184

في منزل الوحي

تصانيف

بين الحياتين: المادية والروحية

أما وقد شهدت من مظاهر الحياة الروحية حيثما سرت في أثر النبي العربي ما شهدت، ورأيت كيف فعل الإيمان الأعاجيب في مواطن لولاه ما كان للإنسان بها طاقة، فما بال قوم في عصور وبلاد مختلفة جحدوا الحياة الروحية وكفروا بفضل الإيمان؟! أفكان ذلك عماية منهم وجهلا، أم أنهم أضلهم هواهم وغرهم بالله الغرور؟! ولولا ذلك لرأوا من آيات الله ومن فضله على عباده المؤمنين ما لا يغيب عمن تأمل في خلق الله ومن ألقى السمع وهو شهيد.

حق علينا إذ نلتمس لهذا السؤال جوابا أن نذكر أمرا نعرفه جميعا وينساه أكثرنا، فقل من الناس من ينكر وجود الله، وأشد الملحدين غرورا وإمعانا في الضلال يقولون بالطبيعة وسننها أو بالدهر وأحكامه، هؤلاء يمسكهم غرورهم حين تأملهم في الكائنات دون أن يحيطوا بالكون الذي لا يعرف للزمان ولا للمكان فيه بدء ولا نهاية، وإن عرف الناس جميعا أن الكون يحول ويتطور إلى ما نعرف أقله، وما يغيب عنا أكثره، أما من خلا هؤلاء الطبيعيين والدهريين فأولئك يؤمنون بالله وإن أقروا كلهم مسلمين بأن عقلنا المحدود أضيق من أن يدرك كنهه تعالى، وسع كرسيه السموات والأرض، من هؤلاء في عصرنا كثيرون يثورون بتعاليم أورثتنا إياها عصور الانحلال؛ لانصراف الحظ الأوفر من هذه التعاليم إلى الجانب المادي من الحياة؛ ولأنها تلبس الجانب الروحي ثوب المادة، وتنحدر لذلك به إلى حيث تأبى العقول التي تثقفت بالعلم فآمنت وزادها العلم إيمانا، هؤلاء جديرون بأن تسمو حياتهم الروحية فوق حدود المادة وقيودها، وبأن يكونوا لذلك من أشد الناس إيمانا بالله، لا يشركون به شيئا، ولا يلتمسون الثواب أو المغفرة إلا من فضله.

انصرف الحظ الأوفر من تعاليم عصور الانحلال إلى الجانب المادي من الحياة وإلى تنظيمه، وإلى اعتبار هذا التنظيم من قواعد الإيمان، فكيف نسير، وكيف نستحم، وكيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف نلبس، وما اللباس الحلال وما اللباس الحرام، وكيف نعاشر أزواجنا، وكيف نعالج مرضانا، وكيف نعلم أولادنا، وكيف ندبر أموالنا؟ هذا وما إليه قد صار في هذه التعاليم مقدما على الإيمان وعلى الحياة، وهذه التعاليم تذهب إلى أن مخالفة ما جاءت به معصية يأثم مجترحها؛ لأنها من أمر الله، وليست رأيا لأصحابها، ولا نصيحة للناس من حق الناس أن يزنوها بالعقل وبما توجبه المنفعة في العصر الذي يعيشون فيه، كأنما نسي الذين أورثونا هذه التعاليم أن الله يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، وأن الخلفاء الأولين والصحابة والتابعين كانوا يختلفون في الأمر الواحد رأيا ثم لا يطعن هذا الخلاف في إيمان أحدهم ولا في عقيدته؛ لأنه لا يمس جوهر العقيدة ولا يخالف ما جاء في كتاب الله.

والواقع أن المسلمين في عصور اجتهادهم وتقدمهم وسيادتهم حضارة العالم لم يختلفوا إيمانا ولا عقيدة، وإنما اختلفوا رأيا ومذهبا في شئون الحياة الدنيا، هم جميعا يؤمنون بالله وما جاء من عنده، لكنهم اختلفوا في أحكام ما يجري بين الناس من معاملات، لم يمنعهم من الخلاف رأي رآه من سبقوهم في أمر هذه المعاملات.

فالناس تختلف أحوالهم من عصر إلى عصر، ومن مصر إلى مصر، وقد تختلف في العصر الواحد والمصر الواحد باختلاف طبقاتهم وأسباب كدهم وعيشهم، فإذا اختلف الأحكام في شأنهم فلا جناح في ذلك ولا عجب فيه؛ ولذلك اختلف الأئمة الأربعة مذهبا وهم مع ذلك الأئمة المؤمنون أولو الورع والتقوى، واختلف مع الأئمة أصحابهم في كثير من الرأي، فأخذ أهل العصر في بعض الأمور برأي الصاحب وتركوا رأي الإمام، وخالف الأئمة وأصحابهم مجتهدون لم يقيموا مذهبا وإنما عرضوا لمسائل بذاتها اجتهدوا فيها، فلم يطعن ذلك في إيمانهم ولم يخرجهم من عالم البررة المتقين.

كان ذلك حين كان الناس يقدرون العلم ويحترمونه لذاته، ويحترمون لذلك رأي صاحبه ما قصد به وجه الحق، وكان ذلك والأمة الإسلامية في أوج مجدها وعظيم سلطانها تدوي كلمتها في الشرق والغرب ويحسب العالم كله لها حسابا، فلما حلت بالأمة الإسلامية نكبات الشقاق وقام الثائرون في أنحائها يبتغي كل مجد نفسه وسلطانها بدأ الجهل يفتك بالعقول، والجمود يفتك بالأرواح، وبدأ الناس يرتابون في مقصد صاحب الرأي ويحسبونه لا يدين به عن عقيدة حرصا منه على خير إخوانه المؤمنين، وإنما يبديه دعاية لنفسه، ويتخذ من النداء به وسيلة إلى السلطان، هنالك عم الناس الفزع من اجتهاد هؤلاء المجتهدين وقعد بهم هذا الفزع عن تبين الحق في آرائهم، فرموا الاجتهاد بالمنقصة، وطرحوه وراءهم ظهريا، وقالوا : لا رأي إلا ما رأى الآباء، إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمهتدون.

نشأ عن الجهل والجمود أن جهل الناس الحياة الروحية وغاب عنهم معناها فصوروها صورة مادية لا يزيد مداها عما يقع عليه الحس وينحصر في حدود إدراكه، وفي هذه الحدود أجروا عليها الأحكام التي أجروها على الحياة المادية وقضوا في أمرها بما يوجبه تصورهم للمادة وشئونها، هذا مع ما هوى إليه تصورهم لشئون المادة بما يتفق مع جهلهم حقيقة أمرها وسنة الله فيها.

دار الزمن دورته، ولم يكن مفر من أن تنتج الأسباب نتائجها؛ خضعت الأمم الإسلامية لغيرها، وأذعنت لسلطان من آتاهم العلم مفاتيح السلطان، وبدأ هؤلاء يعلمون الناس مبادئ العلم في الحياة المادية نقيض ما أورثتهم عصور الانحلال، علموهم أن الأرض كروية، وكانوا قد ورثوا من تلك العصور أنها مسطحة مستوية، وعلموهم أن الأرض تدور حول الشمس وكانوا قد أورثوا أن الشمس تدول حول الأرض؛ تشرق من المشرق وتغيب في المغرب، وتنخسها الشياطين حتى لا تقف سيرها، وعلموهم أن كسوف الشمس وخسوف القمر من سنن الكون سببهما تعرض القمر في دورته بين الشمس والأرض، أو تعرض الأرض في دورتها بين الشمس والقمر، وكانوا قد ورثوا أن الخسوف والكسوف من آيات رضا الله وغضبه، وعلموهم أن لا شيء مما يقع في الكون إلا له سبب يدركه العقل إذا استوت لديه أسباب العلم لإدراكه، وكانوا قد ورثوا أن ما يقع في الكون أبعد من أن يدركه العقل؛ لأنه متعلق بإرادة الله، وأن إرادة الله لا تخضع لسنة يقع عليها إدراكنا، وعلموهم أن لصحة الأفراد والجماعات ولأمراضها أسبابا، وأن التماس هذه الأسباب يطوع معالجة الأمراض والمتاع بالصحة، وكانوا قد ورثوا أن الصحة والمرض من عند الله، وأن من إسلام الأمر لله ألا نناقش قضاءه، هنالك بدأ كثيرون يتساءلون: ما قيمة ما أورثتنا عصور الانحلال؟ أولا يجب علينا لعقولنا أن نجادل فيه وأن نسأل أهل العلم عن أسبابه ودواعيه؟!

رأى جماعة ممن يعلمون الناس الدين في هذا العصر الأخير أن الناس يجب أن يخاطبوا بلغة زمانهم، وأن ما كان الجاهل يقنع به من قبل لم يبق مقنعا لمن نال من العلم في عصرنا الحديث حظا، والأمر كذلك، خاصة بعد أن أصبحت كلمة العلم الحديث صاحبة السلطان في الأمم التي توجه مصاير غيرها وتتحكم في شئونها، أولئك رأوا حقا عليهم أن يلتمسوا حكمة الله في الأشياء، وأن يلتمسوا حكمته في أوامره ونواهيه، وأن يعلموا الناس هذه الحكمة، وأن يجادلوهم بالتي هي أحسن، لم يبق كافيا في نظرهم وفي نظر المتعلمين أن يقولوا للناس: إن الله فرض الصلاة والصوم والزكاة والحج وفرض العقاب على من لا يؤديها، بل رأوا أن يعلموا الناس لماذا فرض الله الصلاة والصوم والحج؟ وما هي الحجج العقلية الدامغة التي تقوم هذه الحكمة عليها، ومن ثم يترتب الجزاء العادل لمخالفتها؟ ولم يبق حقا عندهم أن الحكم في أمور هذه الحياة الدنيا - ما جل وما دق منها - قد نزل الوحي بصيغة الأمر فيها، بل أصبح الحق عندهم أن ما جاء في كتاب الله من أمر لا ريب في أنه الأمر القاطع، لا النصيحة ولا التفضيل، هو وحده الذي يجب أن يأخذه المسلمون على أنه الأمر، فأما ما وراء ذلك من منافع الحياة الدنيا فهم أعلم بما يصلح لهم في العصر الذي يعيشون فيه؛ ولذلك وجب عندهم التفريق بين شئون الحياة ما تعلق منها بالروح والإيمان، وما تعلق بالخلق، وما تعلق بالحياة المادية ومعاملات الناس فيها مما يجري لهم في أمور دنياهم.

صفحة غير معروفة