لم تكن بغداد ولا كان المستعصم شرا مكانا من سائر أنحاء الدولة الإسلامية والقائمين عليها في ذلك العصر، فقد انتشر فيها الاضطراب واستولى عليها القلق، فلم تبد أي منها في عمارة المسجد رأيا، وإن بعث أكثرها من مواد العمارة ما أرضى به هوى عقيدته، وصلت الآلات من مصر بأمر المتولي عليها الملك المنصور نور الدين علي ابن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحي، ووصلت الآلات والأخشاب كذلك من صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور، وجعل أهل المدينة والعمال فيها يقومون من العمارة بما يستطيعون القيام به ولا يلبثون إذ يتقدمون فيها حتى تبلغهم الأنباء بقتل هذا أو هزيمة ذاك من ملوك المسلمين وأمرائهم، استولى التتار على بغداد وقتلوا المستعصم، ثم عزل صاحب مصر وقام فيها مملوك ابن الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، وقتل هذا فيما دون السنة من ولايته، وكان لهذه الأحداث أثر واضح في عمارة المسجد، فكانت تتقدم حينا، وتسير دائما على غير خطة مرسومة، فلما تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري أمر مصر بعد ست سنوات من الحريق جهز الأخشاب والحديد والرصاص وجهز الصناع وما يمونهم وأرسلهم بذلك كله إلى المدينة، وصار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات حتى أتموا المسجد كما كان قبل الحريق.
لم يزل المسجد على ذلك حتى جدد سقفه في سنتي خمس وسبعمائة وست وسبعمائة بأمر ملك مصر الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، ثم زيد في السقف بأمره في سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وقد أصلح الملك الأشرف برسباي هذه الزيادة في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة حين طرأ الخلل عليها، كما جدد الظاهر جقمق بعض سقف أخرى في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة، وفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة قام الملك الأشرف قايتباي بعمارة في المسجد تناولت بعض سقفه وعمده وجدرانه ومآذنه.
لم يبق من أثر لهذه العمارات في وقتنا الحاضر، فقد انقضت صاعقة على مئذنة المسجد الرئيسية في سنة ست وثمانين وثمانمائة فلم تبق منها شيئا، وانتقلت النار من المئذنة إلى سقف المسجد فالتهمته، وتخطت من السقف إلى المسجد فتهدمت جدرانه وتداعت أكثر أساطينه، واحترقت المقصورة والمنبر والكتب والمصاحف، ولم يسلم من الحريق إلا الحجرة والقبة التي بالصحن، لكن ما بقي من أنباء هذه العمارات يشهد بأن التطور الذي بدأ من عهد الوليد بن عبد الملك استمر مطردا في العمارة، وأكثر اطرادا في التفكير، لم تكن للحجرة النبوية قبة قبل القرن السابع، فأقامها المنصور قلاوون سنة ثمان وسبعين وستمائة، ولم يكن ما بين الحجرة والمنبر النبوي يمتاز في عمارته عن سائر المسجد، فلما حدث الحريق من هذا القرن السابع، وأعيدت عمارة المسجد بعده، بدأ هذا الجزء من المسجد، وهو الروضة، يلقى من العناية حظا تزايد على الزمان، وبعد أن كانت الخصومات السياسية بين الأمويين والعباسيين ذات أثر ظاهر في تعديل رقعة المسجد والزيادة فيها، انصرف التفكير في عمارة المسجد عن السياسة إلى ناحية أخرى يقصد منها إلى المثوبة والزلفى، وإلى تصفيد التفكير الإسلامي على الإيمان بهذه المثوبة وهذه الزلفى من غير تمحيص أو اجتهاد.
وقد وقع الخلاف على ما حدث من هذا: أهو يتفق مع روح الإسلام؟ وبلغ الخلاف من الشدة في بعض الأحيان ما اقتضى تدخل ولي الأمر لقمعه، لما بنى المنصور قلاوون القبة على القبر النبوي اختلف الناس رأيا، فقال بعضهم: «قصد خيرا وحصل ثوابا.» وقال آخرون: «أساء الأدب بعلو النجارين القبر ودق الحطب.» وتفاقم هذا الخلاف حتى جعل الوالي عقوبة على من يقول: أساء الأدب، وذهب بعض أولي الرأي يومئذ إلى تحريم إقامة القبة لما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله خرج فرأى قبة مشرفة أجابه أصحابه بأنها لرجل من الأنصار، فأعرض عن الرجل مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والانصراف عنه، ولما شكا إلى أصحابه إعراض رسول الله عنه وسأل عن السبب في ذلك قالوا: «خرج فرأى قبتك.» فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، وخرج رسول الله يوما فلم ير القبة فسأل عنها فقال من حوله: شكا صاحبها إلينا إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال
صلى الله عليه وسلم : «كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا بد منه.» وهذا الخلاف هو الذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا بين الوهابيين وغيرهم من سائر المسلمين، وقد كان النصر في القرون الخمسة الهجرية الأخيرة حليف الذين يقولون بإنشاء القباب تبركا والتماسا للمثوبة؛ لأن هذا الرأي أدنى إلى إدراك الجمهور، ولعل النصر يظل حليف هذا الرأي لاعتبار آخر، ذلك أن العمارة العربية بلغت من دقة الفن وبراعته في إقامة هذه القباب مبلغا يدعو حماة الفن الجميل إلى نصرها من غير نظر إلى اعتبار المثوبة أو التبرك.
كان التطور الذي أشرنا إليه أكثر وضوحا في عمارة المسجد بعد حريق الصاعقة، لما بلغ خبر هذا الحريق الملك الأشرف قايتباي بمصر وجه الأمير سنقر الجمالي إلى المدينة ومعه أكثر من مائة صانع وما يلزم للعمارة، فبدءوا بالمئذنة، ووسعوا المحراب العثماني وجعلوا فوقه قبة أقاموها على رءوس الأساطين التي حوله، وجعلوا على جدر الحجرة النبوية وفوق السقف الذي كان عليها قبة شادوا فوقها قبة أخرى أقيمت على الأساطين والدعائم التي زخرفوها، وبنوا باب السلام بالرخام الأسود والأبيض وزخرفوه، كما زخرفوا محرابا مجوفا للرسول في دعامة أقاموها بين المنبر والقبر على حد مسجده الأصلي، وزخرفوا هذا المحراب بالرخام الملون، وأعادوا ما سوى ذلك من بناء المسجد على صورة تأنقوا فيها غاية التأنق، حتى بلغ ما أنفقه قايتباي على هذه العمارة نحو ستين ألفا من الجنيهات، والله أعلم كم يعادل هذا المبلغ من نقدنا في الزمن الحاضر.
كانت مصر في الفترة التي انقضت بين حريق المسجد في القرن السابع إلى حريقه بالصاعقة في القرن التاسع هي القائمة بأمر عمارته، فلما انتقلت الخلافة إلى آل عثمان بالآستانة ودخلت بلاد العرب، كما دخلت مصر في سلطانهم، خلفوا مصر في القيام على المسجد وعمارته، ففي سنة ثمانين وتسعمائة من الهجرة عمره السلطان سليم الثاني وشيد به محرابا جميلا هو القبلة القائمة اليوم غرب المنبر النبوي، وقد وشى هذا المحراب بالفسيفساء المنقوشة بماء الذهب، وكتب اسم السلطان سليم على ظاهره بخط الثلث الجميل، وفي سنة 1232 بنى السلطان محمود القبة ثم أمر بترميمها في سنة 1255 فرممت ودهنت باللون الأخضر، على أن العمارة الكبرى التي قام بها سلاطين آل عثمان هي عمارة السلطان عبد المجيد، فقد كتب إليه شيخ المسجد داود باشا بأن المسجد قد انقضى على عمارته أربعة قرون لم تحدث به أثناءها عمارة هامة حتى آل كثير منه إلى التخريب، فأرسل السلطان من قبله من فحص المسجد وعرف حقيقة حاله، ثم أمر بهدمه وعمارته، وتم ذلك بأن جعل المهندسون يهدمون جزءا من المسجد ويقيمون مكانه ما يحل محله، ثم يهدمون بعده جزءا غيره ويعيدون تشييده، حتى أتموا عمارة المسجد كله فيما بين سنة 1265 وسنة 1277ه، وقد تناولت هذه العمارة المسجد كله خلا المقصورة وما فيها، وبعض الجدر المتينة البناء القوية الأساس، ولم ينقض محراب عثمان لإتقانه وحسن صنعه، أما العمد القديمة فأبدل منها غيرها، وأكثرها من قطعة واحدة، وأقيمت عليها عقود من الحجر الأحمر المنحوت شيدت فوقها قباب جعلت فيها نوافذ يهبط النور خلال زجاجها الملون المحاط بشبابيك النحاس، وأعيد بناء باب السلام بناء غاية في الفخامة، وجعلت أمامه من الداخل قبة عظيمة ، أما الجدار الشمالي للمسجد فزيد فيه ما كفى لبناء مخازن ومكاتب، وبنيت خارجه أحواض للوضوء بها صنابير، وشيدت المئذنة المجيدية على طراز بالغ غاية الروعة والإبداع، وعلى الجملة بذت هذه العمارة كل ما سبقها حتى بلغت نفقاتها ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات المجيدية.
ومن خير الآثار التي سجلتها هذه العمارة وحافظت عليها ما كتب على جدران المسجد من سورة الفتح وقصيدة البردة وأسماء الله الحسنى وأسماء النبي - عليه السلام، فلقد نفى الإسلام عنه التماثيل والصور منذ حطم محمد تماثيل الكعبة ومحا صورها، فلم يكن إلى بعثها بين الفنون الجميلة سبيل، على رغم ما رآه المسلمون منها بكنائس الشام وبيزنطة، فحرب الوثنية أساس العقيدة الإسلامية، والتماثيل والصور أقدم آثار الوثنية وأبقاها؛ لذلك أنشأت الحضارة الإسلامية فنا جميلا يحل محل التماثيل والصور في التعبير عن الجمال كما يبدو للنظر، واستمدت هذا الفن من التفكير الإسلامي؛ لذلك كان الخط العربي والتفنن فيه والبلوغ به غاية البراعة في الجمال مما تفردت به هذه الحضارة؛ ولذلك تقدم السلطان عبد المجيد إلى الخطاط العظيم عبد الله بك زهدي فقضى عشر سنوات في كتابة سورة الفتح وسائر ما كتب على جدران المسجد مما لا يزال زينة جدرانه البديعة الأخاذة بالنظر.
بقي المسجد النبوي على هذه العمارة إلى اليوم، على أن محرابيه النبوي والسليماني رمما عام 1336ه كما رممت أرض المسجد بأمر الحكومة العربية السعودية الحاضرة عام 1348ه، وتقوم الحكومة المصرية بتعمير المسجد في هذا العهد الأخير منذ عدة سنوات.
حرصنا على استقصاء الأدوار التي مرت بها عمارة المسجد؛ لأنها تصور التطور الذي حدث في العمارة الإسلامية وفي التفكير الإسلامي، وهي أدق تصويرا لهذا التطور؛ لأن المسلمين لم يبذلوا لمسجد من العناية ما بذلوا لمسجد المدينة، ولم يجعلوا للمسجد الحرام بمكة إلا بعض هذه العناية، كان ذلك شأنهم من عهد الوليد بن عبد الملك، وظل شأنهم في ذلك يزداد على العصور، حتى صار مسجد مكة لا ينظر في عمارته إلا لما تقضي به الضرورة، ثم يخلع على مسجد المدينة من الترف الفني ما رأيت، فإذا ذكرت ما أشرت إليه حين الحديث عن مسجد مكة ومغزى التطور في عمارته في فصل «الجمعة في الحرم»، تبدى لك هذا التطور الآن في مبلغ من الجسامة يلفت النظر ويستوقف الفكر لتدبره والنظر في أمره.
صفحة غير معروفة