جاءني من مكتب حكومي خطاب يحدد لي موعدا في الساعة التاسعة من صباح يوم معين، وذهبت قبل التاسعة ببضع دقائق لأكون حاضرا عند تمام التاسعة كما ذكر لي في الخطاب، لكنني وصلت لأجد المكان خاليا من كل أثر للحياة والأحياء، وأصخت السمع فإذا صوت رجلين يتحدثان في غرفة بعيدة، فسرت نحو مصدر الصوت مارا في ممر ضيق يفصل غرف المكاتب عن يميني ويساري، لا يقع فيها البصر إلا على مناضد ومقاعد قد خلت من آهليها، ووصلت إلى مصدر الصوت فإذا خادمان يسمران، وحييت استحياء؛ لأنني شعرت بالذنب الذي يشعر به من يخوض حرما مقدسا لم يكن من حقه أن يخوضه، وسألت مستفسرا: أين عساي أن أذهب؟ وأبرزت لهما الخطاب الذي جاءني بتحديد الموعد، وتناول أحدهما الخطاب وقرأ، وناوله لزميله ليقرأ، ثم رداه إلي، وأحدهما يقول - والآخر يكرر قوله كأنه الصوت والصدى - هم يقولون التاسعة، لكنهم لا يقصدون التاسعة، هم لا يحضرون قبل الحادية عشرة، فإذا كان وراءك مشوار فاذهب واقض حاجاتك ثم عد، وإلا فانتظر في البهو الخارجي ...
آثرت أن أنتظر في البهو الخارجي، فجلست على مقعد كسيح القوائم معفر الأجزاء، إلى جوار منضدة فرشت بقطعة من «الجوخ» الأخضر، ويا ليتها ما فرشت ... وبعد نصف ساعة جاء موظف ودخل غرفة من الغرف التي تفتح على البهو الذي كنت أجلس فيه، فانتظرت حتى رأيته قد استقر في جلسته وشرب قهوته، وبدأ يفتح الخزائن من حوله ليخرج من جوفها أوراقا، ثم استأذنت في الدخول ودخلت، وأبرزت له الخطاب الذي جاءني وسألت: ترى هل أخطأت المكان أو أصبت؟ فنظر في الخطاب، وقال وهو لا ينظر إلي: «بل أصبت، فانتظر حيث كنت، حتى يجيئوا» ... ترى من هم ... أولئك الذين لا يتحدثون عنهم إلا بضمائر الغائب في نغمة كأنها توحي بأنهم سيهبطون علينا من عالم مجهول؟ ومر نصف ساعة آخر، ودخل رجل يحمل حقيبة، لكنه كان زبونا مثلي - وإن يكن أحرص مني لأنه انتفع من زمنه بساعة كاملة أضعتها أنا عبثا - وجلس على مقعد بجواري، وكأنه ألف أن يقصد إلى هذا المكان لينتظر، وهكذا أخذت أنصاف الساعات وأرباعها تمضي، والقادمون يحضرون واحدا فواحدا، ويدخلون الغرف المختلفة، وقاربت الساعة الحادية عشرة، وحالي هو كحالي منذ قدمت في الساعة التاسعة، إلا مللا وسأما أخذت يزدادان معي حتى كدت أنفجر، وكنت عندئذ قد سمعت حديثا عالي النبرة وضحكات صادرة عن قلوب خالية من الهموم، فرجحت من جرأة الحديث والضحكات أنها لا بد صادرة عمن لا يخشون أحدا، وإذن فلا بد أن يكونوا «هم» الذين أشير إليهم بضمير الغائب ... وجررت قدمي جرا في حذر، إلى حيث الغرفة التي انبعث منها الحديث والضحك، فإذا ثلاثة يجلسون على ثلاثة مكاتب، وعليهم جميعا سمات الوقار والتهذيب، فأملت خيرا، ونقرت الباب نقرة خفيفة، وحييت وسألت السؤال نفسه الذي سألته قبل ذاك مرتين، فما كان أشد دهشتي أن رد علي في عنف شديد أحد الرجال الثلاثة، قائلا: من تكون أنت؟ فقلت: أنا فلان - قلتها في هدوء شديد، وشاء لي حسن الحظ أن يكون اسمي معروفا له، وأن يكون قد قرأ لي شيئا ما، فانقلب غضبه رقة عذبة، وراح يعتذر لي، معاتبا إياي: كيف لمثلي أن يجلس في البهو منتظرا، وكان ينبغي له أن يفصح عن شخصيته فور قدومه، وأصر إصرارا شديدا على أن أجلس معهم قليلا، وأن يستضيفني بفنجان من القهوة، ولعله أراد أن يعيد إلي الثقة في نفسي، ففتح موضوعا في الفلسفة زعم أنه يشغله منذ زمن بعيد، وأراد أن ينتهز فرصة وجودي معهم ليستوضحني بما يزيل عنه الشك والقلق ... وبعد ذلك فحص أوراقي التي من أجلها جئت.
انظر إلى هذه القصة العابرة وما قد تجسد فيها من قيم، تجدها كلها قيما هي نفسها قيم المرحلة الأولى من المراحل الخمس التي أسلفت لك ذكرها، أعني مرحلة الاقتصاد الزراعي بكل ما تحمله من صفات، وحسبي هنا أن أستخلص منها قيمتين اثنتين: الأولى هي قيمة الزمن، والثانية هي قيمة التفاوت الطبقي بين المواطنين: أما عن الأولى فلم يكن في اقتصاد الزراعة فرق بين الساعة التاسعة والساعة الحادية عشرة؛ لأن الزرع لا يختلف نموه إذا جاءه الري مبكرا ساعتين أو متأخرا ساعتين، وهنا أذكر ملاحظة عجيبة كنت قرأتها منذ أمد بعيد في كتاب الاستعماري الأكبر اللورد كرومر عن «مصر الحديثة» يقول فيها إنه على يقين من أن مصر لن تتحول في أي يوم من الأيام بلدا صناعيا؛ وذلك لسبب عنده عجيب، هو أن الصناعة مرتكزة في أساسها وصميمها على دقة التوقيت، على حين أن المصريين تنقصهم هذه الدقة، إن العامل الصناعي وهو واقف أمام الآلة الدائرة ليضع فيها شيئا أو ليأخذ منها شيئا كل دقيقة مرة أو كل دقيقتين مرة، لا يستطيع أن يغفل عنها قائلا للآلة: اصبري حتى أتهيأ لك، ومن ثم كان عنصر الزمن من أهم الأمور في مرحلة الصناعة.
وأما عن القيمة الثانية: قيمة التفاوت الطبقي بين المواطنين، فقد كانت كذلك نتيجة طبيعية في مرحلة العرف والتقليد التي سادها الاقتصاد الزراعي؛ لأن الزراعة بطبيعتها عندئذ كانت تتطلب صاحب أرض يسود وجماعة من الفلاحين يفلحون له الأرض ويسادون، وليس من المعقول عندئذ أن يتساوى في العرف سيد ومسود، فللسيد معاملة وللمسود معاملة أخرى دون أن يحس السيد أو المسود شذوذا في هذا التفاوت، ولكم سمعت آذاننا في آلاف المواقف رجلا يظن أنه قد أهين، فيسأل من وجه إليه الإهانة: أتعرف من أنا؟ وذلك لأنه لا يكفيه أن يكون مواطنا كسائر المواطنين، وأن تكون المعاملة الاجتماعية قائمة على أساس المواطنة وحدها بغض النظر عمن تكون أنت، ومن أكون أنا من حيث العمل الذي يؤديه كل منا.
هاتان قيمتان اثنتان استخرجناهما من موقف واحد: قيمة الزمن وقيمة التفاوت الطبقي، لندل بهما على ما زعمناه، وهو أننا نعيش في مرحلة الانطلاق بعلمها وصناعتها، على قيم المرحلة البائدة، ولن تستقيم الأمور وتتناغم جوانب حياتنا إلا إذا أحدثنا الثورة في القيم، كما أحدثناها في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وإنها لثورة لا تتم لنا إلا إذا خلقنا - نحن رجال الفكر والأدب - أزمة في نفوس الناس ليحسوا حدة التناقض القائم.
لكن رجال الفكر والأدب منا ليسوا - فيما أحسب - على تصور واضح بعد، ماذا تكون القيم الجديدة التي يحللونها فيما يكتبون، ويجسدونها فيما ينشئون من قصص ومسرحيات، وينشدونها فيما ينظمون من قصائد، ولأضرب لك على اختلافهم في تصور القيم الجديدة مثلا واحدا، إن عصر الصناعة يقتضي حتما أن تزول الفوارق شيئا فشيئا بين القرية والمدينة، ذلك أن آلات الصناعة ستدخل شيئا فشيئا إلى الزراعة كما دخلت في سواها، ووسائل التعليم والإعلام واحدة هناك، فما يثقف فلاح المزرعة في القرية هو هو نفسه ما يثقف عامل الصناعة في المدينة، ووسائل المواصلات أسرعت وازدادت، وطرق سيرها رصفت، بحيث اشتدت حركة الانتقال بين القرية والمدينة شدة كادت تمزج الفريقين في جماعة واحدة كل يوم، إن الصحف التي تظهر في القاهرة تظهر في اللحظة نفسها في معظم القرى، والخبر المذاع في القاهرة يذاع في كل ركن من كل منزل في طول البلاد وعرضها في آن واحد ... أفلا يكون من الطبيعي والحالة هذه، أن تختفي قيمة قديمة كانت تتغنى ببراءة الريف وتندب حظ المدينة من الشر والسوء، لتظهر قيمة جديدة لا تمتدح البراءة في ريف (لاحظ جيدا أن البراءة هنا تنطوي على سذاجة) ولا تندب شرا وسوءا في مدينة؟ لقد كان بعض السر في القيمة القديمة أن يرضى أهل الريف بما هم فيه من طريق للحياة مسدود، لئلا تنفتح أعينهم على لذائذ العيش في المدينة، أما اليوم وقد سرنا في طريق يجعل القرية مدينة صغيرة، فلم يعد ما يبرر أن يتغنى الشاعر بالريف دون المدينة، ولا يبرر أن يكتب القصصي فإذا هو يرسم شخصيات الريف على أنها البريئة التي لم تفسدها المدنية بعد، هذه وجهة نظر أعرضها، قد تجد من يعارضها من القراء ومن يؤيدها، فلا تكون معارضة المعارضين وتأييد المؤيدين إلا إثباتا لما أزعمه، وهو أننا لسنا جميعا على تصور واضح بعد، ماذا تكون القيم التي ندعو إليها ونحللها ونجسدها فيما نكتب.
فليس رجال الفكر والأدب منا على اتفاق بعد في الأهداف، نعم، إننا جميعا على اتفاق ما دام الأمر أمر أحكام عامة مجردة، لكن اهبط من هذا التعميم والتجريد إلى حيث التفصيلات الجزئية، تجدنا قد تفرقنا شيعا وجماعات، وهل منا - مثلا - من يعارض في أن تكون الاستنارة العقلية - أعني التعليم بكل معانيه - من أولى القيم التي يجب أن نذيعها بكل قوانا؟ لكن سل هذا وهذا وذاك: ماذا تعده وسيلة للتنوير العقلي؟ تجدهم قد تباينوا رجالا ثلاثة: فرجل يجد التنوير في بعث القديم، وثان يجده في الاغتراف من غربي أوروبا، وثالث يجده في الاغتراف من شرقيها، وربما وجدت رابعا يأخذ بالأحوط، فيقول: آخذ من كل شيء بطرف بحيث تجتمع لي الثقافة التي تتناسب مع مشكلاتنا الخاصة وتحدياتنا الخاصة.
وأخلص من هذا كله بنتيجة هي أننا بحاجة شديدة إلى احتكاك الآراء بكل ما استطعنا من حدة الجدل؛ لكي تتبلور في أذهاننا صورة متجانسة عن القيم المطلوبة للعصر الجديد، وعندئذ نصب جهودنا في كل مقال وفي كل قصة وفي كل مسرحية وفي كل قصيدة من الشعر، وفي كل صورة أو تمثال، نصب جهودنا في هذا كله لنوجد في صدور الناس أزمة نفسية يحسون بها ضرورة الانتقال في دنيا القيم كما انتقلوا في دنيا العمل، حتى لا يستنيموا للازدواج القائم أمدا طويلا.
بأي فلسفة نسير؟
هي خطوات ثلاث يخطوها الإنسان - فردا أو جماعة - ليكتمل له النضج والوعي، وقد يقف عند أولاها، أو عند ثانيتها، فلا يكون له من النضج والوعي إلا بمقدار ما خطا، أما الخطوة الأولى فهي التي يخوض فيها غمار الحياة العملية: يزرع أو يصنع أو يتاجر فيما قد زرع أو صنع، يعلم أو يتعلم، يجد أو يلهو، يخوض فيها غمار هذه الحياة العملية خوضا موفقا هنا مخفقا هناك ... لأنه وقع هنا على الفكرة الصائبة، وأخطأها هناك، لكنه في كلتا الحالتين لا يستطيع أن يضع إصبعه على الفكرة المنبثة في عمله، بل هو لا يعرف أن في تضاعيف عمله قد انبثت فكرة، تلك هي الخطوة الأولى التي يلتف فيها الفكر في ثنايا العمل فلا يظهر قائما وحده، وأما الخطوة الثانية فهي حين يعن للإنسان أن يسترجع تلك المناشط التي نشط بها في دنيا العمل، ليتأملها لعله مستخرج منها ما كان قد انطوى فيها من أفكار، لقد أقام جدران بيته عمودية حتى لا تنهار، لكنه لم يتنبه عندئذ إلى فكرة «الزاوية القائمة» التي تقع بين سطح الأرض والجدار، وكان قد زرع القمح في أرضه، لكنه لم يفرغ عندئذ ليبحث في الزرع كيف يغتذي بعناصر الأرض وكيف ينمو ويثمر، وربما كان قد مرض أثناء ذلك، بل ربما كان قد أدرك أن الذي أمرضه هو بعوضة حطت على جسده، لكنه لم يخل لنفسه يومئذ ليستخلص العلاقة بين البعوضة والمرض، وأما الآن فقد عن له أن يسترجع أوجه حياته العملية ليخرج منها الأفكار التي كانت مطوية فيها، حتى إذا ما تكاثرت بين يديه وتنوعت أخذ في تصنيفها وتبويبها علوما علوما، فهذا علم الرياضة الذي يبحث في الخطوط والزوايا والمثلثات، وهذا هو علم النبات الذي يبحث في الزرع كيف يتغذى وينمو، وذلك هو علم الطب الذي يبحث في المرض وكيف يعالج، وبينما يكون الإنسان في هذه المرحلة التي يستخرج فيها الأفكار من ثنايا الحياة العملية ليقيمها في عالم وحدها هو عالم العلوم، أقول إنه بينما يكون الإنسان في هذه المرحلة الفكرية، ترى أقدار الناس قد تفاوتت درجات، فبعضهم يكفيه أن نصنف الأفكار علوما، ولكن بعضهم الآخر قد تأخذه النشوة فيمضي في هذا التجريد - أعني استخراج الفكرة من العمل الذي كانت تجسدت فيه - يمضي في هذا التجريد مرحلة أخرى وراء العلوم، يتناول فيها تلك العلوم نفسها ليستخرج من مبادئها وقوانينها مبادئ أعم وقوانين أشمل، فيكون عندئذ في مرحلة فكرية هي التي نسميها بالفلسفة.
صفحة غير معروفة