وقد اختلف المسلمون من بعد؛ أفيتركون الكعبة كما بناها الحجاج؟ أم يعيدونها إلى بناء ابن الزبير استنادا إلى حديث عائشة، فلما تولى هارون الرشيد الخلافة سأل الإمام مالكا في هدم الكعبة وردها إلى بناء ابن الزبير، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك الرشيد الكعبة كما هي.
وبقي الأمر على بناء ابن الزبير وتعديل الحجاج إياه، لا يزيد المسلمون على أن يشدوا من بناء الكعبة ما قد يعتريه الوهن، فلما كانت سنة 1040 هجرية/1630 ميلادية هطل بمكة مطر عظيم استمر يومين كاملين، فدخل المسجد الحرام ثم ارتفع حتى دخل الكعبة ووهن بناءها، وكان قد انقضى على إقامته قرابة ألف عام، فلما أمسكت السماء وبدأ المطر ينحدر من الكعبة بدأت جدرانها تتساقط، وكان جدارها الشمالي أول جدار سقط، ثم سقط بعض الجدارين الشرقي والغربي، هنالك انزعج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا، ونزل أمير مكة إلى المسجد الحرام وأمر بإخراج قناديلها خشية الضياع، وتبلغ هذه القناديل عشرين كلها من الذهب، وأحدها مرصع باللؤلؤ، وجعلت أحجار الكعبة تتساقط لشدة ما أصابها من الوهن، وجعل الناس يزدادون وجلا، ثم تقدم الأمير وجوه مكة وتبعهم الناس ينظفون المسجد وقد جرفت السيول إليه من الرمل والتراب ما تعذر معه التنظيف بغير المساحي والمكاتل، بل أحوج الأمر من بعد إلى إحضار الأبقار من جدة لتحرث أرض المسجد بعد جفافها لإزالة ما بها.
وتشاور الناس في أمر الكعبة وما يصنعون بها، وانعقد رأي الجماعة من علماء مكة وسادتها على المبادرة إلى عمارتها من مال الكعبة، وأن يعرض الأمر على السلطان، وألا يمنع أحد من عمارتها من ماله إذا لم يكن فيه شبهة.
وترامى نبأ الكعبة وما أصابها إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، فهاج الناس له واضطربوا، ولم ير والي مصر محمد باشا الألباني أن ينتظر ورود أمر السلطان من الآستانة مخافة أن يزداد التصدع في الكعبة؛ ولأن أشهر الحج كانت قد اقتربت، فأرسل رسوله إلى مكة ليرى في عمارة الكعبة رأيه، وبلغ الرسول مكة في منتصف شوال من تلك السنة.
وانقضت أشهر الحج والسلطان يشاور أصحابه ما يصنع، فلما استقر رأيهم على العمارة بعث رسوله الذي بلغ مكة في ربيع الأول من سنة 1040؛ وكان أول ما صنع هؤلاء جميعا أن أحاطوا الكعبة بسياج من الخشب يطوف الناس به ويتخذونه قبلتهم كما فعل ابن الزبير، ثم إنهم جعلوا يتشاورون ما يصنعون، وإنهم لكذلك إذ سقط مطر هدمت منه بعض أحجار الجدار الغربي، هنالك اتجه الرأي إلى هدم ما بقي من جوانب الكعبة، ولم يقع خلاف إلا على ركن الحجر الأسود، لكن فتوى المهندسين بأن هذا الركن يوشك أن ينقض كذلك أزالت تردد القوم جميعا، فهدموا البيت كله ليقيموا بناءه ثابتا قويا.
واشترك في هذه العمارة جماعة من المهندسين «والمعلمين» المصريين، وأنفق القوم في البناء ستة أشهر وأموالا طائلة، ولم يكونوا يعيدون من الأحجار التي بنى ابن الزبير بها الكعبة إلا ما وجدوه ما يزال صلبا قويا، فأما ما وهن أو ضعف فكانوا يستبدلون به غيره، ولم يجدوا في ذلك مشقة، وقد كان لا يكلفهم إلا تسوية الأحجار ودقة نحتها، لكنهم واجهوا مشكلة ذات خطر حين أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود مكانه، فهذا الحجر كان قد أصابه بعض التصدع في عهد ابن الزبير؛ فلم يجد مشقة في شده وتقويته وربطه بسور من الفضة، فلما أراد البناءون وضعه مكانه أثناء هذه العمارة الأخيرة في عهد السلطان مراد ألفوا به شطوبا مستطيلة ورأوا الفتات يتناثر منه، وللحجر الأسود من التقديس ما لا يصح معه أن يسقط من أجزائه كثير أو قليل، أو أن يتناثر منه فتات ولو كان ضئيلا؛ لذلك عالجه المهندسون على هدي فن المعمار، مصطنعين الصبر والأناة، مستهينين بكل مشقة أو تعب، عاملين على ملء ما بين أجزائه بمركب يعيد إليها قوتها ويكفل بقاءها مشدودة في إطار الفضة لا يصيبها سوء.
ولما فرغ القوم من بناء الكعبة وسقفها ووضع عمدها وترميمها، بنوا حجر إسماعيل، وكانوا حريصين على أن يعيدوا من أحجاره ما نقرت فيه أسماء من سبقوا إلى عمارته، على أنهم ألفوا رخامة مفقودة من الجدار الذي تم بناؤه في عهد ملك مصر الملك الأشرف «قانصوه الغوري»، فلم يعنوا أنفسهم بنقش غيرها ليضعوها مكانها، بل وضعوا رخامة ملساء، ولعلهم في ذلك قد أخذوا بإحدى النظريات التي يقرها الفن الحديث للمعمار، إذ يحترم صنع الزمن بالأشياء فلا يحاول ردها إلى أصلها أو إبدال ما يشابهها بها، بل يقوي مكانها مكتفيا بذلك، معتبرا إياه بعض ما يوجب الفن في عمارة الآثار التاريخية.
ولما أتم القوم البناء كتبوا محضرا أرسلوه إلى مصر فيه شهادة المكيين بحسن عمارة البيت المعظم، وفي ذلك اعتراف بما كان لمصر من مجهود في هذه العمارة فاق كل مجهود قامت به أية أمة إسلامية أخرى، ولا عجب في ذلك وقد أرسلت مصر جميع ما يلزم لهذه العمارة، وأنفقت مع ذلك ستة عشر ألفا من الجنيهات لإتمامها.
وهذا البناء الذي شاركت فيه مصر بالحظ الأوفر هو بناء الكعبة القائم اليوم.
أنا الآن أقف إذن من بيت الله الحرام في بناء شاده أجدادي وبنو وطني، هذا البناء ما يزال قويا إلى اليوم، ولن يزال قويا على الزمن ما في طبيعة بناء تشيده الأيدي المصرية أن يقف قويا على وجه الزمن، نعم! أنا أقف حيث وقف إبراهيم وإسماعيل، وحيث وقف النبي العربي - عليه السلام، وحيث وقف ألوف وملايين من الناس كانوا إلى ما قبل العمارة الأخيرة للكعبة يذكرون العرب الذين بنوها أيام قصي وأيام ابن الزبير، وهم اليوم يذكرون العالم الإسلامي كله، ويذكرون مصر درة التاج من هذا العالم الإسلامي كله، ولكن، أفيساورني فخر بمصريتي وأنا هنا في بيت الله، ونحن جميعا عباد الله عبودية لا تعرف وطنا ولا تعرف فخرا ولا غرورا، بل تعرف الحب والأخوة للمؤمنين جميعا فلا يكمل إيمان الإنسان إلا إذا كملا؟!
صفحة غير معروفة