نزل الفريقان منازل القتال، والمسلمون فيما رأيت من بأس وعزم، وقريش ما يزالون مترددين، يقول لهم عتبة بن ربيعة: «يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» ولولا حدة أبي جهل ودفعه عامر بن الحضرمي ليأخذ بثأر أخيه الذي قتله المسلمون في سرية عبد الله بن جحش، ولولا أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من صفوف قريش إلى صفوف المسلمين فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دما، فلم يبق بعد الدم من القتال مفر، إذن لغلب التردد قريشا ولارتدوا على أعقابهم كاسري الطرف في غير قتال خاسئين.
والآن تبدأ المعركة، انظر! إنني أراها بعيني في هذا الوادي المنبسط أمامي تحيط بها الهضاب والكثبان من كل جانب، فهذا عتبة بن ربيعة الذي كان يهيب بقومه منذ لحظة أن يرجعوا قد خرج في سلاحه بين أخيه شيبة وابنه الوليد يدعو المسلمين للمبارزة، ويخرج إليه فتيان من المدينة فيأبى قتالهم وينادي المنادي: «إنما نريد أكفاءنا من قومنا.» فيخرج حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، ألا تراهم! ما أشد ما ترمي عيونهم بالشرر! وا عجبا! هؤلاء قوم لا يريدون قتالا بل يريدون استشهادا، لقد انقض حمزة على شيبة وانقض علي على الوليد كما ينقض البازي على فريسته، فإذا المشركان مجندلان ضرجتهما دماؤهما، أما عتبة فيحاول أن يثبت لعبيدة، فإذا حمزة وعلي قد فرغا من خصميهما يجهزان عليه كما أجهزا على أخيه وابنه، يا لعار هذا الجحفل اللجب! أفقدر لهؤلاء الذين أجلتهم قريش عن مكة أن ينتصروا عليها وأن يهزموا جموعها؟ فلتزحف هذه الجموع إذن حتى لا يبقى لمحمد ولأصحابه باقية.
رفقك اللهم! هذه جموع قريش تزحف، وهذه جموع المسلمين تزحف، رفقك ربي ورحمتك! ماذا يصنع ثلاثمائة من المسلمين بألف من قريش؟ وهذا رسول الله بين المسلمين يعدل صفوفهم، لكن زحف قريش يزيدها بأسا، وتفوق عديدها على المسلمين يجعلها تحيط بهم وتكاد تغرقهم في لجتها، رب ماذا كتبت في لوحك المحفوظ مصيرا لهذا اليوم العصيب؟! هذا رسول الله يعود إلى المؤخرة ويقف في العريش الذي بناه له أصحابه قبل الموقعة، وهو أشد ما يكون إشفاقا من هذا المصير ومن خاتمة المعركة، أين وعد الله النصر إذن؟ وهل أثم المسلمون فجزاهم الله بإثمهم هذا الموقف الرهيب؟
انظر كرة أخرى! فالآن يتخذ كل فريق في زحفه مواقف الاشتباك بخصمه ويكادان يلتحمان، والآن يقف رسول الله وجلا مشفقا مستقبلا القبلة، متجها بكل نفسه إلى ربه يناجيه ويخاطبه: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!» ألا تراه! إنه يمد كلتا يديه ويهتف بربه مستغفرا تائبا داعيا مبتهلا، وهذا رداؤه يسقط عن منكبيه لشدة توجهه إلى ربه وهتافه به، ويرد أبو بكر الرداء على منكبيه على منكبيه ويهيب به: «يا نبي الله! بعض مناشدتك ربك! فإن الله منجز لك ما وعدك.» لكن نبي الله لا يزال يتضرع إلى الله ويستعينه، ها هو ذا جلس في العريش صامتا وأغمض عينيه كأنه نام، انظر إلى وجهه! إن أساريره لتنبسط وثغره لتضيئه ابتسامة الظفر، إنه لا شك يرى في هذه الساعة ما لا يراه غيره، لقد كشف الله عنه الحجاب فرأى نصر الله منه قريبا، والمعركة تدور هناك في الميدان رحاها لا يدري أحد عم تنكشف؟ إن قريشا لعلى ثقة بعددها وعدتها، فهي تحسب النصر وشيكا أن يتم، والمسلمون يزيدهم الإيمان في كل لحظة قوة على قوتهم فهم يبطشون بكل مشرك تصل إليه أيديهم بطش عزيز مقتدر.
وعد بنظرك الآن إلى العريش، لقد انتبه رسول الله من نومه، إنه يخرج إلى الناس فينادي فيهم: «والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.» ألا ترى إلى وجوه المسلمين ساعة طرق سمعهم صوت الرسول ونداؤه إياهم بهذه العبارة، ومن من المؤمنين من لا يريد الجنة؟! من منهم من لا يريد نعيم الرضوان في رحاب الله بديلا من هذه الحياة الدنيا وكاذب غرورها؟! والجنة للصابرين على البأساء والضراء وحين البأس، والجنة لمن أحسن البلاء في سبيل الله ومن غمس يده في العدو حاسرا ، والله ولي الصابرين والذين يستشهدون في سبيله، يمدهم بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتا وإيمانا.
لا أرى أمامي إلا غبارا ثار نقعه فحجب الميدان وما فيه، وكأنما اقتطعه من نطاق الزمان والمكان ليجعله على الدهر آية لقوة الإيمان المتصل بالله، له الملك وله الأمر كله، وهذا هو الجو الآن ينكشف فأرى، نعم! أرى الواحد من المسلمين إذ يرفع سيفه ويهوي به على عنق عدوه إنما تحرك قوة الله يده، وإذ يحدق بنظره إلى شرذمة من المشركين في إقبالهم عليه يردهم على أعقابهم فيتلقاهم مؤمن من إخوانه يحز رقابهم حزا، ويرديهم في حفرة الموت هلكى، وأرى رسول الله يأخذ حفنة من الحصباء يستقبل بها قريشا وينفحهم بها وهو يقول: «شاهت الوجوه». فيولون أمام الحصباء فرارا، ويمتلئون من رميها رعبا، وكيف لا يولون وقد تجسمت أمامهم قوة الإيمان فهم لا يعرفون لها مدى ولا حدا! ويرون إخوانهم في الكفر صرعى فيأخذهم الهول ويلتمسون النجاة هربا! وتتم كلمة ربك وينجز رسوله وعده، فتفر قريش، ويطاردهم المسلمون ويعودون بالأسرى وقد امتلأت نفوسهم طمأنينة ورضا.
رأيت هذا كله وأنا بموقفي أجيل الطرف في ميدان بدر، فلما تم للمسلمين النصر تنفست الصعداء وملأ الرضا قلبي، ثم رجعت بصري إلى ناحية الهضبة التي تحتضن قبور الشهداء وانفجرت شفتاي عما سمعه أصحابي: «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.»
وعاد لي بعد هنيهة هدوء نفسي، فسرت الهوينى حتى استوقفني رجل من بدر عند مكان ذكر لي أنه القليب الذي دفن المشركون من صرعى بدر به، وأضاف: «إن لون الرمال فوقه داكن لما يلفحه من نار جهنم، وإنك تحسه دافئا أبدا في الصيف وفي الشتاء.» ولم أرد أن أمسك هذه الرمال بيدي وإن مد محدثي إلي يده بحفنة منها؛ لأنني خشيت ألا أشعر بدفئها فيتهم القوم حسي؛ ولأني كنت شغلا عن ذلك بتعرف ميدان بدر وحدوده ومواقف المتقاتلين منه وموضع اشتباكهم فيه.
فمن أي ناحية جاء المسلمون إليه؟ ومن أي ناحية جاء المشركون؟ وأين العدوة القصوى؟ وأين العدوة الدنيا؟ وأين مكان الماء الذي أشار الحباب بن المنذر بن الجموح على رسول الله فنزله المسلمون؟ وأين مكان العريش؟ وأين التقى الجمعان؟ هذا هو الذي كان يعنيني وعنه كنت أسأل، وقد أجابني القوم بما لا أعرف مبلغه من الدقة، ذكروا أن القليب الذي دفن المشركون به يقع بين العدوة القصوى وبين قبور الشهداء، وقد رأيت أنا تخطينا من زاوية السنوسي في سهل منبسط حتى بلغنا هضبة الشهداء ثم سرنا لم نغير اتجاهنا حتى كنا عند القليب، فالعدوة القصوى هي إذن هذه الهضبة القائمة هناك في الطرف المقابل إلى حيث تقوم زاوية السنوسي، أما العدوة الدنيا فتقع في رأيهم بين زاوية السنوسي وقبور الشهداء، وتقوم على مقربة من هذه العدوة الدنيا هضبة أشار إليها دليلنا وقال: هذا قوز علي، وسألت: ما القوز؟
1
صفحة غير معروفة