في ذلك اليوم لم أسمع أصواتهم الصباحية الصاخبة، وفي طريق عودتي لاحظت الوجوه متجهمة، ممتنعة عن العمل، بعضهم يجلس القرفصاء، والآخر يشوح بيديه بانفعال في أحاديث جانبية.
استمر الامتناع عن العمل أياما، وبعدها بدأت اللافتات تظهر في موقع العمل، بداية على استحياء، حتى ملأت المكان، صور لأشخاص بالسحنة نفسها تغطيها الدماء، سقطوا أثناء العمل بفعل الإعياء الحراري، مذيلة بعبارات محتجة بلغات عدة، مطالبة بامتيازات إضافية : زيادة ساعات الراحة، خاصة فترة الظهيرة بالصيف، ومساكن أكثر آدمية، وسائل تنقل تليق بالبشر، ورواتب تفي بالحاجة.
تابعت الصحف المحلية الخبر بتغطيتها الخاصة، فوصفت الحادث بأنه أعمال شغب من قبل عمال، منتقدة تلك الاحتجاجات بأنها نكران لجميل بلد آوتهم من الموت فقرا ببلدانهم، وأذاعت مختلف وسائل الإعلام الأرقام الرسمية عن ملايين الدراهم التي تحول كل عام من «خير البلد» بسبب أولئك الوافدين.
أخلي الموقع، واكفهرت المنطقة، وتوقف البناء، وبت أسمع بديلا من أصوات الطوابير الصباحية، أصوات أزيز الآلات الضخمة والروافع الحديدية بفعل الرياح، وبعد أسابيع انتبهت على صخب، نظرت من نافذتي، كانت هناك حافلات تحمل وجوها أخرى أكثر نضارة، تحمل في عيونها بعض الأمل، تتبع أوامر بتنظيف المكان من النفايات، ثم توالت التمرينات الصباحية كل يوم.
البيت الرطب
تزعجني الأصوات الصاخبة التي تملأ أرجاء بيتنا، لم أتعود على هذا العدد من الضيوف، وتلك المصابيح الملونة المتلألئة، والموزعة بأرجاء البيت وعلى سلالمه وواجهته، وجوه أعرفها من جيراننا وأقاربنا، بعضهم ألقاه دوما بحكم المسكن القريب، والبعض يأتينا أحيانا أو نزورهم في بلدة أمي.
أهرب من أغاني المذياع المرتفعة، وتحيات الضيوف، وتربيتاتهم على كتفي وتأكيدهم بأنني «كبرت خلاص وبقيت راجل». أتسلل إلى غرفة أمي، أنظر إليها. لم أرها يوما بكل هذه الزينة، أو هي لم تكن متزينة يوما، ودعت زينتها وألوانها منذ وفاة أبي منذ أربعة أعوام. يومها لم أكن قد أكملت عامي السادس، ولم أكن أعرف ماذا تعني وفاة الأب، فقد فوجئت ببيتنا يلفه السواد، وتلاوة القرآن لا تنقطع ليلا أو نهارا، كنت أضيق بها أحيانا لأنها تؤرقني وتمنعني من النوم.
لم يكن لدي سوى ذكريات بعيدة عن أبي، ونسختين من صورته، تتوسط إحداهما غرفة صالوننا، والأخرى منتصبة على المنضدة بغرفة أمي.
نظرات حزن رمقني بها المعزون، ومصمصات شفاه النساء، وثرثراتهن بأن «البنية لسه صغيرة على الترمل، والصبي أصبح يتيما مبكرا، وما زال أمامه مشوار طويل ليكبر ويتحمل المسئولية.» لم أكن أفهم يومها معنى اليتم، غير أنني حرمت من الحلوى التي كان يأتيني بها أبي كل مساء أثناء عودته من عمله.
رغم غياب أبي، كان حضوره في سواد أمي الذي لم تخلعه، شعرت أنه زادها جفافا مع الوقت، ظهر في تجاعيد مبكرة على وجهها، وبعض الشعيرات البيضاء، وأيضا في معاملتها لي التي ازدادت خشونة.
صفحة غير معروفة