هذا الفارق الذي يفصل - في حياة الإنسان الواحد - بين قواعد حياته العملية من جهة، ومبادئ حياته الخلقية والجمالية من جهة أخرى، أو إن شئت عبارة أخرى، فقل إنه الفارق الذي يفصل - في حياة الإنسان الواحد - بين نظرته العلمية ونظرته الفلسفية، فبالنظرة الأولى يخضع للواقع ويخضعه، وبالنظرة الثانية يجاوز دنيا الواقع الماثل إلى سواها مما قد يكون الزمن قد طواه في جوفه؛ أقول إن هذا الفارق هو الذي يشار إليه عندما يوصف إنسان العصر الحاضر بالقلق والضياع، فيقلقه أن يرى عقله في ناحية وقلبه في ناحية أخرى، ويلقي به في متاهات الضياع ألا يجد بين يديه من القيم والمبادئ ما يؤمن به إيمانا لا يزعزعه أن يراه متنافرا مع حقائق الواقع الذي يعيش فيه راضيا أو كارها.
وأمام هذين الشطرين: الحياة العلمية المتصلة بدنيا العمل والإنتاج من جهة، والحياة الوجدانية المتصلة بعالم المبادئ والقيم من جهة أخرى، ليس لنا الخيار فيما نأخذ وما نترك؛ إذ لا بد لنا - إن لم يكن بحكم العقل الصرف، فبمقتضى شواهد التاريخ - أن نبقي على ضرورات الحياة العلمية العملية، ثم نقسر الشطر الآخر - شطر المبادئ والقيم - على أن يغير من نفسه ليلائم الحياة الجديدة، والسعيد من الأفراد والأمم هو من جاءت معه هذه الملاءمة في أقصر أمد مستطاع، حتى تزول المعوقات من طريق التقدم الحضاري. وإنه لجدير بنا في هذا الموضع من الحديث أن ننبه الأذهان إلى أن «المبادئ» و«القيم» إن هي إلا أدوات للوزن والقياس - كالأقة والرطل والمتر والياردة بالنسبة للأشياء المادية - فلا يزكيها إلا ملاءمتها للمرحلة الحضارية التي يجتازها الإنسان، مضافا إلى ذلك ملاءمتها لأن تكون حافزا يحفزه إلى المرحلة التي تليها.
ونحن اليوم في مرحلة انشطار مخيف بين حاضر ماثل، واقع، ضاغط بكل ثقله على حياة العمل والإنتاج، وماض متلكئ ببقاياه في أذهاننا، متمثلا في مجموعة من الأفكار، هي التي تؤلف لنا وجهة النظر ... إننا نعيش مع «علم» القرن العشرين ب «فلسفة» تنتمي إلى قرون ماضية، أخشى أن أرتد بها إلى القرن العاشر الميلادي، أو قبله بقليل أو بعده بقليل؛ هذا بالنسبة إلينا نحن العرب، وإلى القرن السادس عشر بالنسبة إلى أوروبا، ذلك أن أوروبا في القرن السادس عشر كانت قد اجتازت - تقريبا - مرحلة التفكير الوسيط إلى مرحلة علمية تمثلت في جاليليو ونيوتن من الناحية العلمية، وفي فلسفة ديكارت من الناحية الفلسفية، وها هي ذي اليوم في دور اجتياز لهذه المرحلة، بحيث أصبح لها من العلم الطبيعي ما جاوز علم نيوتن، ومن الفلسفة ما خرج على فلسفة ديكارت، وأما نحن فحين دخلنا في عصر نهضتنا خلال السنوات المائة التي تمتد من أواخر القرن الماضي إلى أواخر هذا القرن - إذ لم يبق من هذا القرن إلا ثلثه - كانت النظرة الفلسفية التي تتحكم فينا هي نفسها التي سادت عصورنا الوسطى، بما فيها من ارتفاع وهبوط، فإذا ما هم دارس منا أن ينقل المرحلة الديكارتية من التفكير الأوروبي، عد مجددا، فما بالك بالذي ينقل ما بعد الديكارتية من نظرات وأفكار؟
إن رجال الفكر عندنا واجبهم مضاعف، إذا قيسوا إلى رجال الفكر في بلاد أخرى سبقتنا إلى النهوض بثلاثة قرون على الأقل، فلا جدال في أن «العلم» الذي نسايره هو علم القرن العشرين بكل ما يقتضيه من تقنيات (تكنولوجيا) وتصنيع، لكن الذي قد يثير جدالا، هو: ماذا تكون «الثقافة» التي نتثقف بها بحيث تتم الملاءمة بينها وبين العلم الحديث؟ بعبارة أخرى: ما هي «الفلسفة» التي نشيع بها نظرة عامة تتفق مع عصر الطبيعة الذرية وعصر التصنيع؟ أغلب الظن أننا مضطرون إلى امتصاص المراحل الفلسفية التي سبقت، لتتوافر لدينا «الأرضية» التي يمكن أن نقيم عليها النظرة الفلسفية المعاصرة للعلم الذري؛ لأننا لو اكتفينا بهذه الفلسفة الأخيرة دون مقدماتها التي تطورت عنها، فربما جاءت مبتسرة مبتورة يتعذر هضمها، وإذن فلا بد لنا من دراسة المرحلة الديكارتية التي أزالت أسس العصور الوسطى ومناهجها، ومن دراسة المرحلة الجديدة التي جاءت تحمل نظرة جديدة غير النظرة الديكارتية السابقة.
وخلاصة القول إن ثمة نظرات ثلاثا إلى العالم، انعكست في ثلاث مراحل فلسفية تعاقبت على مر الزمن، أستطيع الآن أن أجازف بأوصاف تميزها، فأقول إن النظرة الأولى كانت توجه اهتمامها إلى الكيف دون الكم، والنظرة الثانية كانت توجه اهتمامها إلى الكم دون الكيف، والنظرة الثالثة (وهي نظرة عصرنا الراهن) تحاول الجمع بين الكم والكيف على نحو يجعل اختلاف الكيف وليد اختلاف الكم؛ النظرة الأولى تتمثل في أرسطو، والثانية في ديكارت، والثالثة في فلاسفة التطور المعاصرين - ماركس، بيرجسون، هوايتهد، صموئيل ألكسندر وغيرهم - فإذا سئل أرسطو - مثلا - ماذا يميز الأنواع بعضها من بعض، ماذا يميز الإنسان من الحيوان، أو الحار من البارد، أو الذكاء من الغباء، أو اللون الأبيض من اللون الأسود، أو حكومة الفرد من حكومة يشترك فيها الشعب كله، أو ما شئت من هذا القبيل، أجابك بخصائص «كيفية» خالصة، كأن يقول مثلا إن الإنسان يتميز من الحيوان ب «النطق» والحار يتميز من البارد ب «الجفاف واليبوسة» وهكذا، أما إذا سئل أحد الديكارتيين مثل هذه الأسئلة، لجأ إلى «التحليل» الذي يفك كل فكرة من هذه الأفكار إلى عناصرها البسيطة، لنرى بأية «نسبة» ركبت هذه العناصر بعضها على بعض بحيث تكونت الفكرة المركبة آخر الأمر، فاختلاف الكيف مردود إلى زيادة النسب أو نقصها، وأما فلاسفة التطور المعاصرون، فيجعلون الخصائص الكيفية وليدة الزيادة في الكمية أو النقص فيها، لكنك إذا ما وصلت في الصعود (أو الهبوط) مرحلة كيفية جديدة، فلا سبيل إلى ترجمتها إلى كمية من هذا العنصر أو من ذاك، لأنك ستكون عندئذ قد انتقلت إلى مستوى جديد.
النظرتان الأولى والثانية، النظرة الأرسطية والنظرة الديكارتية على السواء، تتفقان في ثبات الخصائص التي تميز الكائنات على اختلافها، فخصائص الكائن المعين - وهي كيفية عند القدماء، كمية عند الديكارتيين - ثابتة على طول الزمان، لا يطرأ عليها تغير، فالإنسان هو الإنسان لا يغير من طبيعته اختلاف ظروفه، وأما النظرة الثالثة - وهي نظرة العصر الحاضر - فتختلف عن الأوليين في إصرارها على مبدأ التغير الذي لا يدع الحقيقة الواحدة ثابتة على صورة واحدة.
والنظرات الثلاث جميعا قائمات على قياس المماثلة والتشبيه في تصورها للعلم الطبيعي، فالنظرة القديمة اليونانية تقيم علمها بالطبيعة على مشابهة بين العالم الأصغر (الإنسان) والعالم الأكبر (الكون) فما يراه الإنسان في مجرى شعوره الداخلي، يخلعه على الطبيعة بأسرها، ففي الطبيعة «عقل» لأن فيه «عقلا»، وللطبيعة غايات لأن له غايات، وهكذا، والنظرة الديكارتية - نظرة عصر النهضة الأوروبية - تقيم علمها بالطبيعة على مشابهة بين صنعة الله في خلقه وصنعة الإنسان للآلات، وأما النظرة الراهنة السائدة في عصرنا، فهي تقيم علمها بالطبيعة على أساس المشابهة بين الطبيعة كما يدرسها العلماء، والتغيرات التي تطرأ على الحياة الإنسانية كما يدرسها المؤرخون؛ أي أن للطبيعة سيرة وتاريخا كما أن للإنسان - فردا أو جماعة - سيرة وتاريخا.
ولا شك أن نظرية التطور البيولوجي، وشيوعها في عصرنا، واتساع مجال تطبيقها، قد أكدت هذه النظرة «التاريخية» لحقيقة العالم، ومن نتائج نظرة كهذه أن نصف بالتغيير المستمر كل كائن وكل فكرة مهما تكن طبيعته أو طبيعتها، فلئن كان الأقدمون يقسمون الكائنات والأفكار قسمين: أحدهما ثابت لا يطرأ عليه التغير، والآخر متحول متبدل، بل كانوا بالإضافة إلى هذا التقسيم يجعلون الأفضلية للقسم الأول؛ لأنه وحده هو مجال البحوث العلمية - ما دام العلم يستهدف القوانين الثابتة التي لا تتأثر بظروف المكان والزمان - وأما الكائنات المتغيرة - ومنها المحسوسات بالبصر والسمع وغير ذلك - فلأنها لا تثبت على حال واحدة، فليست هي بذات أهمية تذكر بالنسبة إلى التفكير العلمي بمعناه الصحيح ... أقول لئن كان القدماء قد قسموا الكائنات هذا التقسيم، فإن النظرة المعاصرة تقتضي أن ندرج القسم الأول في القسم الثاني، لنجعل كل شيء متغيرا متحولا متطورا.
نعم إن الأقدمين - شأنهم في ذلك شأننا - كانوا يرون بحواسهم أن الأشياء متغيرة، فهم يتحركون بأجسادهم من مكان إلى مكان، ويزرعون الأرض فيكبر الزرع وتتحول عناصر التربة إلى ثمر، ويتبخر الماء لينعقد في السماء سحابا، ومن السحاب ينزل المطر، وهكذا وهكذا مما يدور حولهم من أحداث، لكن هذا التغير البادي أمام حواسهم، لم يصرفهم عن البحث «وراءه» عما هو ثابت ذو دوام، فإن كانت هذه «الشجرة» التي أراها، تتعرض للتغير في ظواهرها، فإنني إنما أبحث عن حقيقة الشجرة الكامنة وراء تلك الظواهر، ولا بد أن أقع في نهاية البحث على «جوهر» - هكذا كانوا يسمون الجانب الثابت الدائم من الشيء - لا بد أن أقع على «جوهر» يدرك العقل وجوده، وإن لم تدركه الحواس، وما تقوله في الشجرة تقوله في كل شيء آخر بما في ذلك الإنسان نفسه، فإذا كان ما يبدو للعيان منه حركة و«شكل» ولون وغير ذلك من «ظواهر» فإن له بغير شك «جوهرا» ثابتا هو الذي ينبغي أن نبحث عنه وراء تلك الظواهر، فإذا وجدناه كان هو حقيقته التي تخلع على شخصيته وفرديته طابعها الأصيل الدائم.
وإن نظرة كهذه لمن شأنها حتما أن تؤدي إلى تصور «للفردية» قد يبلغ أقصاه في فلسفة ليبنتز، الذي زعم أن جميع الكائنات «أفراد» مغلقة على نفسها، بحيث يصبح كل فرد - إنسانا أو غير إنسان - وكأنه قلعة مصمتة الجدران بغير نوافذ تصل داخلها بخارجها، ومن أين تأتي النوافذ إذا كان كل منا «جوهرا» قائما بذاته؟ أنت روح وأنا روح، أو أنت عقل وأنا عقل، أو أنت نفس وأنا نفس، وكل منا ذو كيان مستقل لا يؤثر في غيره ولا يتأثر به، نعم إننا قد نبدو وكأن أحدنا «يكلم» الآخر أو «يتعامل» معه في هذا الشأن أو ذاك، لكن هذا كله التقاء ظواهر بظواهر وقد قلنا إن الظواهر متغيرة، ونحن - في رأيهم - نبحث وراءها عما هو ثابت دائم، وتستطيع أن تصور لنفسك موقفا وصلت فيه «الفردية» - انبثاقا من الفلسفة القديمة والفلسفة الديكارتية على السواء - حدها المتطرف، يجعل الناس مجموعة من الأشرطة السينمائية، كل شريط منها ملفوف على قصة، وما على الأيام إلا أن تبسط هذا الشريط أو ذاك، فيخرج من جوفه ما كان كامنا فيه من أحداث، دون أن يكون لبسط هذا الشريط أي أثر في القصة الكامنة في الشريط الآخر.
صفحة غير معروفة