أما الإسلام فكان في صفائه بريئا من هذه المظاهر، فكان المسجد في بساطته صورة لبساطة الإسلام وقوته، وإنما كان هذا التطور مظهرا لتأثر المسلمين بالتفكير الكنسي الذي أحاط بهم في الشام، والذي تسرع النفس الإنسانية إلى مثله حين لا تجد سندا من الإيمان بالله يعصمها من الضعف لسلطان الطبيعة، فالنفس الإنسانية محتاجة في سذاجتها إلى مظاهر قريبة منها يدركها الحس وترى فيها صور الكون والحياة مجتمعين، وهي لا تستطيع السمو إلى الحقيقة المجردة التي تمثل هذا المعنى، ولا تستطيع امتثالها في كل صفائها، ما لم تكن لها في ذلك أسوة كما كان للمسلمين الأولين في رسول الله أسوة، أو تبلغ من المعرفة التي تؤهلها للاتصال بالكون حظا عظيما، أما وقد انتهى عهد الأسوة واتصل المسلمون بجيرانهم من أهل الحضارات الأخرى، فكان من الطبيعي أن يتأثروا بما اتصلوا به، وأن يشغلوا عن تمحيصه بالمنازعات السياسية والثورات التي فرقت كلمتهم من عهد عثمان بعد أن مهدت لها أسباب سبقتها طوعت للإسرائيليات وغير الإسرائيليات أن تندس إلى الإسلام وأن تشوب صفاءه.
بقي المسجد بعد زيادة الوليد على حاله إلى أن غلب العباسيون الأمويين على الملك وقاموا مقامهم في الخلافة، إذ ذاك فكر ثاني خلفائهم أبو جعفر المنصور في أن يكون له من فضل الزيادة في المسجد ما كان للأمويين، ودار يومئذ بأخلاد قوم أن يأخذ العباسيون بالثأر من بني أمية فيهدموا دار عثمان ويدخلوها في المسجد، كما هدم الوليد حجرات أمهات المؤمنين وأدخلها في المسجد، من أجل ذلك كتب الحسن بن زيد إلى المنصور ينصح له أن يزيد في رقعة المسجد وأن يجعل القبر النبوي في وسطه، وبذلك تدخل دار عثمان في المسجد لمجاورتها للحجرة، لكن المنصور لم يقبل هذا الرأي وكتب إلى الحسن بن زيد يقول: «إني قد عرفت الذي أردت؛ فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان.» وتوفي أبو جعفر ولم يزد في المسجد شيئا، ولما خلفه ابنه المهدي على الملك حج سنة ستين ومائة للهجرة، وقدم المدينة منصرفه عن الحج، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان، وأمره بالزيادة في المسجد، ولم يزد جعفر في نواحي المسجد من الجنوب والغرب والشرق شيئا، وحصر الزيادة في ناحيته الشمالية حيث صحنه المعروف بالحصوة، وكانت الزيادة في هذه الناحية فسيحة بلغت نحو الثلث من مساحة المسجد كله، وأحيطت بأروقة من العمد والقباب من طراز ما صنع الوليد، فأما ما خلا هذه الزيادة فقد اقتصر عامل المهدي على التعمير والتجميل، متخذا طراز الوليد إمامه، متأثرا في الفن بفكرة كفكرته.
واستقرت رقعة المسجد على زيادة المهدي من بعد، لكن بناءه أعيد غير مرة بعد ذلك، واستمر التعمير فيه إلى يومنا هذا، فقد احترق كله أول شهر رمضان من سنة 654 للهجرة، إذ ترك موقد المصابيح مشتعلا في مخازن المسجد فامتدت النار منه إلى ما حوله وتعلقت بحصر وبسط وأقفاص وقصب كان في المخزن، ثم امتد اللهب إلى سقف المسجد وسرى منه إلى المسجد كله، فلم يبق منه على خشبة واحدة كاملة، ونزل أمير المدينة واجتمع معه معظم أهلها فلم يقدروا على مقاومة الحريق، وأكلت النار جميع ما احتوى عليه المسجد من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقاصير وما اشتملت عليه من كتب، وامتدت إلى كسوة الحجرة، وقد عزا القطب القسطلاني هذا الحريق إلى أن الزخارف التي بالمسجد لم ترضه
صلى الله عليه وسلم ، وإلى أن القلوب أحلت المساجد الثلاثة: الحرام والأقصى والنبوي، منها فوق قدرها، ونسيت أن عظمته - تعالى - فوق الجميع، وأنه الواحد القهار، فوقع الحريق في الكعبة وبيت المقدس قديما، ووقع هذا الحريق في المسجد النبوي، وقيل في هذا المعنى شعر وجد منه بعد الحريق بيتان على جدران المسجد هما:
لم يحترق حرم النبي لريبة
تخشى عليه وما دهاه العار
لكنها أيدي الروافض لامست
تلك الرسوم فطهرتها النار
ولم يسلم من هذا الحريق سوى قبة كانت أقيمت بصحن المسجد في القرن السادس الهجري لحفظ ذخائر الحرم من مثل المصحف العثماني وبعض صناديق أودعتها هذه الذخائر، أما عمد المسجد فبقيت قائمة كأنها جذوع النخل تتمايل إذا هبت الرياح، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت، ووقع السقف الذي كان بأعلى الحجرة على سقف بيت النبي فوقعا جميعا في الحجرة وعلى القبور التي بها، وكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم وهو ببغداد فأرسل الآلات مع الصناع من العراق ولم يبد رأيا فيما يصنعون، فقد كان منصرفا إلى صد التتار عن بغداد بعد أن استولوا على أعمالها؛ لذلك اضطرب الصناع وأهل المدينة واختلفوا ما يصنعون بالحجرة، وهل يذرون بها ما سقط فيها أم يرفعونه جميعا حتى يبلغوا سطح الأرض إلى التراب الذي فوق القبر، وقد انتهوا إلى ترك ما سقط ولم يزيلوه مهابة لساكن الحجرة - عليه الصلاة والسلام.
يقول السمهودي: إنه كان يرى «أن الواجب في سلوك الأدب مع هذا النبي العظيم والقيام بما وجب على الأمة من تعظيمه وتعظيم قبره الشريف هو إزالة ذلك عنه وقمه من حجرته الشريفة.» فلما حضر العمارة الثانية للمسجد شاهد بين الجدارين في الفضاء الذي خلف الحجرة أمرا مهولا من الهدم نحو القامة، فعلم أن القوم لم يتركوه إلا لعلمهم بأن إزالته لا تتأتى إلا بانتهاك الحرمة، فتوقفوا عنه ومدوا سقفا فوقه على رءوس السواري التي حول الحجرة.
صفحة غير معروفة