لكن ماركس يقف من ذلك موقفا فيه بعض اللبس، مما يجعل حكمنا على العلاقة بين الفكر والواقع المادي في مذهبه أمرا محفوفا بالشكوك، فهو يقول «إن الديالكتيك في كتابات هيجل يقف على رأسه، ولا بد لنا من أن نقلبه عقبا على رأس ليعتدل» ... ومعنى ذلك أن هيجل يجعل الرأس (أي الأفكار) أساسا أوليا، منه تتفرع سائر الجوانب، وأما ماركس حين يطالب بأن نقلب الوضع ليقف الديالكتيك على قدميه لا على رأسه - بحيث يكون الرأس إلى أعلى، فهو يريد بذلك أن تكون الأفكار هي الفرع الذي يتفرع عن أصل، فالأساس هو مادة الواقع الصلبة، وأما أفكار الرأس ففي الهواء كالطابق الأعلى من بناء مرتفع، ما لم يرتكز على أساس مكين في الأرض، لما كان له وجود، وفي هذا يقول ماركس في العبارة نفسها التي أسلفنا منها شطرا، «أن الجانب الفكري ما هو إلا الجانب المادي بعد أن انتقل إلى الرأس وترجم فيه إلى صورة أخرى» ... وليس من الواضح هنا إذا كانت هذه «الصورة الأخرى» مما يمكن أن يستقل بنفسه، بحيث تكون لدينا نسختان، أو صورتان كتبتا بلغتين مختلفتين، أم أن هذه «الصورة الأخرى» كان يستحيل لها أن توجد إلا إذا سبقها الأصل الذي تفرعت عنه، بعبارة أخرى، هل يمكن للإنسان أن يكتفي بالقدمين الراسختين على أرض الواقع، مستغنيا عن الرأس وما فيه من أفكار ما دامت هذه الأفكار ترجمة للصورة المادية الواقعية؟
الظاهر أن ماركس - وإن يكن يصر على أن تكون الأولوية للواقع المادي - إلا أنه يعلق أهمية على الجانب الفكري بعد ذلك، على اعتبار أنه هو المستوى الذي تتم فيه الحرية بمعناها الصحيح، كأنه يتابع هيجل في توحيده بين الحرية والروح ، وفي أن الإنسان لا يظفر بالحرية إلا من حيث هو كائن روحاني، لا من حيث هو كائن من لحم ودم، برغم أن الأساس البدني لا بد أن يرسخ ويستقر أولا، إن هذا الأساس البدني شرط ضروري يجب توافره قبل أن تكون هنالك حرية للجانب الروحاني، وذلك الأساس البدني هو الجانب الذي يخضع لحتمية السببية وضرورة تتابع حلقاتها ومراحلها على وجه معين لا يتغير، والمجتمع الذي ما يزال في مرحلة إشباع حاجاته المادية، هو بمثابة من لا يزال في مضمار الضرورات البدنية التي تخضع للحتمية وللضرورة، لكن الهدف الأسمى بعد ذلك هو أن نجاوز مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وهذه لا تكون إلا في جانب الروح، أو العقل، أو الفكر.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فمنهج الحتمية العلمية مقصور على جانب من الإنسان دون جانب، فهو إن مكننا من إجراء النبوءات التاريخية لحياة المجتمع وهو في نشاطه الاقتصادي من إنتاج واستهلاك، فهو لا يجاوز الحدود التي بها يكون حاضر الحياة الاجتماعية نتيجة حتمية لماضيها، وأما حين يجاوز الإنسان بحياته نطاق الضرورة ليدخل نطاق الحرية (وهاتان التسميتان من عند ماركس) فيبطل عندئذ تطبيق المنهج العلمي بحتميته؛ لأننا ها هنا لا نتعقب كل شيء إلى أسبابه ، إذ قد تنشأ إحدى الحالات العقلية الحرة عن غير سبب يسبقها ويحتم ظهورها.
وبعبارة أراها أكثر وضوحا، إن الأفكار صنفان: أفكار تجيء انعكاسات للحياة المادية الواقعية - أعني للحياة الاقتصادية في الظروف القائمة من إنتاج واستهلاك - وأفكار أخرى تتحرر من هذا القيد، والنوع الأول من الأفكار وحده هو الذي يجوز القول فيه بأنه خاضع للحتمية العلمية وضروراتها، وهو وحده الذي يجوز أن يكون «أيديولوجية» تلزم صاحبها بالقبول، وهو وحده الذي نعنيه حين نقول إن تاريخ الإنسان في حياته المادية وفي حياته الفكرية على السواء، مسير بأوضاع حياته الاقتصادية ... فهل وقع ماركس في تناقض منهجي حين افترض نطاقا للضرورة ونطاقا للحرية، وجعل الأول للحياة المادية والثاني للحياة الفكرية، ثم لم يفرق في هذه الحياة الفكرية بين ما يجيء انعكاسا للأساس المادي، فيرتبط بحتميته وما يجيء إبداعا أصيلا فيتصف بالحرية من روابط الحتمية وضروراتها؟
بغير التعرض للجانب الموضوعي من النظرية الماركسية، أريد أن أحصر اهتمامي في منهج السير من مقدمات النظرية إلى نتائجها؛ لأسأل: هل تلزم تلك النتائج حتما عن المقدمات؟
إنه ليجوز القول إن ماركس قد سار في تفكيره خلال خطوات ثلاث: ففي الخطوة الأولى يحلل طرق الإنتاج في ظل الرأسمالية، ليجد أنها مؤدية - بما فيها من تنافس حر لا تضبطه ضوابط - إلى أن تأخذ الأموال في التركيز على نفر قليل، يظل على مر الزمن يزداد قلة كلما صرع التنافس صرعاه في ميدان التسابق، وهذا بدوره يزيد من عدد من لا يملكون مالا، وإن هذا الاتجاه المزدوج - الإمعان في قلة من يملكون، وفي زيادة من لا يملكون - ليشتد كلما ارتقت وسائل الإنتاج، وبالتالي شدة التنافس على توزيعه، وبالتالي كذلك سقوط من يسقط في ميدان التسابق، ليبقى ذلك النفر القليل المالك، فكأن النتيجة المحتومة هي زيادة في ثروة الأثرياء، وزيادة في شقاء الأشقياء، ومن الطبيعي أن تكون القلة الثرية هي الطبقة الحاكمة، وأن تكون الكثرة الفقيرة هي الطبقة المحكومة.
وفي الخطوة الثانية يبين - بناء على النتيجة التي وصل إليها في الخطوة الأولى - ضرورة أن يئول الأمر إلى طبقتين اثنتين: بورجوازية غنية حاكمة من جهة، وعمال فقراء محكومون من جهة أخرى، فكأنما تحدث - بالتدريج - عملية استقطاب في المجتمع، بحيث تقسمه إلى هذين القطبين وحدهما؛ لأن سائر الأفراد - إذ هم يخوضون معركة التنافس والتسابق، إما أن ينجحوا فينخرطوا في جماعة الحاكمين الأثرياء، وإما أن يخفقوا فينضموا إلى المحكومين الفقراء، وأن طبيعة الموقف عندئذ تحتم أن تتوتر العلاقة بين القطبين مع ضرورة أن يكون النصر عند الصدام للكثرة العاملة المحكومة الفقيرة؛ وذلك لأنه بينما لا يتم وجود لصاحب المال إلا بوجود العامل الذي يعمل لينتج له، فإن وجود العاملين المنتجين يمكن أن يتم بغير وجود صاحب المال، وإذا فمن غير المتصور أن تنمحي الطبقة العاملة، لكن من المتصور أن تنمحي طبقة أصحاب رءوس الأموال، ومن ثم كان النصر محتوما آخر الأمر للطبقة التي لا مناص من وجودها، على الطبقة التي يمكن زوالها.
وأخيرا تجيء الخطوة الثالثة التي يرتبها على نتيجة الخطوة السابقة، فما دام صراع الحاكمين الأغنياء المالكين لأدوات الإنتاج، والمحكومين الفقراء العاملين بتلك الأدوات لصالح أصحابها، قد انتهى بانتصار حتمي للطبقة العاملة، إذن فالنتيجة هي قيام مجتمع لا طبقي يتجانس أفراده، هو الذي يملك وسائل الإنتاج وهو كذلك الذي ينتج في آن معا، وتلك هي مرحلة الاشتراكية.
ونحن نسأل: هل تجيء هذه الخطوات الثلاث في تسلسل منطقي يحتم علينا ضرورة الأخذ بكل خطوة ما دمنا قد أخذنا بالخطوة التي سبقتها؟ إنه مع التسليم بما جاءت به الخطوة الأولى من أن التنافس الحر في الاقتصاد الرأسمالي، لا بد مؤد إلى تراكم الثروة في قلة من الناس من جهة، واتساع الشقاء والفقر في كثرة من الناس من جهة أخرى، نسأل: هل ينتج عن ذلك حتما أن تختفي كل الطوائف إلا طبقتين اثنتين: طبقة البرجوازيين الأغنياء، وهي قليلة العدد، وطبقة الجماهير العاملة التي تمتص سائر الطوائف الأخرى، أين نضع رجال العلم ورجال الفن في هذا التقسيم؟ أين نضع المهنيين من أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم؟ أين نضع أصحاب الملكيات الزراعية الصغيرة؟ في ظني أن استقطاب الناس في محورين: فحاكم غني هنا ومحكوم عامل وفقير هناك، قد يصور الموقف في محيط الصناعة وحدها، لكن ذلك لا يلزم عنه اختفاء طوائف أخرى في بناء المجتمع ليست تندرج في ذلك المحيط.
وإذا سلمنا بصواب الخطوة الثانية في أن المجتمع لا مناص له من هذا الانقسام إلى طرفين: صاحب أدوات الإنتاج وعامل مأجور، وأن النصر محقق للثاني على الأول، فهل يلزم حتما أن تظل الطبقة العاملة التي هي عندئذ المجتمع كله، متجانسة تجانسا يخليها من الصراع؟ أليس هناك - من الوجهة المنطقية الصرف، فضلا عن شواهد الواقع - احتمال بأن تسير هذه الطبقة المتجانسة في نفس المراحل مرة أخرى، حتى وإن اتخذ السير صورة أخرى، وذلك بأن يعلو فريق على فريق إن لم يكن بكثرة المال وبملكية وسائل الإنتاج، فبغير ذلك من عوامل الجاه والسلطان، ثم سرعان ما تربط روابط المشاركة في المصلحة أفراد أولئك وأفراد هؤلاء؟ نقول إن ذلك محتمل وليس مؤكد الحدوث وما دامت المقدمة الواحدة تؤدي بك إلى أكثر من احتمال واحد، فمن التحكم أن تختار أحد الاحتمالات الكثيرة على أنه النتيجة المؤكدة.
صفحة غير معروفة