تعرفني بصوتي، وأعرفك برائحتك، والروائح مثيرة للذكريات، فتبقى في ركنها البعيد مستعصية على النسيان.
تبحث عن ترويضي؟ من منا يحتاج إليه؟ أنت بغرورك، أم أنا بخوفي؟ تعلم أنني حساس مثلك، تداعبني الألحان لحد الرقص، فلا تغضبني بغرورك؛ فغضبي يشبه العواصف، لا تطلب مني الثقة بك، بل أطلب منك أنا أن تطلق لجامنا، وأن ننطلق معا، أن نتهادى فوق اللاحدود، حتى يملأ عيوننا البياض.
دعك من صوتك، وصهيلي، فلا أعترف بالأصوات لغة، يمكنك الاكتفاء بالهمس، واربت على ظهري، وحاور خصلي؛ فاللمس لغة لا يفقهها إلا أمثالي، ولا تخش؛ فقطعة سكر تكفي بالنهاية كمكافأة.
مركز ثقافي
جلست متململا في كرسيي، أحاول أن أواري سوءة خجلي، أسائل نفسي كيف طاوعت شيطاني للمجيء، يجيبني عقلي ببراءة مصطنعة: «إنه الفضول.» فأرده بسخرية: «اعترف، ولا ترم صديقك بحجر التحريض.» ثم أبدأ شماتتي، وأعدد له خطاياه؛ فلطالما ضبطت شياطينه وهي تحيك الحواديت بمجرد المرور بهذا البناء.
يختلق ذهني الضحكات المستترة والآهات التي تعصف بها الرغبات، والشائعات التي رسمت في خيالاتي صورة لساكنيه بجرأتهم وألوانهم الصاخبة. وتلك اللافتة بحروفها اللاتينية المتراقصة، وهذا الهدوء النهاري الذي يعوض الصخب الليلي متفردا عما حوله من مؤسسات حكومية. كلها أسباب دفعتني لترضية فضولي بالاطلاع على ما وراء هذا العالم الخلفي الذي يقبع ساكنا «هائجا» في قاع المدينة، رغم بنائه في أحد أشهر شوارعها.
كان المكان هادئا على غير توقعي، لا ضحكات خليعة متناثرة، ولا أشباه عراة على جوانب الغرف ، فقط أبواب مغلقة، راسمة جدرانا خرسانية عازلة للصوت والغرائز، هدوء هدم تلك الخيالات والقصص في رأسي.
استقبلتنا امرأة في منتصف الثلاثينيات تبدو وكأنها تدير المكان، هادئة الملامح، تولى صديقي التفاوض معها، وحينما دعاني، كان خجلي قد أنهى جولة عنتريتي المصطنعة لصالحه، فاكتفيت بجلستي المتململة لحين عودة صديقي من جولته.
خوفا من جولة أخرى، وهزيمة متجددة؛ شغلت بصري بملاحقة المكان، وجلساته المستديرة، الموضوعة بشكل يحفظ بعض خصوصيتها، وبعض المناضد العالية التي تسمى «البار» للزائرين الفرادى، وضعت بحيث تقابل ظهورهم تلك الجلسات المستديرة.
على إحدى الأرائك لمحتها، بفستانها الذي بالكاد يغطي ركبتيها، والمنحسر عن أكمامها، مظهرها لا يتناسب مع سيجارتها التي تمسكها بأطراف أصابعها وتنفثها بعصبية، وجهها باهت من الألوان، ولكنه لا يخلو من حلاوة طبيعية، دخل أناس عدة ألقوا إليها نظرة سريعة ثم ما لبثوا أن بلعتهم الأبواب المغلقة بعنفوانها.
صفحة غير معروفة