وإنما دعا بعض كتاب السيرة إلى الإفاضة في المغازي والحديث عنها أن انتشرت جيوش المسلمين وامتد فتحهم بعد الرسول إلى حيث تضاءلت الإمبراطوريتان الفارسية والرومية صاحبتا الحضارة إذ ذاك، وكان سلطانهما قائما على الغزو والفتح للاستعمار لا للحضارة، على نحو ما يحدث في عالمنا الحاضر، وقد أراد هؤلاء الكتاب أن يقرنوا الفتوح الإسلامية إلى عمل الرسول في نشر الدعوة، هذا إلى أن المؤرخين قد ألفوا إلى عهود ليست بالبعيدة ألا يذكروا من جهاد الإنسانية إلا ما أريقت فيه الدماء أثناء الحروب والثورات ابتغاء الحكم والغلب، أما الجهاد السلمي العظيم المتصل، والذي قطعت به الإنسانية ما قطعت من الخطى نحو الكمال، فذلك ما لم يألفه التاريخ ولا المؤرخون، من ثم رأيناهم يقولون: «إن الأمة السعيدة لا تاريخ لها.» فكأنما تاريخ الإنسانية قصة بأسائها وشقوتها، وكأن ما قام به الأنبياء والمرسلون والعلماء وأرباب الفن والمكتشفون والمخترعون، وما مكنوا به من صلة الإنسان بالكون واجتلائه سننه وأسراره، غير جدير بأن يكون فصلا من تاريخ الإنسانية، وهذا هو الخطأ البالغ والضلال المبين، فالحروب ليست إلا نزوات طيش، أو جهادا لمغالبة نزوات الطيش، أو مصرفا لما فضل عن جهاد الإنسانية لا تستطيع هضمه، أما الحق الذي يجب أن نعرفه وأن نعلمه أبناءنا وإخواننا، فذلك أن الجهاد الحق في سبيل الكمال، هو الدأب في ظلال السلم لمعرفة الحق والإيمان به، والحق هو ما دعا محمد إليه مخاطبا العقل والقلب، دافعا كل وهم يحول دون إدراك العقل والقلب لهذا الحق الذي دعا إليه بأمر ربه بالحجة البالغة والمجادلة بالتي هي أحسن.
مرت هذه الخواطر بنفسي في مثل لمح البصر ونحن بموقفنا ننتظر «البكس »، وكان حسن واقفا إذ ذاك إلى جانب السيارة، فلما سمع ضجة البكس في سيره استوى إلى مقعده ودفع السيارة على هون إلى ناحية باب العنبرية من أبواب المدينة، ما العنبرية هذه؟ لا أدري! ولكن كذلك قالوا، وتبدت أمامنا القبة الخضراء حين استدرنا كرة أخرى وبدت مباني المدينة تنكشف كلها، هذا بناء منها بالغ من الجمال حتى لتحسبه من مباني القاهرة أو بعض المدن الجديدة، وسألت صاحبي عنه فقال: «هذه «الأستاسيون» القديمة.» فهمت إذن السبب في جمال بنائها، فهي المحطة الكبرى لسكة الحجاز الحديدية في بلاد العرب، وقد تعطلت سكة الحجاز الحديدية أثناء الحرب الكبرى وبقيت محطة المدينة أمامها السكة الحديدية تنتظر يوما تعود فيه إليها الحركة والحياة.
والسيارة تتقدم ومنازل المدينة وطرقها تبدو أمام النظر، فأما هذا الخلاء الفسيح أمامنا فتلك المناخة، وأما ما بينها وبين محطة السكة الحديدية فجبال ومساجد وهضاب حاولت أن أعرف شيئا من أمرها، فاعتذر صاحبي عن ذلك بأنها جميعا أثرية يجب أن تزار، ويجب أن نقف عندها، وأن يتحدث لي هو أو يتحدث لي العارفون عنها، قلت: أين أحد إذن وأين سلع؟ قال: هما في الناحية الأخرى من المدينة، وستراهما غدا أو بعد غد، وسترى أثر الخندق وما شئت من آثار خالدة يذكرها المسلمون ويزورونها للتبرك بها، وهذه الهضاب والمساجد القائمة عليها والعيون المجاورة لها ثابتة في بطون الكتب القديمة ثبوتا يجعلها أصدق نبأ عما تحدث عنه مساجد مكة، وأحسبها لذلك ستثير من عنايتك بها أكثر مما أثارت مساجد مكة.
وبلغنا باب العنبرية فاستوقفنا حراسه، وباب العنبرية بالمدينة كباب النصر بالقاهرة، وباب الساهرة بالقدس، وأمثالها من الأبواب التي كانت تحيط بالمدن في عصور خلت، والتي كانت تجعل منها حصونا منيعة تصد المغير عليها دون اقتحامها؛ وهي لذلك قد بنيت من حجر متين بناء محكما، وقامت فوق جدرها السميكة عقود من الحجر تبعث إلى النفس المهابة وإلى القلب الرهبة، ولما عرف الحراس أمرنا بادلونا أحسن التحيات وأخبرونا أن مضيفنا قد أقام بنفسه ينتظرنا، وأنه طلب إليهم أن يرشدوا السائق إلى داره، وابتسم السائق حسن وذكر أنه يعرف الدار خير معرفة، ومن ذا الذي لا يعرف دار الخريجي بالمدينة، أكبر تاجر وأعظم سري فيها وصهر وزير المالية؟! وانبعث حسن بعد أن تخطى العنبرية في طريق فسيح حتى بلغ بيتا حديث البناء ووقف قبالته وقال: هذه دار الخريجي الجديدة، لكن بناءها لم يتم بعد، واستأنف سيره فمر بميدان أو ما يشبه الميدان، ثم استدار في طريق ضيق أدى به إلى زقاق أشد ضيقا، تنفس عن رحبة ليست بالفسيحة، ولكنها تبدو كذلك بالقياس إلى ما يتفرع عنها من الأزقة؛ هنالك وقفت العربة ووقف البكس ونزلنا، وكأنما شعر أصحاب الدار بوقوفنا فخرجوا إلينا واستقبلونا بأجمل التحية.
عجب أمر السفر في هذه البلاد الإسلامية المقدسة، إن لنا الآن لستا وأربعين ساعة مذ غادرنا مكة لم نذق أثناءها للراحة طعما، بلغنا جدة أمسية الإثنين ولم أنم بها خمس ساعات، وقضينا طيلة يوم الثلاثاء بين جدة وآبار بني حصان، ولم نقض ب «أوتيل آبار بني حصان» سوى ثلاث ساعات كان المبيت بالعراء خيرا منها، وها نحن أولاء نبلغ المدينة والعصر وشيك أن يؤذن أو لعله قد أذن المؤذن به، مع ذلك أراني جم النشاط أود لو أخرج لتوي لزيارة المسجد النبوي والحجرة النبوية فأؤدي بذلك تحية المسلم إلى مقام الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام.
وأفضيت إلى مضيفي برغبتي، قال: بل استرح قليلا وأزل عنك غبار السفر، فإذا تناولنا الطعام خرجنا للزيارة، قلت: ما بي الآن إلى الطعام حاجة وأؤثر أن أتناوله بعد صلاة العشاء، وصعدت مع ابن المضيف الكريم إلى الطابق الأول حيث غرفنا ومتاعنا، هنالك أقمت ريثما اطمأننت إلى دار المقام، وتوضأت وأخذت أهبتي للزيارة، ونزلت ونحن من صلاة المغرب على نحو نصف الساعة، وقمت مع مضيفي فسرنا في زقاق ضيق استدرنا منه إلى آخر وإلى طريق أكثر سعة ينتهي بعقد من البناء فوقه، وهبطنا درجة واستدرنا إلى اليمين فإذا بنا نستقبل باب السلام من أبواب المسجد.
وسرنا نحو الباب نقطع بضعة الأمتار التي بيننا وبينه، وسرنا في زحمة جمع جاء يؤم المسجد لصلاة المغرب يريد أن يقضي فيه الفرض والسنة ويجلس في الروضة النبوية ليثاب عن صلاته أضعاف ما يثاب عنها في سائر أنحاء المسجد، كذلك عرفت مذ كنت بمكة، وكذلك ذكر أصحابي وأنا بمصر قبل أن أسافر إلى الحجاز، وبذلك تجري روايات كثيرة، أنا إذن على خطوات من الروضة النبوية، ومن الحجرة النبوية، وفي هنيهة سأتخطى باب السلام فأكون في حماها وحرمها.
يا لجلال الموقف! أخذت به قبل أن أبلغه وأن أقف فيه ... وبلغ من شغلي به أن لم أعن بما حولي، بل أطرقت إلى الأرض وغاب عني كل شيء إلا ما أنا مقبل عليه، لقد حاولت وأنا بمكة أن أعرف أين ولد الرسول وأين مقامه فلم أجد لشيء من ذلك أثرا ثابتا، فلما وقفت أمام الغار في قمة حراء حيث نزل عليه الوحي، ولما أويت إلى غار ثور حيث اختفى من قريش عند هجرته، اهتز كل وجودي ورأيت من أمري عجبا، ترى ما عسى أن يكون من أمري ساعة أقف أمام الحجرة، وحين أقف في الروضة أصلي حيث خطب الرسول وحيث صلى بالمسلمين الأولين؟! ها أنا ذا سأرى ولم يبق بيني وبين أن أراه غير لحظة.
الكتاب الخامس
مدينة الرسول
صفحة غير معروفة