ولعل أظهر واحد من هذه الطائفة وأكثرهم جهادا هو المستر ولز الإنجليزي، فلست أعرف رجلا آخر قد تلظى بنار الحيرة ثم اهتدى إلى ربه وسكن إليه، مضى عليه أكثر من عشرين سنة وهو يحاول أن يستخلص من لباب نفسه إيمانا يقفه من الكون على علاقة ترضي ضميره وعقله، ولست أظن أن كثيرين من الذين يقرءون المجلدات الأربعة التي وضعها في هذا الموضوع يهتدون بهديه أو يقنعون بدينه، ولكني أعتقد أن هذا الرجل يبدي من الشرف والشجاعة والإخلاص ما هو جدير بكل إنسان.
ولسنا نقول إن ولز ينفرد بهذه النزعة، فإن هناك كما قلنا طائفة كبيرة، وهي وإن كان أفرادها دونه ظهورا إلا أنهم ليسوا دونه في الإخلاص والذكاء، وهم جميعهم يكرهون أن يؤمنوا إيمان العجائز، بل يحاولون أن يحققوا للإنسان استقلاله الروحي، ولكن كما أن حديث العهد بالاستقلال في السياسة يتخبط في مبدأ استقلاله فكذلك حديث العهد باستقلال الروح لا بد له من فترة تقضى في التردد والتخبط والظلام ثم ينجلي كل هذا عن نظام نور ويقين.
وهذه الطائفة تحاول أن تؤمن، وكثيرا ما تؤمن، وإن كانت في نظر الناس معدودة من «الكفار»، وهي كافرة بالفعل بتلك العقائد التي ورثها العالم عن قدماء المصريين والآشوريين والفرس، ولكن إخلاصها لنفسها وللعالم يدعوها إلى النظر في الكون نظرا صريحا، وإلى محاولة حل هذا اللغز حلا تسكن إليه.
فنحن إذا نشدنا الاستقلال الروحي فإنما ننشده للغريزة الدينية التي في نفوسنا، وليس في ذلك تنطع أو استهزاء بالآراء، وإنما هي الإنسانية قد بلغت سن الرشد وتأبى أن يقام عليها وصي من الخارج؛ لأنها تحس أن هذا الوصي قائم في داخل نفوسنا، وهي ترى من الرجولة أن تتحسس وجوده وتحاول الاهتداء إليه.
الفصل السابع عشر
لا جديد تحت الشمس
نكتب هذا العنوان كي ننفيه ونقول إن كل شيء جديد تحت الشمس، وأولئك الذين يدعون دعوى الدوام، وأن الجديد كالقديم، إنما يقولون ذلك ونفوسهم تردد صدى القول القائل بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وأن العالم لا يتطور، ولكن الواقع أن العالم يتطور ويتجدد، وهو اليوم غير ما كان في الأمس، وسيكون في الغد غير ما هو اليوم، وهذا التغير لا يلحق النبات والحيوان وحدهما بل يلحق الجماد نفسه، فإن تاريخ الأرض يثبت تحولها، فقد مضى زمن كانت فيه أميركا جزءا لاحقا متصلا بإفريقيا وأوروبا، ومضى زمن كانت فيه أوروبا مغمورة معظم أقطارها بالثلج، وكانت مصر في وقت ما لا ينقطع عنها المطر صيفا وشتاء، ومضى زمن كان فيه جبل المقطم قعرا للبحر تسبح فوقه الأسماك وينساب عليه المحار، ويقول العلماء الآن إن المادة دائمة التحول لا تهدأ ذراتها عن الحركة، فالجماد نفسه يتجدد تحت الشمس، تنطق بذلك طبقات الأرض الجيولوجية كما ينطق أيضا فحص المادة في المختبرات العلمية.
والنبات أيضا يتحول ويتجدد، فمعظم النبات الذي وقعت عليه عين الشمس قبل عشرة ملايين سنة ليس له وجود على أرضنا الآن؛ لأن نباتاتنا جديدة، وبرهان ذلك أنه عندما وجد الفيل المنقرض الذي يسمى الماموث في سيبيريا، واستخرج من تحت الثلج، فحصت الأعشاب التي في معدته فلم يعرف منها واحد يعيش الآن. ثم هذا الفحم الحجري الذي يستخرج من المناجم كان قبلا نباتا لا وجود له الآن، ونحن هنا لنا في مصر وزارة زراعة من مهماتها أن «تجدد» سلالات القطن، أي توجد أصنافا لم تكن موجودة قبلا تحت الشمس.
أما تجدد الحيوان فمختصر ما يقال فيه إن نظرية التطور قائمة عليه وهي تستمد شواهدها من الحيوانات التي انقرضت والحيوانات التي وجدت، وليس في العالم متحف للتاريخ الطبيعي إلا وفيه عشرات من الحيوان المنقرض.
فالتحول هو الناموس الأصلي للكون كله، فليس فيه شيء باق أو دائم، وإنما كل شيء يتحول تحت الشمس ويتجدد من لحظة لأخرى. حتى أنت أيها القارئ، منذ ابتدائك لقراءة هذا المقال إلى أن تنتهي منه، ستتحول وتتطور لأنك على الأقل ستكون أكبر سنا بجملة دقائق، وإذا اختلف اثنان في السن اختلفت آراؤهما وقوتهما ومزاجهما، وإن يكن ذلك بقدر يسير لا يلحظ بالحواس ولكنه يستنتج بالعقل، فكل شيء إذن جديد تحت الشمس، وكل شيء يتطور حتى الجماد. أجل حتى جبل المقطم والصحراء والنيل، ولكن هذه الأشياء تختلف في سرعة تطورها: فالحيوان يسبق النبات، والنبات يسبق الجماد، والإنسان يسبقها كلها. ثم بعد ذلك نقول إن الأمم الغربية تسبق الأمم الشرقية في التطور، فأنت تسمع مثلا عن تعدد الأزياء وتجددها كل يوم في باريس ولندن وغيرهما، وتقرأ ما يقال من الفكاهات عن ذلك، وتحسب هذا التقلب السريع في الأزياء ضربا من نزق النساء، وقد يكون كذلك، ولكنه أيضا دليل على أن شهوة التطور أشد هناك مما عند الشرقيين، وهذه الشهوة نفسها هي التي تثمر المخترعات والمكتشفات كل يوم، والشرق بجموده لا يخترع ولا يكتشف، والغرب بتطوره يسير قدما نحو الأمام، ويجري الشرق الجامد وراءه بعد أن يمتهنه ويستخدمه، فالواجب الذي يحتمه علينا ناموس الطبيعة الأكبر هو أن نتجدد ونتطور ولا نجمد. يجب أن نجدد أذهاننا بالعلوم وبالنظريات الجديدة، ويجب أن ننظر إلى المستقبل ونفكر في الرقي المطرد والتطور المستمر، ولا نقنع بالنظر إلى السلف والجدود، فإن النمط الذي ساروا عليه في حياتهم قد بلي وانقرض، ونحن في حاجة إلى أنماط جديدة تلائم وجهة النظر الحديث.
صفحة غير معروفة