وأوينا بعد العشاء إلى مضاجعنا، فلما أصبحنا كنا على ساعات من ميقات رابغ، وعلى ساعات كذلك من إعلان النية بالحج والعمرة والإحرام بهما؛ لذلك لم يكن للمسافرين جميعا طيلة الصباح حديث غير حديث الإحرام، بعد هذه الساعات يتطهر المسافرون جميعا ويصلون بنية الحج والعمرة ويحرمون، وبعدها يكررون التلاوة لقوله تعالى:
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ثم نلتقي جميعا على سطح الباخرة وقد تغير لباسنا، وتغيرت تحيتنا، وتغير حديثنا، جميعا نلبس غير المخيط، ونحيي بالتلبية، وننسى من شئون الحياة كل شيء سوى الحج ومناسكه، يا لرهبة الموقف وروعة جلاله! يجب أن ننسى كل شيء إلا أننا جند الله لبينا دعاءه، ويجب أن يكون كلامنا طاهرا، وقلوبنا طاهرة، وأعمالنا طاهرة، وأن يكون كل وجودنا خالصا لله وحده، خالصا إخلاص صدق لا تشوبه شائبة ولا ترقى إليه ريبة من أوهام هذه الحياة الدنيا.
أي: سمو بالنفس كهذا السمو؟ وأية مرقاة هذه المرقاة التي نروض أنفسنا على الارتفاع بها لإدراك هذه الغاية؟ ما أبلغ هذه الحكمة الأولى من حكم الحج! وما أعظم هذه الرياضة الروحية للنفس! رياضة تبلغ بالإنسان إلى عليا درجات الإنسانية، إلى الدرجة التي يقرب عندها من الأنبياء والصديقين والأولياء المقربين، والتي تطوع له أن يفنى حقا في جلال الله ذي الجلال والإكرام؛ ليقوي بهذا الفناء ضعف نفسه، وتزول بهذه القربى كل عوارض أهوائه، لقد تضاعفت هيبة هذه الصورة في نفسي منذ أحسستها قريبة كل القرب مني، فامتلأ قلبي بجلالها أضعاف ما امتلأ من قبل حين كنت أصورها لنفسي قبيل السفر.
وتناولنا طعام الغداء، وأويت إلى مخدعي، وأوى الآخرون إلى مخادعهم وإلى غرف الاستحمام نتهيأ كلنا للإحرام، ودلفت محرما إلى بهو الباخرة أتقي به هواء البحر، فإذا من بالبهو جميعا محرومون، وألقيت عليهم السلام فكان جوابهم أن تنادوا وأنا معهم: لبيك اللهم لبيك ... ها أنا ذا الآن تنطق شفاهي وأسمع بأذني ما كان يتصوره ذهني ، وها أنا ذا يخفق فؤادي لهذا النداء نجيب به داعي الله صادرا من قلوب ملئت بالله إيمانا، ويقبل علينا قادم محرم فتعلو بالتلبية أصواتنا جميعا في شيء من الترتيل لا يذهب بمعناها وينتظم نغمها، فإذا انقضت فترة لم نشغلها بالتلبية تحدث الحاضرون في الحج، أو قص أحدهم طرفا من سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام، فلما آن للشمس أن تغيب قام فقيه فنادى مؤذنا بصوت جهوري سمعه أهل الباخرة أو أكثرهم، ثم أم المكان الذي اتخذناه مصلى فنادى فيه للصلاة، وسرعان ما انتظمت الصفوف، ولم يكن الرجال وحدهم هم الذين نظموا صفوفهم، بل نظمت السيدات صفوفهن من خلف الرجال وقمن معهم بصلاة الجماعة في خشوع وإنابة، واستغفرن بعد الصلاة كما استغفروا، وطلبن عفو الله كما طلبوه.
وخرجت من البهو إلى سطح الباخرة أجتلي في موليات النهار تقلب الموج، وألتمس أشعة القمر الناصع ما تزال متألقة فوقه، وإني لأسير إذ لاقيت رفيقا يمشي الهوينى، فمشيت معه، ولم يكن رفيقي يخفي من آرائه حرصه على حجاب المرأة أو عدم اتصالها بغير ذي رحم محرم من الرجال، ولا يخفي اعتقاده أن في التقاء الجنسين، وإن في مجمع حافل، محرضا على الفساد، ولكنه إذ رأى هذا الاجتماع للصلاة يحضره الرجال والنساء في طهر وإنابة لم يلبث حين سرت معه أن قال: أرأيت هذا الاجتماع الذي ضم الجنسين معا للصلاة؟ إن طهارة القلب والقصد وسمو الغاية كفيلة بأن تزيل كل خوف من اختلاطهما، ولو أن أخلاقنا صلحت وغاياتنا في الحياة سمت لما تمسك بالحجاب أحد.
وأقررت رأيه ولم أذكر له أن إقبال السيدات المصريات على الاشتراك في صلاة الجماعة على الباخرة، إنما شجعهن عليه ما نلن في السنوات الأخيرة من حرية طوعت لهن الاتصال بالرجال في تجارة الحياة، وأنهن لو بقين كما كن رهن خدورهن، يراهن الرجال عورة، ويولين من منظر الرجال فرارا، لما تركت إحداهن مخدعها، ولا تناولت طعامها بالباخرة في غرفة المائدة لا يفصل بينها وبين الرجال إلا ستار رقيق، ولظللن حبيسات المخادع حتى يخرجن من الباخرة محمولات إلى مركباتهن، ثم إلى محفات الطواف والسعي.
أقبل المساء وبدأ الركب يتحدثون في وصول الباخرة بكرة الصباح إلى جدة، ويتساءلون: أيتيح لهم الحظ فرصة النزول إلى الشاطئ والذهاب إلى مكة لإدراك صلاة الجمعة في الحرم، ولأداء طواف العمرة وسعيها بعد الصلاة كيما يحلوا إحرامهم إحلال التمتع ليحرموا بعد ذلك للحج، واشتركت وإياهم في هذا الحديث، فلما خلوت إلى نفسي عجبت لهذا الإحرام الذي لا يدوم يوما كاملا، والذي يتحدث أصحابه في التحلل منه بعد سويعات من ارتدائهم إياه، فما بين رابغ وجدة أقل من اثنتي عشرة ساعة في الباخرة، وبين جدة ومكة ساعتان أو نحوهما في السيارة، وما بين ذلك من إجراءات النزول إلى جدة وما بعده من الطواف والسعي لا يستغرق أكثر من أربع ساعات أو خمس، أين إذن أسوة المسلمين بالرسول وأصحابه في هذه الفريضة؟
إن ما بين المدينة ومكة على الإبل ليستغرق عشرة أيام أو أكثر يظل الحجيج محرمين أثناءها ملتزمين ما فرض القرآن أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وهذه الأيام المتوالية لها أثرها في رياضة النفس الروحية وفي تهذيبها هذا التهذيب الراقي السامي، وإنما فرض الإحرام - في رأيي - لهذا التهذيب وهذه الرياضة؛ ولذلك يلتزم الإنسان أثناءه آدابا في التلبية، وفي التوجه لله، وفي الرغبة عن أهواء الحياة الدنيا، فكيف تتم هذه الحكمة بالتجرد أربعا وعشرين ساعة لا يمتنع الإنسان خلالها إلا عن القليل من عاداته! إن رياضة هذا كل أمدها غير جديرة بأن تترك في النفس أثرا يذكر.
وأفضيت بخاطري هذا إلى بعض إخواني بالباخرة، فكان جواب أحدهم: الدين يسر لا عسر، والميقات مكان لا زمان، ولو أنك أحرمت من رابغ ثم طرت إلى مكة في ساعة أو دونها لكنت قد أديت الواجب الديني المفروض عليك، فأما الرياضة الروحية فليس الإحرام بممهد لها، ولا التحلل بمانع منها من أرادها.
ردني هذا الجواب إلى التفكير فيما حسبته من حكمة الإحرام، وتساءلت: فيم إذن هذا التجرد من المخيط إذا لم تكن له حكمة تسوغه؟ أولا يكفي أن يتساوى الناس سويعة في مظهرهم وهم يعلمون ما بينهم من عظيم التفاوت؟ ولم أرد أن أمعن في هذا الحوار مخافة أن يكون الاعتراض على رأي الغير أو التفكير في قيمته جدالا فيه، «ولا جدال في الحج»، وأنا جد حريص على رياضة نفسي هذه الرياضة السامية التي وردت في القرآن.
صفحة غير معروفة