ثم إن أهل مكة أنفسهم، ورجال الحكم في بلاد العرب جميعا، يتصلون اليوم بالبلاد الإسلامية المختلفة، بعد أن يسرت أسباب المواصلات الحديثة سبل الانتقال وقربت بين أجزاء العالم، مما يجعلهم أكثر استعدادا لقبول التجديد في مدينتهم، وإن منهم من يزور أوروبا، ويقف على أساليب الحياة فيها، هذا إلى أن كثيرين من موظفي الحكومة العربية ينتسبون إلى مصر وإلى سوريا وإلى بلاد إسلامية شتى، صحيح أن الماضي يحول دون الطفرة في دعوة هؤلاء إلى الإصلاح كما تحول الأحوال الاقتصادية دونها، لكن هذا العامل له قيمته - لا ريب - في تجديد صورة الحياة بمكة، وله أثره في تفكير الشباب من أبنائها.
وهذا الماضي الذي يثقل خطا دعاة الإصلاح يجد في ناحية من نواحي الحياة بمكة ما يشد من أزره إزاء المحاولات التي تبذل للتغلب عليه، هذه الناحية هي التفكير القديم الذي أشرت في أول هذا الفصل إليه، والذي يجعل فكرة التوكل قائمة على التواكل والكسل وعدم السعي في الحياة والقناعة في الرزق بما يجيء من غير مشقة أو عمل، وإن ألوفا وعشرات الألوف من المقيمين بمكة ليرون حقا لهم أن يعيشوا من الصدقات التي تجرى عليهم، ولا يفكر أحدهم في مزاولة عمل يقيم أوده وأود أهله.
وهذا الروح هو الذي يجعل التسول منتشرا بمكة، وخاصة أثناء الحج، انتشارا مروعا، فأنت كلما ذهبت إلى المسجد الحرام للصلاة وجدت على كل باب من أبوابه الكثيرة العدد - وهي تبلغ ستة وعشرين بابا - عشرات من الصبية والنساء يتكففون الناس ويسألونهم إلحافا، ويرى كثيرون من الحجاج، وكثيرات منهم بنوع أخص، فرضا عليهم أن يعطوا هؤلاء، فهم ينفقون في ذلك العطاء الرخيص الشيء الكثير مؤمنين بأنهم يعطون الفقير مما أعطاهم الله من فضله، فلهم مثوبة ذلك عند ربهم، وكثيرون من هؤلاء المتسولين أقوياء البنية، أصحاء الأجسام، قادرون على العمل، وكثيرا ما رأيت منهم من لو وجد في أحياء القاهرة أو في أرياف مصر لأنذر بالتشرد ولشددت الشرطة عليه الخناق، لكنهم في المدينة الإسلامية المقدسة يجدون عطفا عليهم من حجاج المسلمين، وتسامحا معهم من جانب الحكومة.
ولعلك لو سألت في ذلك لقيل: إنهم من ذرية إسماعيل، وإنهم تنطبق عليهم الآية:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وإن ما يبذله الناس من هذه الصدقات إنما هو هذا الهوي من أفئدة الناس إلى ساكني البلد الأمين، هذا وإن لم يكن بين سكان البلد الحرام من ذرية إسماعيل اليوم إلا القليل، أما الأكثرون فخليط من أبناء البلاد الإسلامية في آسيا وإفريقيا.
ولقد ذكرني مشهد هؤلاء المتسولين بما تقرره مذاهب عصرنا الحاضر من حق العمل للأفراد كي يعيشوا منه، وذكرت دعوة القرآن الناس ليمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، وحاولت أن أجد مسوغا لانتشار التسول بمكة، فلم أجده إلا في سوء التأويل للفكرة الإسلامية، ذهبت إليه طائفة أرادت استغلال العواطف لفائدة قوم كسالى لا يعملون، وهم على العمل قادرون، وهذا التأويل الفاسد لا يقره مذهب سليم، فالدعوة الإسلامية أساسها العمل في الحياة والجهاد للرزق فيها، ولقد كان المسلمون الأولون من أهل مكة من أكثر الناس سعيا ودأبا، فلما هاجروا مع الرسول إلى المدينة وأراد الأنصار أن يشاطروهم أموالهم أبوا ذلك على أنفسهم - على رغم حاجتهم إليه - وذهب يعمل في التجارة منهم من تؤهله مواهبه للتجارة، ويعمل في الزراعة من يفضل العمل في الزراعة، ولم تكن الأرزاق يومئذ تجرى إلا على العاجزين عن الكسب، شأنهم في ذلك شأن أمثالهم اليوم، في أرقى الأمم حضارة، فأما القادر على الكسب فلا حق له في الحياة ما لم يعمل، والعمل للقادر عليه عبادة لها مثوبتها عند الله، ولها كرامتها واحترامها عند الناس.
ولو أن الألوف التي تعيش اليوم بمكة من الصدقات زاولت من الأعمال ما تستطيعه لتغير وجه الحياة في مكة، ولو أن ما يخرجه المسلمون من مالهم صدقات للمتسولين جمع وأنفق في أعمال يقوم على استغلالها هؤلاء لكان أعود عليهم وعلى مكة بالفائدة، ثم لتغيرت هذه العقلية المريضة، عقلية التواكل والكسل المزري العجيب، ولتغير تبعا لذلك تفكير الناس تغيرا يدفع مكة إلى ناحية الحياة الحديثة، لست أجهل ما في ذلك التغير من عسر وأهل مكة لا تجمع بينهم رابطة الجنس، ولهذه الرابطة أثرها القوي في تكوين الحياة القومية.
ولقد كنت أتحدث يوما إلى مكي صميم في حرب الأشراف النجديين، وكنا نفرض الأسباب التي أدت إلى دخول الإخوان مكة من الطائف موفورين، ومما اتفقنا عليه من هذه الأسباب تكوين أهل مكة من خليط من أجناس المسلمين في أنحاء الأرض جميعا، فماذا يعني المغربي أو الجاوي أو الأفغاني أو الهندي أن يكون حاكمه عربيا قرشيا أو بدويا نجديا ما دام هذا وذاك مسلما، وما دام كل منهما يدع له من أسباب الرزق بلا سعي ولا عمل ما اعتاد منذ قرون خلت؟ أما وذلك شأنه فليس يعنيه أن يشترك في نزاع على حكم مكة أو حكم الحجاز، وليس يصيبه من تغيير الحاكم خير ولا أذى، ولو أن أهل مكة كانت تجمع بينهم رابطة الجنس لتغير وجه تفكيرهم في الدفاع عن مدينتهم، ولرأوا هذا الدفاع واجبا عليهم متصلا بكرامتهم؛ لأنه الدفاع عن الوطن، ثم لرأوا على كل فرد من أبناء الوطن أن يعمل لخير الوطن، وألا يعيش عالة عليه ما دام قادرا على العمل.
ولقد أدركت الحكومات العثمانية هذا السر في الماضي فلم تعمل لتغيير عقلية التواكل في مكة وفي الحجاز كله، بل عملت على تثبيت قواعدها وتعميق جذورها بإجراء الأرزاق على هؤلاء الأغراب الذين نزحوا إلى مكة واستوطنوها، وتشجيع ذوي اليسار على حبس الأوقاف لإجرائها عليهم، بذلك توطد روح التواكل والقعود بالبلد الحرام، وانتشر منه إلى ما حوله من بلاد الحجاز، وبذلك تعذر القيام فيه بأي حظ من الإصلاح، فإذا فكر أحد في إصلاح شوه مقصده، ونعت بأنه يريد إخراج الناس من طمأنينتهم السعيدة التي أرادها الله لهم، والزج بهم إلى حظيرة العمل الشاق والأفكار الضارة المارقة.
لست أقصد مما سبق إلى أن الطبيعة قضت ببقاء فكرة التواكل سائدة أهل البلد الأمين ممتدة منهم إلى ربوع البلاد العربية المختلفة، وإنما أقصد إلى أن التغيير لا يتم سراعا كما يتم في بلد تربط وحدة الجنس بين أبنائه، لكن تمامه أمر لا مفر منه، كما أسلفت؛ لتزايد أسباب الاتصال بين بلاد العرب والعالم الخارجي، هذا الاتصال يسرع بألوان التفكير الحديث إلى مكة على أيدي المسلمين الذين يحجون البيت من مختلف الأقطار، كما يسرع به إليها ما بين الحكومة العربية والحكومات الإسلامية الأخرى من أسباب التفاهم.
صفحة غير معروفة