ونسوق مثلا ثالثا مما كان يدور فيه القول بين الأدباء والمفكرين في فترة ما بين الحربين، موضوع القديم والجديد في تصور الناس للأدب، فهنالك من ينصرفون باهتمامهم إلى صقل اللغة وتجويدها دون أن تكون هنالك الفكرة التي ينقلونها بتلك اللغة، وهؤلاء هم أنصار القديم، وهنالك من يهتمون بالفكرة أول ما يهتمون، وهؤلاء هم أنصار الجديد - بتعبير أبناء الفترة التي نعرضها هنا - ونستطيع أن نتخذ سلامة موسى مثلا متطرفا لفريق المجددين، ومصطفى صادق الرافعي مثلا متطرفا لفريق المتشيعين للقديم. كتب سلامة موسى - مهاجما يقول: «أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة أو مجاز جميل، أو كناية بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة، لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب فيه، وإنما يعمد إلى الفقاقيع، فيؤلف منها عبارة خلابة، فيتوبل بها إنشاءه، أو يرصها رصا، وكثير ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائهم الخاص» ... وكتب كذلك في موضع آخر يقول: «في مصر وسوريا طبقة من الأدباء لها عيون من خلف رءوسها، فإذا نظرت لم تر سوى الماضي ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي، وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك، لكان لها من ذلك بصيرة بالحاضر والمستقبل، أجل، لو كانت هذه الطبقة تنظر إلى الماضي خلال تلسكوب العلوم الحديثة لاستطاعت أن تقرأ لغة الطبيعة، وتدرك أن روح العالم هي روح نشوء وتطور.»
ويرد الرافعي على هذا الهجوم، فيؤكد أن علته الحقيقية ترجع إلى التمكن من لغة العرب وأدبهم، فمن لم يجد في حياته الفرصة لهذه الدراسة، وشاءت له ظروفه أن يدرس لغة أجنبية، راح يتهم اتهامات مصدرها عجزه عن التعبير بلغة العرب، وهنا يتدخل الدكتور طه حسين، فيناصر سلامة موسى بعض المناصرة، ويصحح الرافعي فيما ذهب إليه، فيقول: «نعتقد أن الأستاذ الرافعي يسرف في هذا الحكم، ولعل مصدر إسرافه ... أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصار المذاهب الغربية، وهو إنما أخطأ الفهم لأنه أخطأ الذوق وإنما أخطأ الذوق لأنه أخطأ الفهم، إن بعض أنصار المذهب الجديد ... قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحظ لا بأس به، وإن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم في اللغة العربية وآدابها، إذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفا، وليس اعتذارا لأنفسهم وليس تعصبا للأدب الأجنبي الذي تفوقوا فيه.»
وهذا مثل رابع نقدمه لما كان يشغل الأدباء والمفكرين في مصر إبان الفترة التي نتحدث الآن عنها - فترة ما بين الحربين - فلم يكن يكفي أن يختلف المختلفون على أي الثقافتين يجب علينا الانتماء إليها في نهضتنا الأدبية: العربية القديمة أم الأوروبية الحديثة؟ بل حدث خلاف فرعي بين أنصار الثقافة الأوروبية الحديثة أنفسهم، كان السؤال هذه المرة هو: أي الثقافتين الأوروبيتين يجب الأخذ بها قبل أختها؟ أهي ثقافة اللاتين أم ثقافة السكسون؟ وبدأ الحوار في هذا الموضوع بمقالة نشرها العقاد تعليقا على كتاب أصدره أنطون الجميل عن «شوقي شاعر الأمراء»، فجاءت في هذا التعليق موازنة بين طريقة اللاتينيين في النقد الأدبي وطريقة السكسونيين، خلاصتها أن الأولين ينقدون الأدب، وكأنهم يتحدثون حديثا ظريفا في صالون، وأن الآخرين ينقدون الأدب نقدا موضوعيا يضرب في لباب الموضوع بغير اصطناع الظرف الاجتماعي الواجب اصطناعه في ندوات الأصدقاء، وكان العقاد فيما كتب على اعتقاد بأن ثمة فرقا بين الثقافتين ينبثق من الفرق بين المزاجين، وأن هذا الفرق واضح في مفكرينا وأدبائنا أنفسهم، فمن درس منهم الثقافة اللاتينية وجدته أقرب إلى أن يكون مؤرخا للأدب أو شارحا له، ومن درس منهم الثقافة السكسونية وجدته أقرب إلى أن يكون هو نفسه كاتبا أديبا أو شاعرا.
وهنا تصدى الدكتور طه حسين للرد والتصحيح، زاعما أن «ليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني، وإنما هناك نقد فحسب، نقد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية واللاتينية، وورثته عنهما الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها، فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرءوا آيات البيان اليوناني واللاتيني، وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني لأنفسهم، أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم جميعا يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره؛ لأن هذا الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وأرستوفان وأفلاطون.»
هكذا كنا في فترة ما بين الحربين، نحاول العثور على الجذور العميقة التي يمكن أن ننبت منها شجرة الحياة المصرية الجديدة، نحاول ذلك في الشعر، وفي النقد الأدبي وفي الفكر النظري، لكن هذه المحاولة جاوزت ذلك كله، جاوزته إلى مجال الخلق الأدبي الجديد في القصة والمسرحية، فلئن كان الشعر صورة مألوفة في الأدب العربي منذ أقدم العصور فلم تكن القصة - بمعناها الفني الحديث - ولا المسرحية مألوفتين معروفتين، فماذا لو أجرينا عليهما المحاولات، لنتخذ منهما وسيلتين جديدتين في البحث عن أنفسنا؟ لقد بحثنا عن هذه النفس في القصيدة وفي المقالة، وبقي أن نلجأ إلى طريقتين أخريين في التحليل والتجسيد، التحليل الذي يتعقب سلوك الناس إلى أصوله الأولى، والتجسيد الذي يبلور روح المجموع في أشخاص يصورهم كاتب القصة أو كاتب المسرحية.
وكانت أولى محاولاتنا الجادة في القصة - كما ذكرنا - هي «زينب» وهي القصة التي كتبها محمد حسين هيكل في منتصف العقد الثاني من القرن، كتبها ليجسد فيها دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة، وليعرض في حوادثها عيوب المجتمع التقليدي الذي يحول دون امرأة ورجل متحابين لا لشيء إلا لأنهما من طبقتين متفاوتتين من حيث الغنى والفقر.
ونمضي إلى العقد الثالث من القرن، فنرى «المقالة» قد ملأت الفراغ الأدبي كله سواء في ذلك المقالة السياسية التي اشتعلت حرارة من نار الثورة، والمقالة الأدبية والفكرية التي انتقل إليها الخلاف السياسي المذهبي بين الكتاب ليصبح خلافا فكريا فلسفيا - حتى إذا ما بلغنا أواخر العقد الثالث هذا، صادفتنا ألوان أدبية جديدة: صادفتنا «الأيام» للدكتور طه حسين، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وبعض المسرحيات الشعرية لأحمد شوقي، وهي كلها - بمعنى من المعاني - محاولات في سبيل العثور على حقيقة أنفسنا: أهي تغوص بنا إلى جذور فرعونية كما يذهب توفيق الحكيم في عودة الروح؟ أم هي جمع بين الثقافة العربية الأصيلة والروح الغربية، كما يتمثل هذا الجمع في ترجمة طه حسين لحياته، وفي مسرحيات شوقي الشرقية المضمون الغربية الشكل؟
لقد جاءت قصة «عودة الروح» في موضعها الزمني من تاريخنا الفكري الحديث، شاهدا قويا على رغبة المصري - إذ يرى نفسه في دوامة التيارات الثقافية الوافدة إليه من كل صوب - في أن يثبت ذاته إثباتا يجعلها «مصرية» خالصة تتميز بطابع خاص، وهي ذات تصارع الزمن لتخلد وتستعصي على الفناء، ثم هي في هذا الصراع لا تجمد ولا تخمد إلا لكي تثور حين يظهر لها من أصلابها زعيم قائد، ولئن جرت الأسطورة المصرية القديمة برواية عن إيزيس وكيف طفقت تجمع أوصال أخيها أوزريس الممزقة المبعثرة حتى أعادته كائنا سويا تدب فيه الروح من جديد، فهكذا تجري الحياة في مصر أبدا على مر التاريخ الطويل: يمزق أشلاءها من يمزق، لكن ذلك لا يطول طويلا حتى يتولاها زعيم من أبنائها فيجمع شملها ويعيدها أمة سوية ممتلئة بدوافع الحياة.
ونمضي مع الزمن إلى العقد الرابع من هذا القرن - الثلاثينيات - لنجد أنفسنا أمام حصاد غني من ثمار القريحة الأدبية في القصة والمسرحية، لكن المحاولة الرئيسية لم تزل هي هي، وأعني محاولة البحث عن حقيقة أنفسنا فيما نحلله من شخصيات نصورها بوحي من الواقع الملموس، كل كاتب بحسب استعداده وطريقته في الخلق الفني، فإذا كان توفيق الحكيم قد لمس الصراع العنيف بين المصري وتيار الزمن، لمسه في قصته «عودة الروح»، فقد عاد إليه بصورة أصرح - وأقوى - في مسرحيته «أهل الكهف» (1933م) التي بناها على القصة الواردة في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم، إلا أن الكاتب هنا قد جعل فعل الزمن أقوى من عواطف الإنسان، فهؤلاء هم أهل الكهف بعد أن استغرقوا في نوم طويل، أبعدهم عن مجرى الحوادث مئات السنين، عادوا إلى الحياة من جديد، وانطلقوا يبحثون عما كان يربطهم بها من روابط: الوالد يبحث عن ولده فيعلم أنه مات منذ قرن كامل، فلا يطيق العيش بعد أن انفصمت روابطه بالناس من حوله، وهذا حبيب يلتمس حبيبته، فيلتقي بحفيدة لها، شبيهة بها، فيحسبها الحبيبة القديمة، ويحدث أن تحبه هذه الحفيدة، لكن ما إن اكتشف كلاهما حقيقة الواقع، حتى تصعقهما هذه الحقيقة، فلا يحتملانها، وهكذا قل في سائرهم، كل منهم تفجؤه الفجوة بين حقيقته هو، والحقيقة الخارجية فيؤثر الموت على حياة لا روابط فيها بينه وبين أهلها.
إن كاتبنا المسرحي العظيم، يؤمن في أعماق نفسه بوجود قوة غيبية لا قبل للإنسان بردها، فإن أوهمه خياله - أو أوهمه العقل المحدود - بأنه قادر على أن يفرض سلطانه، حدثت الفاجعة ونزلت المأساة؛ ولذلك لا مفر للإنسان إذا أراد لنفسه عيشا سعيدا، من أن يحيا في ظل إيمانه وعلى دفء عاطفته، وأن يحصر المعرفة العلمية في حدودها مهما ضاقت تلك الحدود، ولعل هذا هو الفارق الرئيسي بين ما يسمى بالشرق وما يسمى بالغرب - في التقسيم الثقافي لمجموعات البشر - وهو أن الغرب يدعي بعلمه العقلي أكثر مما يستطيع، وأكثر مما يوفر للحياة الإنسانية هناءتها، وأما الشرق، فلو ترك لطبيعته، آثر أن يستمع إلى صوت وجدانه، حتى وإن لم يعد له بالعلم الكثير من هذا الكون الكبير، وإذا شئت عبارة موجزة تلخص هذا الفارق بين الثقافتين، فقل إن في الغرب علما وفي الشرق تصوفا، وإن التصوف أعلى مرتبة من العلم.
صفحة غير معروفة