وعدنا إلى منزل مضيفنا نتناول العقال، فألفيناه ثرد الثريد وجعل عليه لحم الجزور كله، وهيأ بذلك لنا طعاما بدويا لذيذا، ولم يشاركنا في العقال كما وقف ساعة الغال بعيدا عنا يجيب مطالبنا ولا يلقي علينا نظره، ودارت القهوة بعد الطعام، ثم خرجنا فركبنا دوابنا ودرنا بها في أنحاء الجبل نستبق، وبدأت الشمس تميل نحو الغرب كل الميل، فعدنا إلى النقب الأحمر نهبط خلاله إلى وادي محرم، ولقد آثرت أن أقطع جانبا من النقب على قدمي مخافة السقوط من فوق الدابة وهي تنحدر في حذرها ملقية إلى الأمام برأسها وبكل جسمها، فلما استوينا بعد ذلك في «البكس» وأسرع يقطع بنا الطريق إلى الطائف تنفسنا الصعداء، وقدرت صدق الدعوة التي يدعوها بنو وطننا للمسافر: «يكتب الله لك في كل خطوة ألف سلامة.»
قال صاحبي ونحن نتناول طعام العشاء: سنذهب صبح غد إلى الشفا أرفع جبال الطائف، وهناك ترى البادية كما خلقت لم يعد عليها نظام ولم تعبث بها يد عابث، قلت: أوعبثت يد النظام بالهدة؟ وهل يرتفع الشفا عن كراء؟ وتبسم الشيخ صالح القزاز وقال: إنك سترى يوم غد ما يسرك، وستكون لك فرصة نادرة المثال في الموازنة بين بلادنا اليوم وما كانت عليه أيام الرسول وفي صدر الإسلام، وسترى في أعالي الجبال هناك من طبائع البداوة ما لم تره اليوم، وما هو خليق ببحثك ودرسك.
قلت: أونجد مكان اللات طاغية ثقيف في طريقنا إلى الشفا؟
وأجاب السيد صالح: لا يعرف أحد اليوم أين كانت تقوم اللات؟ وكل ما يذكرونه أن الصنم مسخ ونقل حجره أمام مسجد ابن عباس تدوسه أقدام الناس.
وذكرت لسماع هذا القول ما يذكره أهل مكة عن هبل، وأن حجره وضع أمام باب الصفا من أبواب المسجد لحرام ليدوسه الناس.
قال صاحبي: تلك كلها روايات لم يحفل التاريخ شيئا منها ولم يذكرها مؤرخ جاد في كتاب من كتبه.
وقمنا صبح الغد نقصد الشفا، وأقلنا البكس، وانطلقنا في طريق مستوية حتى حاذينا قرية المثناة، قال صاحبي: سألتني غير مرة عن المكان الذي لقي فيه الرسول عداسا النصراني وحرصت على أن تقف عنده، ففي المثناة مسجد سيدنا عداس، قلت: أولا ننزل فنزوره؟! لكن الشيخ صالح آثر أن نرجئ هذه الزيارة إلى حين العودة من رحلتنا، وانطلقت السيارة متخطية وادي المثناة في أرض مطمئنة يدل ظاهرها على خصبها، وهي مع ذلك غامرة لا زرع فيها ولا نبات، وبلغنا زراعة مخضرة ونباتا حسنا، فقيل: هذه «الوهط»، ورأينا بساتين تسقى من عين تجاورها، وتقوم منازل على مقربة منها أدنى إلى أن تكون ضيعة صغيرة ، يتعهد أهلها هذا الزرع القليل، قال الشيخ صالح: هذه الوهط التي لا تكاد تغل اليوم شيئا مذكورا كانت في صدر الإسلام مضرب المثل في الخصب والنماء.
ذكروا أن عمرو بن العاص اشترى فيها أملاكا أيام إمارته في عهد معاوية، وأن هذه الأملاك كانت تغل من الكروم والنبيذ ما يتحدث الناس عنه، جاء معاوية من الشام يوما ومر بهذه النواحي، فلما كان على مقربة من الوهط رأى على البعد ما ظنه أحجارا سوداء ناتئة في كثرة نتوء الحرار في مدينة الرسول، فسأل: ما هذه الحرار؟ وعلم أنها ليست حرارا وأنها خوابي النبيذ التي تعصر فيها كروم ابن العاص، فلما توسط بساتين الوهط قال لعمرو مرة أخرى: لي عندك يا عمرو طلبة لعلك لا تردها، قال عمرو: لك ذلك يا أمير المؤمنين، ولي عند أمير المؤمنين بعد ذلك طلبة أرجو ألا يردها، ووعده معاوية ما أراد، فأما الذي طلبه معاوية إلى عمرو فأن يهبه الوهط، قال عمرو: هي خالصة لأمير المؤمنين، وابتسم معاوية ثم قال: فسل يا عمرو ما بدا لك فأنت مجاب إليه، قال عمرو: أن ترد الوهط يا أمير المؤمنين.
وأردف الشيخ صالح: وسواء أصحت هذه القصة أم لم تصح فهي تدل على ما كان لهذه الأماكن القفرة اليوم من شهرة بخصبها وثمراتها، وتؤيد صحة رأيك في هذه البلاد، وأنها لم تعد إلى مكانتها في الحضارة والثروة منذ انتقل الملك إلى دمشق وبغداد والقاهرة.
ولعل الشيخ صالح القزاز لم يجزم بصحة الرواية التي حدث عنها لما تختلف عليه الكتب أكانت أملاك الطائف لعمرو بن العاص أم لابنه عبد الله، فقد ذكر صاحب لسان العرب ما نصه: «الوهط: مال كان لعمرو بن العاص، وقيل: كان لعبد الله بن عمرو بن العاص بالطائف، وقيل: الوهط: موضع، وقيل: قرية بالطائف.»
صفحة غير معروفة