هذان حادثان يصفان لك حمزة بن عبد المطلب وخلقه، ويصوران لك مبلغ جرأته وإقدامه واعتداده بنفسه.
ولما هاجر رسول الله إلى المدينة وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار آخى بين حمزة وزيد بن حارثة مولى النبي، وكان لهذا الإخاء حكم إخاء النسب أول أمره، ومع ما حدث من عود الأمور إلى طبيعتها بعد أن استقر مقام المهاجرين بالمدينة لقد حفظ حمزة هذا العهد فأوصى إلى زيد يوم أحد، وفي هذا من الوفاء والكرم ما يصور لك ناحية أخرى من حياة حمزة.
ولقد كان حمزة أول من بعثه رسول الله على رأس أول سرية قامت من المدينة لمناوأة قريش: بعث به في ثلاثين راكبا من المهاجرين دون الأنصار، فلقي أبا جهل بن هشام عند شاطئ البحر في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، وكان حمزة على أهبة مقاتلة قريش، على ما بين الفريقين من تفاوت عظيم في العدد، لولا أن حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا الفريقين جميعا، فلما كان شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة ووقعت غزوة بدر كان حمزة فارسها المعلم وبطلها المغوار، وكان معلما يومئذ بريشة نعامة، ولقد كان المسلمون وكانت قريش تترددان أول المعركة في خوض غمارها حتى وقف عامر بن الحضرمي يصيح: وا عمراه! يذكر قتل المسلمين أخاه عمرا قبل ذلك بأسابيع في سرية عبد الله بن جحش ويطلب الثأر له، هنالك اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين، فعاجله حمزة بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى الأرض تشخب رجله دما، وأتبع حمزة الضربة بأخرى قضت عليه، بذلك بدأت المعركة، وأعجل الالتحام فيها أن خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، وخرج إليهم من المسلمين حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل علي الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة، عند ذلك تزاحف الفريقان، لم يمنع المسلمين منه أن قريشا ثلاثة أمثالهم عددا وعدة، وخاض حمزة الغمار يضرب بسيفه عن يمينه وشماله يقط الرقاب ويطيح برءوس الشجعان، ولا يجرؤ سيف أن يمتد ناحيته، ولا يد أن ترتفع إليه، ومتى استطاع الفرسان أن يحدقوا في وجه هذا الأسد الكاسر، أسد الله ورسوله؟!
فلما أتم الله النصر للمسلمين ببدر وعادوا إلى المدينة فتحرش بهم اليهود وأزمع محمد محاصرة بني قينقاع، كان حمزة حامل لوائه، ولما استدار العام وخرجت قريش تريد الثأر من بدر، كان حمزة الموت الذي تخشى، والنقمة التي تريد أن تتخلص منها، وكانت هند بنت عتبة أشد قريش كراهية له ورغبة في موته، لقد قتل في بدر أباها وأخاها، ونكل بكثيرين من الأعزة عليها، لكنها كانت تعلم أن قتله مواجهة ليس بالأمر الهين، ومن ذا في قريش بل في بلاد العرب كلها يستطيع أن يواجهه؟! لذلك وعدت وحشيا الحبشي خيرا كثيرا إن هو اغتال حمزة، وكان وحشي مولى لجبير بن مطعم، وكان حمزة قد قتل عم جبير ببدر، فلما عرف ما وعدت هند مولاه قال له: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق، والتقى الجيشان بأحد، فإذا حمزة يخوض الغمار كيوم بدر، يهد كل من لقي بسيفه فتفيض من جسده روحه، قتل سباع بن عبد العزى الغبشاني، وقتل أرطأة بن شرحبيل، وقتل كل قرشي لقيه، ولم يكف سيفه يمينه، بل أمسك بيساره سيفا آخر وجعل يقبل ويدبر ويصيب بسيفه في إقباله وإدباره، وإنه لكذلك وأبطال قريش يولون منه فرارا إذ عثر عثرة فوقع على ظهره فانكشفت درعه عن بطنه، وانتهز وحشي هذه الفرصة فهز حربته حتى رضي عنها ثم دفعها عليه فوقعت في ثنته وخرجت من بين رجليه، وتركه وإياها حتى مات، روى وحشي قال: ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت بها إلى المعسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة أعتقت.
وأقبلت هند بنت عتبة في أعقاب المعركة، فلما رأته مبقورا بطنه لم يكفها أنه مات بل مثلت به ما لم يمثل بأحد في غزاة: جدعت أنفه، وقطعت أذنيه وشقت بطنه، وأخرجت كبده تمضغها وتلوكها تشفيا وسخيمة، وبلغ من فظاعة ما صنعت أن خجل أبو سفيان زوجها ورئيس قريش، فقال: إنه كانت في القوم مثلة، وإن كانت على غير ملأ مني، ما أمرت ولا نهيت، ولا رضيت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني.
ولقد أحزن قتل حمزة النبي وحز في فؤاده، فقد عاد المسلمون إلى الميدان بعد المعركة وخرج محمد يلتمس عمه، فلما رآه قد بقر بطنه ومثل به غلبه الحزن وقال: «لن أصاب بمثلك أبدا، وما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا!» وأمسك هنيهة موجع القلب ثم أردف: «يرحمك الله يا عم! لقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات.» وغلبه الحزن فأمسك مرة أخرى، وهو أثناء ذلك ينظر لما أصاب حمزة من مثلة شنعاء، فلما سكن عنه الحزن قال وما زال مغضبا: «والله، لن أظفرني الله بالقوم يوما من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب .» وفي رواية: «لأمثلن بسبعين منهم ...» وفي هذا نزل قوله - تعالى:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، وفي حمزة وفي قتلى أحد نزل قوله - تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فلما نزلت هذه الآيات قال رسول الله: «بل الصبر» وكفر عن يمينه.
ولم يكن المسلمون أقل جزعا لمقتل حمزة من رسول الله، أقبلت أخته صفية بنت عبد المطلب بعد الموقعة تطلبه لا تدري ما صنع، ورآها علي والزبير مقبلة فخشيا لقياها، قال علي للزبير: اذكر لأمك ... وقال الزبير: بل اذكر لعمتك، ولما بلغتهما سألت: ما صنع حمزة؟ فأرياها أنهما لا يدريان، إشفاقا عليها وعلى نفسيهما من حزنها، ورآها النبي مقبلة عليه فقال: إني أخاف على عقلها، ثم وضع يده على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت وقد رأت المصاب في صوته، فلما انصرفت قال: «لولا جزع النساء لتركته يحشر من حواصل الطير وبطون السباع.»
ولما أراد المسلمون دفن القتلى وقف النبي على جثمان حمزة، وجعلوا يجيئون بالقتلى واحدا بعد الآخر فيضعونهم إلى جانب حمزة فيصلي النبي عليهم، وكذلك صلى على حمزة سبعين مرة.
صفحة غير معروفة