدود حين أمر بالبناء حول الكعبة، ويقال: إن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وإن قريشا نصبتها بعد ذلك في عهد النبي وقبل هجرته من مكة، وفي قول يرجحه بعضهم أن النبي وضع حدود الحرم عام الفتح ونصب الأعلام حوله، ثم نصبها عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم معاوية بن أبي سفيان، ثم عبد الملك بن مروان، ثم المهدي العباسي، وقد أمر جماعة من الملوك والأمراء بتجديد هذه الأعلام بعد ذلك، وأحدث ما تذكره الكتب من تجديدها أنه كان في سنة 683ه بأمر المظفر صاحب اليمن، والحالة التي عليها الأعلام اليوم تدل على أنها جددت بعد ذلك غير مرة وأنها لا ترجع إلى أكثر من بضع عشرات من السنين.
فيما بين حدود الحرم ومواقيت الحج يقع الحل، وليس بين أعلام الحرم ومواقيت الحج أبعاد نائية إلا فيما بين مكة والجحفة، وفيما بين مكة وذي الحليفة، وتقع ذو الحليفة بظاهر المدينة، وهي ميقات أهل المدينة، منها أحرم الرسول وأصحابه حين خرجوا إلى عمرة القضاء، وحين خرجوا إلى حجة الوداع، أما الجحفة فتقع في منتصف الطريق بين مكة والمدينة، وهي ميقات المصريين والشاميين وكل من حاذاها في البر والبحر، أما ميقات العراقيين فذات عرق، على مقربة من الجعرانة، وأما ميقات النجديين فقرن المنازل، على مقربة من العشيرة، وأما ميقات أهل اليمن فيلملم، وعلما أضاءة يقعان بينها وبين مكة، وهي لذلك تلي الجحفة في بعد مواقيت الحج عن مكة، وعند هذه المواقيت يحرم المقبلون للحج ويظلون على إحرامهم حتى يدخلوا مكة ويتموا العمرة ثم يحلوا إحلال التمتع ما لم يسوقوا الهدي معهم ينحرونه، فمن ساق الهدي فقد وجب عليه أن يبقى على إحرامه حتى يتم العمرة والحج جميعا قارنا غير متمتع.
أما فيما خلال أشهر الحج فشأن ما بين المواقيت وأعلام الحرم كشأن الآفاق مما وراء المواقيت إلا لمن ذهب معتمرا إلى مكة، فإنه يحرم من ميقات الحج إحرامه بالحج، ولا يحل إحرامه إلا إذا أتم عمرته.
صفحة غير معروفة