ولكن الذي يريد التحليل والتوضيح هو تحديد المشكلة التي نجعلها مدار الفكر والعمل، ونجعل حلها هدفنا الأخير، وإنه لهدف يساعد على الوصول إليه «وضوح المسائل التي لا بد من تحديدها تحديدا قاطعا وملزما في هذه المرحلة من النضال العربي» (الميثاق).
إن ثمة موازاة بين تكوين الفرد وتكوين المجتمع، حتى لنقول عنهما إنهما جملة واحدة كتبت في الفرد بأحرف صغيرة وكتبت هي نفسها في المجتمع بأحرف كبيرة، وإنك لتستطيع أن تفهم الفرد على غرار ما تراه في تكوين المجتمع، كما تفهم المجتمع على غرار ما تراه في تكوين الفرد، ويتوقف أمر الأسبقية على نوع المشكلة المعروضة، وقديما فهم أفلاطون في جمهوريته - معنى العدل في الفرد الواحد على ضوء فهمه لمعنى العدل في المجتمع؛ لأن هذا المعنى أوضح في العلاقات بين أبناء المجتمع منه في العلاقات الداخلية الكائنة بين مقومات الفرد الواحد، لكننا هنا نعكس الوضع لنفهم الجماعة على ضوء فهمنا للفرد الواحد، ولك أن تسأل نفسك: ما الذي يجعل مني فردا متكامل التكوين موحد الشخصية؟ لتجد أن الجواب هو ما أسلفناه لك في تحليل مستفيض، وهو أن الذي يجعلك كذلك وحدة الهدف وما تستتبعه بالضرورة من وحدة التفكير، وإذن فعلى هذا الأساس نفسه يكون الجواب على من يسأل - إذا كان هناك من يسأل - ما الذي يجعل من الأمة العربية أمة واحدة متكاملة التكوين موحدة الشخصية؟ إذ الجواب هنا أيضا هو: أن الذي يجعلها كذلك هو وحدة الهدف وما تستتبعه بالضرورة من وحدة التفكير.
يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟
إنني ها هنا لكمن يحمل في يده سراجا، ليدخل به غرفة مظلمة، تناثرت فيها الأشياء من كل صنف: أثاث وثياب، وكتب، وعدد وآلات، فيجعل همه - أول الأمر - أن يصنف هذا المحتوى المختلط بعضه ببعض، والمتداخل بعضه في بعض، وذلك بأن يضع الأثاث في أماكنه، ثم يجمع الثياب وحدها، والكتب وحدها، وكذلك العدد والآلات، ليعود بعد ذلك إلى الثياب فيصنفها: القمصان هنا، والمناديل هنا؛ وإلى الكتب فيرتبها: هنا الفلسفة، وهنا التاريخ؛ وهكذا، يفعل كل ذلك على ضوء السراج، ليعلم أولا - ماذا تحتوي عليه الغرفة، قبل أن يتاح له اختيار هذا دون ذاك، فحسبه الآن أن يعلم، ليجيء اختياره بعدئذ على بصيرة وهدى.
والحق أني لفي عجب أشد العجب، ممن يجدون في أنفسهم الجرأة على القذف بكلمات يحملونها أضخم المعاني، بغير أن يكونوا على بينة - ولو إلى حد محدود - مما يقولون ويكتبون، ألا إن الإيمان الذي لا ينبني على وضوح العقيدة التي نؤمن بها، لهو إيمان إن صلح على الإطلاق فلطائفة من الناس لا تريد أن تشغل أنفسها بما قد يعوق سير الحياة العملية، لكن الحياة العملية ذاتها تقتضي - دائما - أن يتمهل نفر إلى جانب الركب السائر، ليلقي الأضواء العقلية على الأفكار نفسها التي اتخذها الركب السائر محاور الدفع والحركة، ولماذا؟ ليكون ذلك بمثابة النقد الذاتي، الذي يصحح التصورات العقلية على هدى من تفصيلات التنفيذ العملي، وهكذا يسير الفكر والعمل رأسا إلى كتف.
و«اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما يستعملان على نطاق واسع للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص: فهذه الفكرة من اليمين، وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك، وهذا الرجل وذاك، ولقد تساءلت - مخلصا لنفسي السؤال والبحث عن الجواب - ماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي إذا ما توافرت في شخص أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ ولما حاولت الإجابة، وجدت الأمر أعقد من أن تجيء إجابة سريعة أطمئن إلى صوابها؛ ذلك لأنه لو كانت التفرقة مقصورة على يمين في ناحية، ويسار في ناحية، لما كان للتقسيم مغزى عند من تعنيه الآثار الفعلية للأفكار النظرية، لكنني ألاحظ أن ثمة صفتين أخريين - على الأقل - تلحقان باليمين على أقلام الكاتبين، كما تلحق النتيجة بمقدمتها، وأن ضديهما كذلك يلحقان باليسار، فإذا هم وضعوا رجلا في زمرة اليمين، وصفوه في الوقت نفسه بالرجعية وباللاعلمية في وجهة النظر؛ لأن اليسار وحده - هكذا ألاحظ في الاستعمال الجاري - هو التقدمي وهو العلمي، وإذا كان هذا هكذا، فليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد.
وأول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر إلى هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يتخارج هذان القسمان تخارجا تاما، كما يتخارج الذهب والنحاس، فلا يكون الذهب نحاسا ولا النحاس ذهبا، أو هما متداخلان، كما يتداخل الشعر والموسيقى في شيء واحد بعينه - هو الأغنية - تداخلا يجيز لك أن تعد الأغنية شعرا إذا شئت، وأن تعدها موسيقى إذا شئت لأنها شعر وموسيقى في آن واحد؟ ذلك أنه يقال - فيما يقال عن أوجه الاختلاف بين العلم والفلسفة، عند من يمايزون بينهما في الأسس - إن قسمة الأنواع في العلم متخارجة، على حين أن قسمتها في الفلسفة متداخلة، ففي العلم إذا قلت عن شيء إنه أوكسجين لم يعد يجوز لك أن تقول عنه في الوقت نفسه إنه هيدروجين، لاختلاف الخصائص المميزة بين هذا وذاك، اختلافا يفصل أحدهما عن الآخر فصلا تاما، وأما في الفلسفة، فإذا قلت عن شيء إنه موجود، فقد يجوز لك أن تقول عنه في الوقت نفسه إنه معدوم؛ لأن الوجود والعدم يتداخلان في حالات تجمع بينهما في آن واحد، هي حالات «الصيرورة» والتغير، بحيث يكون الكائن الواحد المتغير موجودا ومعدوما معا ... وأعود فأقول: إن أول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر في هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يجعلون هذا التقسيم على أساس «علمي» يفصل اليمين عن اليسار في الفكر فصلا كاملا، بحيث يصبح محالا على من اتصف بصفات الفكر اليميني أن يتصف كذلك ببعض صفات الفكر اليساري، أو هم يجعلونه تقسيما على أساس «فلسفي» يجيز أن يجتمع الضدان معا في كائن واحد؟
وإنما اهتممت بهذا السؤال في بدء الحديث؛ لأن قسمة الفكر إلى يمين ويسار مرتبطة في الأذهان ارتباطا وثيقا بموقفين متضادين في مجال الاقتصاد والاجتماع، فالاقتصاد الاشتراكي من جهة، والاقتصاد الرأسمالي من جهة أخرى، بما يتبع هذا التقسيم من تصورين مختلفين للعلاقة بين الفرد والمجتمع، الأول يسار والثاني يمين على سبيل الاصطلاح المتفق عليه، وإلى هنا تكون القسمة مفهومة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، لكن سؤالنا هنا هو: هل تمتد هذه التفرقة عينها إلى سائر جوانب الحياة الفكرية، بحيث تشمل الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ وهل تكون هذه التفرقة عندئذ واضحة المعالم وضوحها في مجال الفكر الاقتصادي والاجتماعي؟ ألدينا من معرفة الخصائص المميزة لليمين واليسار في نواحي الفكر، ما يجعلنا ننظر في فلسفة ابن رشد وفلسفة الغزالي - وهما كما نعلم متعارضان - فنقول أيهما في اليمين وأيهما في اليسار؟ وما يجعلنا ننظر في فن العمارة بمسجد ابن طولون، وفي هذا الفن في مسجد السلطان حسن - وهما متباينان - فنقول أي الفنين يمين وأيهما يسار؟ هل يعد زهير شاعرا تقدميا لأن شعره هادف، ويعد ذو الرمة شاعرا رجعيا لأنه معني بتصوير ما يشاهده تصويرا لا يهدف من ورائه إلى شيء غير جمال الصورة ... إنني لأعلم أيقن العلم بأن جماعة ستقرأ هذه التساؤلات ليأخذها الضحك الساخر من هذا الكاتب الجاهل، الذي لا يحسن أن يلقي الأسئلة في مواضعها، أو ليأخذها الضيق من هذا المفكر «الشكلي» - فهنالك من النقاد من لا يفترون عن رميي بهذه الصفة على أنها أشنع ما يعاب به مفكر - الذي يهتم بالشكل الصوري للمسائل دون مضمونها الحي، وليغفر لي الله وليغفر لهم، فدأبي هو التماس الوضوح، والوضوح قد يقتضي تعرية الأشكال عما يبهمها، ودأبهم هو أسلوب الخطابة المؤثرة، حتى لو بنيت هذه الخطابة على غير معنى مفهوم، تتغير له حياة الناس من ملبس ومأكل ... نعم قد تثير هذه التساؤلات ضحك من لا يؤرقهم غموض المعاني، وقد يقولون: لقد ذكرت لنا يا رجل أناسا ممن لا يطوف ببالنا أن ندخلهم في تقسيماتنا؛ لأننا نوجه أنظارنا نحو المعاصرين دون الغابرين، بل لعل الالتفات إلى الغابرين بكل ما قد تراكم عليهم من غبار أصبحوا من أجله غابرين، هو في حد ذاته «رجعية» لا نرضاها، لكنني أستطيع أن ألقي الأسئلة نفسها بالنسبة إلى رجال الثقافة المعاصرين، فأجدني في الحيرة نفسها: هل كان محمد عبده في «رسالة التوحيد»، ولطفي السيد في «المقالات»، وطه حسين في «الأيام»، والعقاد في «سارة»، وتوفيق الحكيم في «أهل الكهف»، من اليمين أو من اليسار؟ ماذا عن فن محمود سعيد في لوحاته ومختار في تماثيله، هل كانا إلى يمين أو إلى يسار؟ ... أسئلة أطرحها - أمام نفسي وأمام القراء - استثارة في نفسي وفي أنفسهم للرغبة في تحديد هذين المفهومين الخطيرين، لأنتقل إلى شيء من التفصيل.
وأبدأ بالفلسفة فأقول إنها - كما هو معلوم عند دارسيها - تتخذ إحدى وجهتين رئيسيتين (لكل منهما تقسيمات وفروع)، إحداهما «مثالية» والأخرى «تجريبية»، وأساس القسمة هو تحديد العلاقة بين الإنسان العارف والشيء المعروف، فهل يعرف الإنسان حقيقة العالم بفكره المحض، أو أن الحواس من بصر وسمع وغيرهما ضرورية في توصيله إلى تلك المعرفة؟ أما المثاليون فيقولون إن الفكر البحت وحده كاف لإدراك الحق، وأما التجريبيون فلا يرون كيف يتم إدراك بغير الحواس أولا، إن لم يكن أولا وأخيرا معا، وواضح أنك إذا أخذت بوجهة النظر الأولى، تحولت الحقائق كلها عندك إلى «أفكار»، وإذا أخذت بوجهة النظر الثانية، تحولت تلك الحقائق إلى «أجسام مادية» لأن هذه الأجسام وحدها هي التي يمكن أن تدرك بالحواس، لكنك لا تكاد تأخذ بإحدى وجهتي النظر هاتين، حتى تطبق عليك حلقاتها حلقة وراء حلقة؛ لأنها جميعا نتائج يلزم بعضها عن بعض، فلو أخذت بوجهة النظر المثالية، كان حتما عليك أن تأخذ بواحدية الكون؛ لأنه إذا كانت الكائنات كلها هي «أفكار» في رأسك عنها، ثم إذا كانت هذه الأفكار، حين نضم بعضها إلى بعض، تكون فيما بينها بناء متسقا موصول الأجزاء (ولا بد أن يكون الأمر كذلك، لأنه لو رفضت فكرة من الأفكار أن تتسق مع سواها، كان معنى ذلك أن هنالك فكرتين متناقضتين عن شيء واحد، كأن نقول عن شكل هندسي ما إنه مربع ومثلث معا، وهو محال) إذن فالوجود «واحد» وإن تعددت أجزاؤه؛ لأن ذلك يكون كما تتعدد الأجزاء في الكيان العضوي الواحد، وأما لو أخذت بوجهة النظر التجريبية فإنه يجوز لك عندئذ أن ترى العالم كثرة، لا يتحتم أن يكون بينهما رباط يوحدها، إذ من أين يأتي الرباط، وأنت لا تدري عن العالم إلا إدراكات حسية كثيرة تجيئك من حواس مختلفة: فهذه رؤية بالعين لشكل أو لون، وذلك سمع بالأذن وهكذا.
فكونك موحدا للعالم أو معددا، نتيجة تلزم عن اختيارك الأول لطبيعة «المعرفة » أهي عملية عقلية بحت، أم هي عملية تبدأ بانفعال الحواس (والحواس أجزاء من مادة البدن)؟ لكن الأمر لا يقف بك عند هذا الحد، بل إنه سرعان ما ينقلك إلى وضع الفرد الإنساني بالنسبة إلى المجموع، فالتوحيد عند المثاليين يقتضيهم أن يجعلوا الفرد خاضعا للمجموع خضوع العضو الواحد في جسم الإنسان للكيان العضوي في مجموعه، وعندئذ لا يكون الفرد حرا في اختيار موضعه من التخطيط الفكري العام، الذي يشمله ويشمل معه سواه - ولك أن تراجع مثلا جمهورية أفلاطون، لترى كيف يخضع الأفراد لما يخططه العقل - وأما التعدد عند التجريبيين فمن شأنه أن يؤدي بأنصاره إلى القول بحرية الفرد الواحد مستقلا عن غيره؛ لأن المجتمع عندئذ لا يكون كائنا عضويا واحدا، بل يكون مجموعة من أفراد تعاقدوا معا على العيش في حياة مشتركة.
صفحة غير معروفة