لا يتحدث عادة، كل ما يسمع منه مجرد همسات لا تستطيع فهمها، تفسرها حينا بأنها سباب للأطفال المشاكسين الذين يعبثون بوجبته، أو كدفاع عن نفسه حينما يلقون الحجارة عليه أثناء نومه، أو تترجم إشاراته تسولا حينما يجيبها بعض المارة أو أصحاب السيارات بقليل من الجنيهات أو أكياس بقايا الطعام.
لغة خاصة بينه وبين بائعي أكشاك البضائع تجعلهم يحتفون بمروره، تحية حارة منهم، يقابلها بردود مقتضبة لا تزيد أحيانا عن بضع إشارات باليد أو هزات بالرأس.
لم يعد يتساءل الناس عن عمره، أو حاله الذي جعله أحد معالم هذا الشارع؛ فقد قضوا الكثير من الوقت بحثا عن إجابات لأسئلتهم: من هو؟ ومن أين جاء؟ ومتى استوطن هذا الشارع، حتى أصبح جزءا منه؟
تناثرت الأحاديث؛ فالبعض يقول إن زوجته هجرته لقلة الرزق، فهام على وجهه بحثا عنها، والبعض أكد أنه انتظر خطاب تعيين الحكومة سنوات طوالا، فهرب من نظرات التحسر، وآخرون يقولون إنه ولد «مجذوبا» فألقى به أهله بالمستشفى العام، حتى ضاق بها وبمعاملة الأطباء له كحيوان اختبار، وجشع الممرضين واستهزاء الطلبة به، فتركها واحتمى بالشارع. اجتهد كثيرون، ولما خابت إجاباتهم، انشغلوا بحالهم وقبلوه على حاله.
اليوم يبدو مختلفا؛ يلتف حوله أصحاب الأكشاك، وبعض الباعة الجائلين، حتى الصبية المشاكسون، يصفقون له تشجيعا، تتسع الدائرة مرحبة بالمشهد الجديد، تتعدد التعليقات: «نعم متسعة قليلة لكنها مختلفة، أكثر نظافة، أثقل بعض الشيء مما يحتمل الطقس، لكن لا يهم، يمكنه خلعها ليلا لافتراشها، أو أن يهش بها ذباب الطريق.» يقف مزهوا بنفسه، مرتديا سترة نصف مهترئة، وجدها في صندوق القمامة القريب، ما زالت تحمل بقايا ألوانها، يرد على تحيات الملتفين ببعض الابتسامات، ثم يعود لزاويته، وينفض الجمع.
دقات الساعة
لهاث يلاحقه لهاث، وأنفاس تتكسر على نصل حياة كالمتاهة الكبرى يدور فيها عمرك، لا لسنوات عشر، أو عشرين أو حتى أربعين.
تتربص بك أحلامك، أنت دائما تجري، لتلحق بقطار أو موعد اختبار، أو اجتماع، والتأخير لا ينتهي، بينك وبين سيارتك، أو باب غرفة الاجتماع أو الامتحان، خطوات قليلة وقدمك ترفض الانصياع لك، ترجوها أن تتحرك أو تستعطف عقلك ليوقظك، وجميعهم يعلنون تمردهم.
تستيقظ متعبا من ثقل جبال الثلج على صدرك، تتعجب ما الذي أرهقك وأنت لم تبرح مكانك، تحاول أن تتذكر ما كنت تفكر فيه أثناء نومك، فلا يطاوعك عقلك. فيما يشتد بك وقع أنفاسك، ترفع بصرك إلى ساعتك التي تصم أذنيك بدقاتها، تتفاجأ وقد تنازلت طوعا عن عقربيها لثالثهما الأسرع.
تنظر إلى المرآة فلا تكشف لك ملامحك، فتقنع نفسك أنها مجرد أضغاث أحلام، يزعجك استمرار رنين المنبه رغم إغلاقك له مرات، تستحم وتتناول فنجانك من القهوة، هذه المرة تجربه بقليل من السكر، فلا تجد فرقا بينه وبين الخالي منه، تتأنق أمام مرآتك، رغم غياب صورتك، فتتشكك في تأثير قهوتك.
صفحة غير معروفة