والجمال يشغل العالم كله، ولكنه يتفاوت، ولعل أجمل الأشياء هم أطفال الإنسان والحيوان، ففي طفل الإنسان عالم من الجمال قد انطوى في جرم صغير كأنه العطر يجمع من حقل من الورد في قنينة صغيرة، ففي جسم الصغير حكمة الآباء وتاريخ الملايين من السنين، وفي نفسه تشوف الإنسان إلى المستقبل ورغبته في السمو والنزوع إلى التقدم. بل يكاد الطفل يكون أحد الأصول في بزوغ حاسة الجمال عندنا، فإن لفظة «لطيف» التي تعني الآن الجميل لم تكن تعني في أصل وضعها سوى الصغيرة؛ وذلك لأننا نستجمل كل شيء وكل مخلوق صغير.
بل طفل الحيوان نفسه لا يقل جمالا عن أطفال الإنسان، فقلوبنا تظفر إليه حبا وحنانا، فما نرى حملا أو جروا أو خنوصا حتى نحنو عليه ونمسحه ونتأمل تلك السذاجة في وجهه وهذا الاستسلام البريء لنا في حركاته ونظراته فنعشقه ونحوطه بعنايتنا وخدمتنا، ونحميه من كل ما يؤذيه.
ولكن نعود فنقول إن الجمال «ذاتي» فنحن لا نستجمل العالم وكائناته إلا بمقدار ما في نفوسنا من جمال؛ ولذلك فأجملنا نفسا هو أكثرنا استمتاعا وأكثرنا حبا وأبعدنا عن الكراهة.
وإذا كان الإحساس بالجمال والإحساس بالحب طبيعتين فإن التربية تزيدهما، كالرقص يعلمنا الرشاقة في المشي أو كالخطابة تعلمنا إجادة الإلقاء، فيجب أن نربي أنفسنا على التفتيش عن الجمال ونقمعها عن الحقد والكراهية.
الفصل الخمسون
سعة الصدر وحاجتنا إليها
ربما كانت سعة الصدر من أهم علامات الرجل المهذب الذي تثقف بمختلف الآداب والعلوم، كما هي أيضا من أهم شروط الحضارة، فالرجل الذي غذا نفسه، وثقفها، ووقف على آراء المتقدمين والمتأخرين، لا يسعه أن يتعصب لفكرة سوى الفكرة القائلة بحرية الرأي، أي القائلة بعدم التعصب، فهو يستطيع أن يتحمل كل نقد ويتسامح فيه لأنه لسعة ثقافته قد وقف على آراء الكثيرين المختلفين وقدر وجهات نظرهم وعرف حسناتها كما عرف سيئاتها. أما الرجل الجاهل فيتعصب لرأي أو فكرة ويحتد في الدفاع عنها لأنه قاصر عن الوقوف على وجهات النظر التي تخالفه.
وسعة الصدر أيضا من الشروط اللازمة للحضارة، وهي هنا تسمى التسامح، فليست تقوم في العالم حضارة بلا تسامح، وذلك لأن الأمة بطبيعتها تنقسم في الآراء والمذاهب طوائف متباينة، فإذا لم تسامح هذه الطوائف، وإذا لم ترض لغيرها بالوجود كما ترضى لنفسها به، فإن التعصب يدفعها إلى التناحر الذي قد ينتهي بحرب أهلية فيها فناء الأمة وحضارتها، والتسامح هو الرضى بالآراء المخالفة ولو كان في التصريح بها ما يؤلمنا بعض الألم، فكل منا بطبيعته غيور على أن يرى آراءه الشخصية أو الطائفية فاشية حوله، ولكن لا يمكن أن تقوم حضارة حتى تتسع صدورنا لآراء الغير الشخصية والطائفية، ولو كنا نشعر ببعض الألم أو قد يصيبنا قليل من الأذى لنشرها. أي أننا يجب أن ننزل عن شيء من مصالحنا تسامحا ومحافظة على الحرية الفكرية.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بالتسامح في النقد، نتقبله دون احتداد أو شكاية ما دامت النية حسنة والغاية المنشودة هي الخير، بل يجب علينا أن تتسع صدورنا للنقد وتعده عاملا من عوامل التقويم؛ لأن الإنسان مفطور على الزهو والغرور فإذا قرأ نقدا من أحد الخصوم رأى نفسه كما يراه غيره فينقشع عنه الزهو ويقيم من نفسه ما اعوج، وقد نتألم لهذا النقد ولكن النظر الصادق للمصلحة يجب أن يزيل هذا الألم.
وهنا يجدر بنا أن نقول إن الأحرار، أو الحريين، الذين لا تخلو أمة من حزب لهم في أوروبا إنما يقصدون من هذه اللفظة السخاء وسعة الصدر كما يقصدون منها الحرية، فحزب «الأحرار» هو حزب الأسخاء الذين يقولون بعدم الضن بالإصلاح على الطبقات الفقيرة، فالرجل الحر ليس هو الذي يطلب الحرية لنفسه فقط بل هو أيضا ذلك الذي يحس بالأريحية وسخاء النفس وسعة الصدر، ومثل هذا الرجل ضروري لكل هيئة اجتماعية راقية.
صفحة غير معروفة