في القفص
خرجت من باب المستشفى، في مثل تلك الساعة التي دخلت فيها منذ أسبوعين، كانت الشمس حامية والحرارة شديدة، ولكنها مع ذلك كانت تسير بخطى مسرعة، تحمل طفلها الوحيد بين يديها، لا تصدق أنه نجا أخيرا من شبح المرض الذي سكن جسده الهزيل طويلا.
ورغم تأكيدات الطبيب لها بأن ابنها شفي تماما، فقد حرصت كل حين على أن تلمس جبينه وتلصق أذنيها بصدره لتطمئن إلى انتظام ضربات قلبه.
تهبط فزعة الطريق الذي سبق أن صعدته وصولا إلى المستشفى، تتذكر ما عانته في هذا المكان الذي يشبهها في بؤسها وفقرها، ثمنا لتمريض طفلها، فاتورة سددتها وهي تغسل وتمسح بلاط العنابر القذرة ، وطرقات المستشفى التي أكلت جدرانها الرطوبة، وذكرتها ببيتها نصف المتهدم.
تتذكر رعبها حينما أبلغوها في اليوم الأول لمجيئها بضرورة دفع ثمن أكياس الجلوكوز، والمحاليل والأدوية لطفلها، وبكاءها للممرضة القاسية الملامح، والضخمة الجثة، وتشبثها بسور السرير الحديدي، الذي وضعوا فيه طفلها، والذي غاب عن ملاءته لونها لكثرة مرضاها ولكثرة ما ارتوت من أجسادهم.
دفع بكاؤها عجزا عن دفع ما طلبوه منها إحدى الممرضات الأصغر سنا للتوسط للممرضة الضخمة، هامسة لها بأنه يمكن توظيفها في التنظيف تسديدا لثمن الأدوية، فرمقتها الممرضة الضخمة بنظرة مشمئزة، طالبة منها أن تبدأ بتنظيف الأحواض والحمامات.
مكثت في العذاب أسبوعين، تسمع الأوامر وتطيعها، رضخت حتى لاستغلال الممرضات لها في القيام بما يطلب منهن، طمعا للحصول على بعض سويعات الراحة، أو في الثرثرة أو في عدم الالتزام بمواعيد دوامهم اليومي.
حملت التراب ونفايات المرضى وأهاليهم. حتى اسمها تنازلت عنه طوعا، حينما اكتفوا بمناداتها بضميري «هي» و«أنت».
ورغم العمل طوال عشر ساعات، كان نومها متقطعا، فكانت تتابع بكاء الأطفال في العنابر فيرتجف قلبها، محاولة بجهد التخفيف من بكائهم من خلال الكمادات وبعض الهدهدة التي تخفف بها لوعتهم لفراق أهاليهم.
لم تصدق أذنيها وهي تستمع إلى الطبيب الشاب وهو يبشرها بشفاء ابنها، وأعادت عليه السؤال متوسلة للتأكد من الشفاء، متوجسة أن تكون بشراه مجرد رغبة لإخلاء السرير لمريض آخر.
صفحة غير معروفة